تشظي الرائحة.. سلطة المكان.. 12 قراءة في رواية ( فخاخ الرائحة ) ليوسف المحيمد محمد الدبيسي
|
قبل ثلاثة عشر عاماً، أصدر يوسف المحيميد مجموعته القصصية الأولى (ظهيرة لا مشاة لها)، أتبعها بمجموعتين قصصيتين، ورواية صدرت عام 2002م بعنوان (لغط موتى).
وهذه الإشارة في محاولة استباقية خارجة عن سياق استنباط قيم الدلالة الفنية، في روايته الصادرة حديثاً بعنوان (فخاخ الرائحة)(1) وللتأكيد على أهمية مران كتابي متجانس، ومؤسس على رؤية تفاعلية، تبرز قدرة الكاتب على تكوين مهاداته السردية ومراحلها المتراكمة، واستنفاد ناتج هذه السنوات من تجربة الكتابة، والمتوجة كصنيع فني بروايته الجديدة.
ذلك أن ما تمنحه مسافة المران الزمني للكتابة؛ من إمكانيات ولياقة في التعامل مع الاجراء السردي واحداثياته في بنى الأمكنة المختلفة، تجعل من روايته (فخاخ الرائحة) عملاً يرتكز على الخبرة الزمنية والفنية، بما يمثله هذا العمل من كونه مفصلاً مهماً في تجربته السردية.
أربعة عشر عنواناً فصلياً تمحورت الرواية عليها، وتماس مع مكانين داخلي وخارجي، واستحضار بيئتين ترتهن لهما تلك الأمكنة في مزاجها الاجتماعي والثقافي، ورائحة تتفاوت تكويناتها بحسب مكان انبثاقها، وشروطها..
تلك الشروط التي تحددها الرائحة، وتجعل منها مسافات واقعية حياتية، يسير وفقها بطل الرواية وشخصياتها المساندة.
سبر لعالم مسحوق.. ضمني ودقيق.. في تفاصيل عالم كبير، ذلك الذي يتخلله (طراد) المستخدم المتقشف، المحمل بوزر ارثه القبلي ووصمته العشائرية.. وبحثه عن منفذ يخفف تبعات ذلك الإرث..!!
(طراد) الذي طوحت به تراتبية المجتمع وغلواء سياجه الشكلي المنحاز إلى عالم الأشياء ، إلى تثوير داخله بالقدر الذي عبرت عنه الرواية..!
(طراد) البطل وسوبرمان (الحنشل) يفقد أذنه في قصة عراك مؤلم مع الذئب الذي انفرد به وحيدا في الصحراء، حيث الحدث النواة الدلالية في تأسيس جذوة الصراع في مستواها المكاني الأول..!
وهي ذات (القصة) النتيجة التي ظلت مضمرة في السياق السردي، ولم تنكشف كإشكالية سببية إلا في نهاية النص، حيث ظل السرد يتوالى والأحداث تسير وتتفاقم، وتتلون صياغاتها بتيمة فقد (طراد) أذنه.. التي أقصيت حكايتها الخاصة إلى الأسطر الأخيرة من الرواية..؟
وحيث تبدأ الرواية من نهاية الحدث وتسرد تفاصيله في خط ارتجاعي، يشاكل بين الأحداث والحوارات، بمنولوج وصفي يتسنم زمام الخط الروائي، بصياغة لغوية منسوجة بمهارة أسلوبية، وتأثيث اللغة بمضمونها الحركي، وبعدها النفسي، بوصف سردي، لاينتهي عند خط الدلالة المفضي إلى تصوير حالة حدثية أومشهد حواري، أو موقف تنتجه شخصية البطل، بل يترك مسافة ترتبط بما بعدها على الخريطة السردية، وتراتب صياغي تستوجبه الدلالة الكلية للأحداث، على نحو يؤصل لديناميتها.
فما بين أربعة عشر مقطعاً نصيا تتناغم دلالات السرد، على نحو لا ينفك يفضي بأبعاده؛ لبناء مشهد وصفي ناطق ببناه الرئيسية: المكان الرائحة الفاعل السردي، والبنية الأخيرة هي رؤية الذات الراوية، ومنطلق ممارستها الحديثة وهي الناتج الدلالي للمكان والرائحة. (فالمكان).. المجسد الجغرافي المنصوص على هويته وتفاصيله البيئية. و(الرائحة).. فعل الحاسة وصيرورتها لالتقاط الأثر الأول لما كان من حياة البطل. (والفاعل السردي)... بما يمثله من سلطة رواية للحدث ومعبرة عنه، وهو ما يكون لحمة المشهد الروائي وتفاصيله، على أن ثمة تشعبات تفصيلية، تتوزع هذه البنى في الخريطة السردية الكلية.
لتلي العلائق الدلالية التي تلتحم عضوياً، لاستبطان البنى النفسية للشخصية الرئيسية (طراد) والفرعية العم (توفيق) وتنسج خبايا الذاكرة ومحفوظها في حياتهما.
والاستراتيجية النصية التي اعتمدها الكاتب (المحيميد) في استرداد الحدث من نهايته، رجوعاً إلى بداياته المكونة لحظة الفرار من المدينة والناس، والجلوس على مقعد انتظار في محطة الباصات..!
لتبدأ الذاكرة من هنا في نسج علاماتها الحديثة، وهو ما يجسد رؤية نصية تربط بين الأحداث، وترتب حلقاتها ومفاصلها، وتجعل من الأذن المقطوعة أيقونة مبهمة.. لا تنكشف إلا في نهاية النص على أنه ليس ثمة ناظم تصاعدي واحد تتوالى نتائجه..، بل مواقف توفر لها المقاطع الفصلية، نظامها الدلالي في مهارة صياغية، تتبع الحدث وتنص على أبعاده، وتترك موضعاً لمساقها القادم، الذي يكون بدوره إيقاعاً حديثاً يشير إلى ما قبله ويتهيأ لتكوين ما يليه، من علامات نصية في سياق البنية السردية الكلية.
المكان
فالمكان الداخلي للبطل الرئيسي (طراد) هو (الرياض) في كينونتها الإقليمية، واستيعابها للقادم من الصحراء ببطولة معفرة بالهزيمة المرة، مثلما هي معفرة برائحة البول..!
«.. هذه المرة لن تشعل النار يد طراد ولن تقلب الشواء، ولن تطوح بنصيب الذئب نحوه، بل سيكون أسيراً لايملك حق الدفاع عن نفسه، كمن تقيد يداه إلى عمود خيمة، وتكال له اللكمات تباعاً على وجهه وصدره وبطنه.. على كل أجزاء جسده، فلا يحق له سوى أن يبصق دماً وحزناً وهزيمة مرة.. كان طراد يفكر وهو يمشي تجاه القبائل التي تعرفه، تلك التي أنكرته وكذبت روايته تلك فصارت أذنه المقطوعة أضحوكة القبائل وسخريتهم» ص113117.
والمكان بحسب بروزه كملتقى مصيري يجمع (طراد/بالعم توفيق)، مثلما جمعتهما الظروف ذاتها، ومسافات القدر الذي يرضخان لمشيئته وبعد ان خاضا صراعاً مضنياً يتشبثان منه بأمل لم يتحقق!
الأمل الذي توقظه روائح البخور والعطور الأنثوية، التي تضعهما في مفارق أسئلة المصير، وعبر روائح من نوع آخر..!
روائح تفرزها الأماكن وتلون الشخصيات عبيرها بما للأمكنة والشخصيات والأحداث، من قيمة في تحديد نوعية الرائحة متخذة منها مستوى دلالياً تتجانس معطياته ومهاداته الحدثية..!
لتكون الرائحة على المشهد الروائي، مركزية دلالية، تتحلى بكونها عنصراً مائزاً يكمل العلاقة العضوية بين مقاطع السرد، وعلامة على المفارقة القدرية للحدث، استناداً إلى مكان وزمن وجودها..
فمثلما تستثير الرائحة فعل الحواس، وتهيج الرغبة الأيروسية في مشهد سردي.. (ص54).
فإنها في الآن ذاته، توقظ الإحساس بالمرارة، واستعادة سيرة البطلين اللذين قادتهما الرائحة، إلى فخاخ الهزيمة، ولونت حياتهما بطعم الأسى..!
إذ المكان هو الذي يسوق (طراد) إلى محفل حكاية السرد، ويشعل في نفسه الشعور بكره الأمكنة والناس والفرار منهما.. وهو ذات الشعور المتفاقم والعكسي، بالبحث عن الأمكنة التي تسلمه إلى النسيان ولكنه لا يأنس منها إلا العناد..؟
عناد الحظ والمصير.. «وهيا قل لي يا طراد، أكمل حديثك لي، ولنضئ ليل الرياض النائمة كعجوز بدينة، والحكايات والحزن الطويل» ص110.
فهذه (العجوز البدينة) التي تجمع البطلين بوصفها المكان البديل، الرامز إلى انشقاق غيمة الأمل وانقشاعها، وليكون الحديث الحكاية، سلوى تبدد الفجر بالعجوز البدينة.. وهو ما يستحيل معه المكان إلى طاقة سالبة.. تؤجج الإحساس بالأسى، وتفاقم من حدة الشعور بالنقص..!
وهو ما يجعل (أذن طراد) المقطوعة دليلاً على استبهام الشعور بنقص الحاسة وليس بنقص العضو فقط..!
وهو ما ترتب الدلالة النصية تفاقم وجوده القلق، وتتخذ منه تكوينا دلاليا ذهنيا يستعاد كلما تطلبته نتائج الأحداث، وهو ما يشير دائما إلى استدامة الشعور بالنقص، ومرارة الرغبة في الاكتمال..؟
فطراد (بأذنه المعطوبة المغطاة بطرف الشماغ)، يشير إلى اكتمال الشخصيات التي يقابلها بأعضائها المكتملة، بدلالة الفقد الشنيع الذي تشعله فيه وطأة الإحساس بالمسببات ومعطيات قصة الفقد.
فليست قضيته (أذناً مقطوعة) بل حرب شرسة طرفاها الإنسان الأليف والحيوان المتوحش (الذئب) الذي تصور المعركة معه مشهداً لإثبات البطولة..!
والافضاءات الدلالية المتشابكة، والمسيرة برؤية تعي أهمية علائقها العضوية، تنمو منذ بدايتها إلى استرداد سجل الذاكرة ومسافة الرحلة من نهايتها، إلى بداياتها المنصوص عليها في آخر فصول الرواية (بطولة الذئب).
حيث استهلال النص بموجودات الفضاء الصحراوي؛ معركة بين الانسان والحيوان.. تنتهي بفقد طراد صديقه ومشاهدته أشلاء تمزقها بوحشية متجاسرة أنياب الذئب، وهو الفقد الكلي الذي يذكي شرارة الانتقام المتفاقمة ناراً يجوس (طراد) سعيرها، ثم بفقده الجزئي لأذنه بأنياب الذئب ذاته.
وليتوافر الفقد الجزئي، على صيرورة نفسية مريرة، تعيد تذكير طراد بتفاصيل معركته وتلح عليه بالإحساس بالنقص..!
ونفسية كهذه، تبحث في المكان الجديد (الرياض) بديلاً وملاذاً لصحراء الخوف، برمزيتها الموغلة في التشظي..!
من مشهد لإبراز البطولة.. إلى مسرح تذكر أحداثه بالفجيعة، وهو ما يجعل المكان بوصف آخر.. ملاذاً لأحلام لم تولد بعد..؟
وصورة بانورامية متخيلة، تفصح تفاصيلها السردية عن توتر العلاقة بين الإنسان والمكان.. ووعي الكاتب بالمكان، على وصف كهذا، يتسامى بفنيته الواقعية إلى مسارات المتخيل الجديد، واضمارات الذهن لما يمكن ان يكون عليه..!
وهو الخط السردي الذي سار عليه (العم توفيق) وهيأه له مكانه القديم ومطلع انبثاق وعيه، حيث أرخبيل الشواطئ المتاخمة للنيل في جزئه السوداني، عندما يفقد فحولته باستئناس رائحة (شحمة مشوية) تغيبه عن الوعي..!
ليفقد جزءاً مدللا على الفحولة (الذكورية) في جسده، وليبدأ هو أيضا رحلة البحث عن الملاذ..!
لتكون (الرياض) الجامع المكاني البديل لكليهما، بوصف استعاري تشكله المخيلة الروائية، بواقعية تأتلف تفاصيلها، مشرعة اتجاهات شتى.. في قراءة صيرورة الخط السردي في لعبة الحياة..!
(الحياة) التي تجمع طراد والعم توفيق في المستوى الاجتماعي المتقارب، والوصف الوظيفي ومهنيته المذلة، المؤسس على ذلك الرصيد المتشاكل في تفاصيله، والمتشابه حد التوافق الاثني بينهما، فكلا المكانين (صحراء طراد.. وقرية العم توفيق) مرتهن للطبقية العشائرية ونظم تقاليدها وممارساتها، ومستوى القيم الفردية التي تحكمها وهو ان طبقاتها الدنيا، وانسحاقها الضمني في صراعات البقاء والتمركز في موقع القوة، مثلما هي الثقافة الاجتماعية التقليدية المهيمنة، والتوافق الجمعي على التسليم بها والانصياع لفرضياتها.
(فالرياض) تبدو مكاناً يستوعب في (بدانته المزعجة) الأطياف الإنسانية المتنافرة، التي تتلاقى فيها ضمناً مصائر المعذبين والمطرودين والباحثين عن المأمول والمتمنى..؟
على أن سواحل النيل السوداني، وبوصفها المنصوص عليه سردياً، والذي استوحاه النص بتعبئة تفصيلية تؤكد ارتهان الإنسان (توفيق) لاشتراطات مكانه وفق بنية مفاهيمية ضاغطة، وتقاليد ثقافية في الحراك الاجتماعي، ومواراة المصنف وفقاً لثقافة بيئية، تفرز (توفيق) دالاً على مخرجات المكان، في بعدها الإنساني الصميم، ومحركاً باتجاه آخر سياقاً اجتماعياً مهماً، يتمحور حول مسرحية (الرقيق) وجلب العبيد بتلك الممارسة المشوهة، المتخمة بعفن القوة والسلطوية وانفلاتها من نظم التعامل الإنساني..!
مثلما جسدها النص الروائي في تكنيك حدثي متقن، يؤول إلى الإفضاء بمشهدية حياتية، تبرز عناصرها بشاعة سلطة القوة والتنصل من الشرط الأخلاقي، مما يفصح عن تمايز عناصر الدلالة الروائية بمؤشراتها الرمزية إلى خلق العلاقة العضوية بين تلك السلطة التي أنتجت (توفيق) وفحوى ممارسة (طراد) اللصوصية، والمعبر عنها نصياً بلفظتها المائزة، والمحتكمة لرصيدها الذهني والبيئي (الحنشل).. والتناسب الفعلي لمحركات القوة في كلا النموذجين، ينتج عن القابلية البيئية ونظامها التعاملي وحركتها الاجتماعية وتمايز طبقاتها، مما يصبغ المستوى التعاملي في تشكيلتها باللون الإنساني المهيض، الذي يمثله (طراد وتوفيق)، فما يصر الضمير السردي على الافصاح عنه أحياناً، أو مواراته ضمنا بالوقائع المشهدية، هو تناغم القوة وتسلطها واللصوصية، ومرجعيتها في الثقافة البيئية كدوال على تلاقي المصائر الإنسانية بالرغم من أمكنتها المتباعدة..!
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|