استراحة داخل صومعة الفكر رباعيات صبا نجد طاهر زمخشري سعد البواردي
|
شاعرنا الراحل اهدى ديوانه الى الاماني التي وعدته بكل ما يبتغى.. فهل انه في شعره ومن شعوره اعطاها كل ما تستحق؟ هذا ما سوف نستجليه من خلال قصائد ديوانه.
كان مدخلنا اليه من خلال قيثارته.. وقيثارة الشعر دائما هي الصدى الذي يوقع عليه الشاعر ويرجع عليها ألحانه.. أفراحه وأشجانه.. انه يتناغى مع قيثارته بجمل نثرية جميلة.
«لئن سفحت دموعي
ومنحت وجودي
وبكيت انيني
وعبر كل ذلك بذلت اغلى كنوزي»
بقي ان نبحث معه عبر رحلتنا عن الدموع. والوجود، والانين، والكنز الذي لا يفنى.. «صبا نجد» هي اولى وصلاته الشعرية:
«الا يا صبا نجد
على رفرف السعد
لقد طفت بالدنيا
الى انبل القصد»
نعم.. لقد طاف فيما يطوف كما لو كان يمتطي بساط ريح يكتشف الابعاد، وكما لو كان طائراً يسبح في فضاءات الكون مستجليا مجاهله كي يختزنها في ذاكرة شعره صورا نابضة بالحركة والامتاع:
«وعدت الينا
حاملا كل خفقة تصفق
ما بين الاضالع والوجد»
وابحث هنا عن سر تمزيق اوصال ابيات شعره فلا اجد ما يدلني على الحكمة.. فالابيات في واقعها تخضع للقافية، الا انها في موقعها الطباعي متناثرة تحتاج الى لم شمل.. ومع ضيف كريم يقول الشاعر:
«ألا يا صبا نجد سريت بتحناني
وانفاسي الظمأى الى برد للبنان
وحيث المسافات البعيدة بيننا
وطفت مداها فوق خفقة هيمان«!!»
علامات التعجب هنا لا معنى لها.. اذ لا شيء يثير العجب والاستغراب..
ينقلنا الشاعر الزمخشري معه في رباعياته «اغلى ورد» و«ميدان الفرسان».. وهما متماثلتان فكرة وصياغة فلا نجد الجديد مما يستحثنا معا علي الوقوف.. نتجاوزهما الى ثالثة الأثافي التي تدور في فلكهما كما لو كانت توأما للشقيقتين.. ومع أنسامه الجذلي» نتوقف لنغترف واياه بعضا من نسيماتها لعلها تطري وتثري جو رحلتنا المتقلب بين صحوة الصيف .. وإطباقة الشتاء.
«ألا يا صبا نجد سلمت فلم يزل
نداك بما يعطيه احلى من الشهد
اشم عرارا فيك يذكي مشاعري
ويرقص احساسي ويقضي على سهدي
وانسامك الجذلي تشيع لطافة
تناغم انفاس الازاهر والورد»
مفردة «انسام» في شطره الخامس تحتمل الشطط.. «نسائم» هي البديل الاوفر حظا.. والأقرب الى الصحة.. هكذا تكون.
«نسائمك الجذلى تشيع لطافة»
«ابتسامة الصبا» رباعيته التالية.. ماذا يقول فيها؟
«الا يا صبا نجد فؤادي بذوبه
يناديك يرجو منك لو نسمة تسري»
مفردة «بذوبه» التي يعني بها الذوبان جاءت نافرة غير موفقة.. كلمات كثيرة تحمل المعنى دون اثارة «بعشقه» او «بصبه» او «بوجده» او «بشوقه» .. مجرد رأي اعرضه ولا افرضه الا انني استبين الأصلح من وجهة نظري واشير اليه..
اما الملاحظة الثانية على شطره الثاني فمردها التقريرية المباشرة وضعف التركيبة البنائية للبيت. وافتقاره الى الموسيقى الشعرية.. وتكرار عبارات النداء والرجاء.. حسن لو جاء كما يلي:
«يناديك.. هلا بسمة بالهوى تسري»..
اتجاوز ضعف شطره الى ماهو اهم في ابياته التالية:
«امانيه ظمأى والحنين الذي به
يبوح بما يلقاه من وطأة الهجر
فزغرد كما شاء الحنين فانني
لفرط اشتياقي صرت اخشى على الصبر»
واذا كان للزغردة صوت فرح مسموع فإن النسيم ايضا تأتي زغردته المجالية من خلال صوت انسيابي لها لا يؤذي السمع ولا الوجدان.. لأنه صوت امان نطرب له.. ونحتفي بسماعه (زغرد مفردة اختارها هو.. ولو كان لي من الامر شيء لاحللت كلمة هفهف مكانها) شاعرنا اجاد في وصفه.. واعاد الى رباعياته زخما جديدا من الافصاح الذي لا نستكثره عليه بل نطلب المزيد منه كزاد شعري يثري رحلتنا الممتعة مع ديوانه.
«عروس الشعر» و«بحرا» و«هدية الصبا» رباعيات ثلاث تتهادى على صفحة بحر او نهر واحد له نفس الجزر، ونفس المد. ونفس الايقاع.. ليأخذنا شاعرنا في زورقه الزمخشري يتهادى بنا ويحط بنا امام عتبات نجواه الخامسة:
«الا يا صبا نجد متى هجت من نجد
فغرد لذكراها فقد هاجني وجدي»
الهياج هنا مقبول بالنسبة لوجد شاعرنا.. الا ان غير المستحسن ان يأتي صفة للصبا الذي تمر نسيماته دافقة رافقة.. ثم «فغرد» بفائها نافرة شيئا ما.. يمكن استبدالها بكلمة «ترنم».
وعبر صباباته المشحونة بالحب.. المثخنة بالوجد» تأخذنا المسيرة عبر محطات متناثرة تشهدها يمنة ويسرة تغري بالوقوف.. الا ان الدرب طويل.. والزمن قصير.. واللافتة اللافتة للنظر تنتظرها..
«صانعات التاريخ» هي محطة قرارنا جميعا وانتظارنا.. لعنوانها الكبير والمثير:
«موكب النور في سماء المعالي
لف اعلى البدور في الآمال
غمرت بالضياء كل سبيل
وتهادت بعلمها في المجالي
فاذا نحن امة في حماها
صانعات التاريخ للاجيال
فاتنات لبسن من برد الدين
فكن الثمار للأعمال».
الرباعية دون شك مرتبكة بدأت بالموكب وهو مفرد مذكر، اعقبه لف البدور للآمال برؤيته الباهتة.. ثم كلمة «المجالي» غامضة المعنى.. نغادرها في بحث عن صانعات تاريخ جديدة اوفر حظا.. واقوى تماسكا.. شاعرنا الراحل استهوته اطياف الاصيل «فأخذنا معه في رسم صورة لها:
«في اصيل مفرد بالضياء
خطرت كالنسيم ذات البهاء
اقبلت كالظباء تبلع جيدا
وتعيد النشيد بالإيماء
الصبا في اهابها يحمل الحسن
ويمشي بها على استحياء
والصبا لا يزال يسترجع الذكرى
ويشدو لفرحة باللقاء»
الاصيل لا يغرد بالضياء لأنه يولد لحظة رواح النهار.. ولو حاولنا افتراضه تزاوجا خياليا بين الاصيل والصبا فان التغريد لا يكون ابدا صلة العشق بينهما.. مفردة «معطر» او «مضمخ» اقرب الى الصورة من «مغرد».. ثم ما حكاية «البلع».. اجهل ما يريد شاعرنا التعبير عنه.. هل انه يقصد ابراز الجيد.. اذا كان كذلك فلماذا لم تأت كلمة «تبرز» او «تفصح مثلا» ثم اعادة النشيد بالايماء تعبير مهزوز الايماء صفة صامتة على خلاف النشيد بالايحاء الذي يربط بين شفتين عاشقتين.. اما الشطر الاخير فأحسب انه لو استبدل المفتوحة بالهاء المهملة لكان اغنى المعنى اكثر حيث يشدو لفرحه باللقاء.. وليس لفرحة محدودة المساحة والابعاد.. ونختار رباعية ابها قصيدة و«الدمع المبعثر» و«على الربوات» و«الحنين الملتهب» و«فستان ابهاوي» لنستقر مع شاعرنا الراحل الزمخشري منصتين الى «محاورة» الشاعر.. مع من؟!
«وشوش الموج نسمة في الأصيل
لمست بالندى محيا الجميل
قال: افشيت بالشذى لك سر
كان يغفو مرنحا في الخميل
فأجاب النسيم: يا موج انا
نتبارى في مد ظل ظليل
وبزاكي العبير من كل ورد
نترع الكأس بلسما للعليل»
الرباعية حوار يحمل فكرة جيدة من حيث المبدأ لرسم خطوطها الا انها تفتقر الى الترابط اللفظي الشاعري فكلمة «انا» بمعنى اننا غير مستساغة.. ثم ان البيت الاخير افضى بالشاعر وحبيبته الى ان يترعا كأس العبير من كل ورد.. و«العبير» و«الورد» لا يستقران في كأس.. وانما ينفحان بعطرهما ما حولهما.. وما دام شاعرنا مدفوعاً بجذوةة هيامه وصبابته الى كأس كي تتداوى منه علته فليكن خياره من واقع الممكن لا المستحيل كأن يقول مثلا:
«وبزاكي العبير من كل ورد نترع الكأس بلسما للعليل».. والورد بكسر الواو غير الورد بفتحها الذي اختاره الشاعر.. ومع «اعذب الحب» تتحرك قافلة العشق لشاعرنا ونحن معه كي نتوقف على عجالة عند محطة «الوفاء الجريح»:
«يا أعذب الحب نبضي كاد يسكنه
صوت الأنين ومن نجواك ينتظم
حسبي من الحب اني بالوفاء له
امشي واحمل جرحا ليس يلتئم
وما شكوت لأني ان ظلمت فكم
قبلي من الناس في شرع الهوى ظلموا»
لقد اجاد شاعرنا الراحل في ابياته وحلق كما لم يُجد ويحلق من قبل. كان خياله خصبا وشكواه موجعة مرجعة الا انها مفعمة بالصدق. والعمق .. لعلها من اروع الرباعيات واثراها.. واكثرها تأثيرا..
نتجاوز دون استهانة برباعيات «الحب الممكن» و«ناران» و«العتاب اللاذع» لنتوقف امام بوابة «انتظار» ثم ندلف واياه في حذر خشية ان نحترق بمجامر الشوق المشبوبة والمتوقدة.
«انا في انتظارك والمجامر في دمي
شوق تحرك نار اشجاني
قدر اراد لنا الفراق فشرقت
بي نحو دارك حيرة الولهان»
وما دامت المحبوبة رحلت قبل ان يستكمل رباعيته حتى لا يكون هناك تدان وقبل ان نرحل نشير الى الشطر الثاني الذي يحتاج الى جبر لا يكلفه اكثر من اضافة حرف هاء كي يستقيم على هذا النحو: شوق تحرك ناره اشجاني»
ونحن على درب الرحلة الشعرية لشاعرنا الزمخشري تطالعنا عدة عناوين «مزمار الآهات» و«الرجع المنهار» و«خطو المطمئن» كلها تشعرنا وتشير الينا عن بعد ان الشاعر ما زال في انتظارها لوحده.. لذا تم تجاوزها رغبة في قطف «ثمرة الصمود» الناضجة الموحية بجماليات صورها وتعابيرها:
«كم اداري وعبرتي في ابتدار
وبحبل الرجاء طال انتظاري
وشراعي يرف عبر ليال
مالها في امتدادها من نهار»
اذا كان الانسان العادي اسير امانيه وحدها.. فان شاعرنا يستنيطها ويستوطنها ويرسمها خلال اطياف متراقصة كالضوء في عتمة الليل الموحش.. ماذا عن امانيه وهو يطالبها ويغالبها ان تبتسم له:
«يا اماني التي اهفو لها
اشعريني بالرضا وابتسمي
ليس هذا العمر الا لحظة
لا تضيعيها بدنيا الألم»
ولكن هل في مقدور الاماني وحدها رسم صورة الواقع وتشكيله؟ ابدا..
وفيما يشبه الركض الحذر اللاهث تمتد بنا الرحلة متجاوزة محطات «ضمير الحياة» و«فأل السعادة» و«قوة الايمان» و«على الباب» و«اعنف الحب» و«احلام الحديث المعاد» و«عطاء الربيع» والنظرات المعلقة و«ضماد الجرح» و«التوأمان» محطات كثيرة تجاوزناها كي لا يتجاوزنا الزمن المحدد للمرحلة قبل الوصول الى نهايتها.. مع صوتها عن بعد ترغمنا على الوقوف لاستجلاء ما وراء الصوت في مقطوعته «الربيع الضحوك».
« من وراء البعيد
والخافق الملتاع
يشدد مغرداً للتلاقي
ويذيب الانين في صفحة الليل
وتسري الاصداء بالأشواق»
وفي تونس الخضراء حيث يحب شاعرنا ان يتواجد تحت افياء قرطاج.. ورمال الحمامات الناعمة يدفع لنا بعدة اوراق ناعمة الملمس بيضاوية البشرة .. يحملها موكب في ذكرياته.. وما اكثر ذكريات الشاعر في بلد الجمال.. انها «الف ذكرى» هكذا جاء عنوانها:
«الف ذكرى فرشتها في طريقي
واتخذت السهاد فيها رفيقي
وعلى مدها عبرت الليالي
والأسى غص حلقي وريقي»
الشطر الاخير لكي يستقيم لابد له من دعامة تسنده.. لن يكلفه اكثر من كلمة «منه».. هكذا:
«والأسى منه غص حلقي وريقي»
وكي نستكمل معا مع شاعرنا الراحل المشوار اشير في عجالة الى بعض رباعياته التي لاحظ لنا في قراءاتها لضيق مساحة.. وساعة الوقت.
«الشراع الرفاق» «المجد الشامخ» «الشباب الضائع» ابيات وجدانية معبرة تستحث الخطى. وتستفز الهمم.. ولأن الطريق اوشك على نهايته وكي لا تدهمنا عيون الليل فما نبصر الدرب ونضيع لابد من تلمس اطراف اقدامنا بعيون ما تبقى من النهار:
«يا عيون الليل نبضي خافت
ولظى الوجد به يتقد
لعب الحسن به في غرة
فهفا يسرع مما يجد
ومن اللهفة تاهت آهة
هي في حر الهوى تبترد»
حسنا لو ان شاعرنا اعاد شطره الأخير الى اشقائه حيث جاء مفصولا عنهم في ديوانه بدوائر ثلاث..
بعد الآهة ترد رباعيات «احلام التداني» «معطيات الاقدار» «يا قمر» «استراحة» «الدم مشتعل» و«مصارع العشاق».. جميعا تدور في فلك الحب بأشواقه واشواكه.. تارة تشفع له الرؤية. واخرى تحجبها غشاوة الظلال الباهتة.. وفي النهاية نصل الى «نهاية» عنوان قصيدته الاخيرة:
«يا صميم الحياة ان الاماني
غمرتني طيوفها بالحنان
والربيع الضحوك كان على الدرب
يناغي بهمسه وجداني
كيف لا اسكب الفؤاد نشيدا
لابتسام الرضا وصفو الزمان
رحم الله طاهر الزمخشري شاعرا مجيدا.. وانسانا خلوقا.. كرمنا بشعره وكرمته الدولة مشكورة على عطاء مستحق قبل ان يرحل.
الرياض ص.ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|