هؤلاء مرُّوا على جسر التنهدات الطفل اليتيم.. الذي أصبح «دكتورا» في الجامعة!! بقلم/علوي طه الصافي*
|
الآمال.. والطموحات الكبيرة، لا تتحقق من خلال أحلام «النوم».. أو أحلام «اليقظة».. ومن يتصور غير ذلك، لا فرق بينه، وبين من يرعى في أرض يباب، لا شجر فيها، ولا طير، ولا زرع، ولا نبات!!
والطامحون في الحياة كثيرون.. لكن ظروفهم.. وقدراتهم تتباين، وتختلف!!
البعض يحقق ما يطمح إليه لأن ظروفهم، وقدراتهم تساعدهم، وتوفِّر لهم الفرص المناسبة دون بذل كبير جهد.. ومرّ معاناة.. ووخز شوك.. ويُتم حرمان!!
لكن الذين يطمحون، والفراغ يحدق بهم.. والمعاناة تحيط بهم من كل جانب.. ومع ذلك ينجحون.. هم الذين يحسبون من «الصنّاع» الذين يحققون من «اللاشيئية» شيئاً كبيراً يعد في مسيرتهم نوعاً من «المستحيل».. هذه المسيرة التي يفترشها الشوك، والحَسَك.. يعانون.. ويكتوون.. ويكابدون.. لكنهم يصمدون.. ويسبحون ضد التيارات التي تواجههم.. لا يتوانون، أو يتوقفون، أو يتراجعون.. بل يكتسبون «صلابة» الصمود الطامح إلى غاياتهم..مع إدراكهم أن دون «العسل» الشهي إبر ولَسْع «النَّحل».. ودون «الزَّهر» وخز «الشوك»!!
والغايات الكبيرة لا ينالها أو يطالها إلا ذوو «الهمم» الكبيرة.. كما يعني «المتنبي» شاعر العصور في قوله:
على قدر أهل «العزم» تأتي «العزائمُ»
وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
وصديقنا واحد من أهل «العزم» الذين كابدوا «أيام» الحياة بمرها، و«لياليها» بعلقمها.. فلم يستكينوا، ولم يخنعوا، ولم يستسلموا.. ولم ترهبهم «ظلمة» الطريق.. ولم يثن عزمهم «خفافيش» الظلام وما أكثرها .. ولم تهزمهم أساليب الحاقدين، والحاسدين.. وقد تعرضوا إليها!!
ساروا بعزيمة لا تفل.. وإرادة لا تكل.. رغم كل المعوقات، والمثبطات، والإحباطات، والدسائس.. فوصلوا إلى ما كانوا يطمحون إليه بكل جدارة، وقدرة، واقتدار.. فأصبحوا في مجتمعهم أرقاماً لها قيمتها.. و«كينونة» في مجالهم العلمي!!
عاش طفولته وجزءاً من شبابه على الجانب «المعتم» من الحياة.. حيث الحُفر.. والحرمان.. و«اليُتْم» المبكر.. جاب شوارع، وأزقة مدينته الصغيرة المظلمة حيث لا كهرباء يومذاك.. عاش مع من يعيشون ظروفه البائسة، من أترابه!!
فتح عينيه في مدينته الصغيرة «جيزان» وسط أسرة عادية.. لا جاه اجتماعي.. ولا علم.. ولا مال!!
أمه، ماتت، وهو لما يعرف الاتجاهات الأربعة.. وأبوه متزوج بامرأة أخرى.. لم تتعامل معه بالحسنى.. ولم يكن يهمها رعايته، والحنو عليه.. فهو بهذه النشأة القاسية فقد الشعور بحنان «الأم» ودفء حضنها.. و«عذوبة» قبلاتها.. و«مناغاة»، صوتها.. و«حلاوة» مداعباتها له!!
لكن هذا الحرمان الإنساني «الفطري» المبكِّر لم يزرع الحقد في نفسه.. ولم ينمِّ روح «العدوانية» ضد الآخرين.. بل حوَّله إلى إنسان مسكون بعاطفة كبيرة.. لازمته طوال حياته.. يبادر لخدمة من يلجأ إليه دون تردد، وفي أي وقت من الأوقات.. إنه سلوك «التعويض» الإيجابي، الإنساني!!
شقيقه الوحيد الذي يكبره، كانت له ظروفه ومسؤولياته الشخصية.. لكن الله قيَّض له احد وجهاء مدينته الصغيرة، فعوضه بعض ما كان يفتقر إليه.. لكن نفسه كانت توَّاقة إلى الاعتماد «الذاتي» فحين نال الشهادة «الابتدائية» وانتقل شقيقه الأكبر إلى مدينة «جدة» حيث فرص العمل أكبر، وأوسع.. لم يجد أمامه إلا اللحاق بشقيقه.
وفي مدينة «جدة» نال الشهادة «المتوسطة» فدفعته إلى مواجهة الحياة، بعد أن أنضجته الظروف التي مُرَّ بها عقلياً، ونفسياً.
هاجس في أعماقه يتنامى طموحاً للاستقلال بذاته.. والاعتماد على نفسه.. لم يعد طفلاً.. عمره «العقلي» سبق عمره «الزمني»!!
جرَّته قدماه إلى جريدة «البلاد» حين كان صاحبها، ورئيس تحريرها الأستاذ الراحل «حسن عبدالحي قزَّاز»، قبل عهد «المؤسسات الصحافية».
وكان معروفاً عنه تشجيعه للشباب.. ويعد واحداً من رواد الصحافة في بلادنا، تغمده الله بواسع رحمته.
أما لماذا اتجه إلى الصحافة؟ فهذا ما لا نعرفه!! أهو الميل الذاتي.. أم مجرد الرغبة في العمل المستقل؟..
المهم، أنه وجد العمل الذي ناسبه بداية «مصححاً» واستمر فيه لعدة سنوات اكتسب خلالها «خبرة» عملية في الصحافة، وشؤونها، من خلال «البروفات» التي تمر به.. اكتسب كيفية صياغة «الأخبار».. وماهية «الاستطلاعات» الصحافية.. وإجراء «الحوارات» مع الآخرين، على اختلاف اهتماماتهم.. واختصاصاتهم.. كما تعرَّف على أساليب رواد الأدب.. وكُتَّاب الصحيفة الكبار.
ويبدو أنه كما يقول المثل العربي «وافق شنٌّ طبقة».. فقد لقي صديقنا نفسه في الصحافة.. لهذا حين صدر «نظام المؤسسات الصحافية» عام 1383هـ وبموجبه تم إدماج الصحف بعضها ببعض، شاء الله له أن يعمل محرراً في جريدة «عكاظ» اليومية التي صدرت عن «مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر.
أمام عمله الجديد شعر بتحدٍّ جديد.. ومواجهة لم يمر بها.. كأنه خلق للتحديات، والمواجهات.. شعر أنه لكي يكون اسماً يذكر في مستقبله الصحافي، عليه أن يثقِّف نفسه ثقافة ذاتية.. من خلال الإدمان على قراءة الكتب.. والاطلاع على الصحف والمجلات العربية.. وهذا يعني زيادة أعباء مصروفاته.. فتمكن من المواجهة بالتقشف.. وإيثار الكتاب على الثياب.. فكان كما عرفتُ والاعتماد هنا على ما سمعتُ وتذكَّرتُ يغسل ثيابه بنفسه.. ويرتق ما انفتق منها بالخيط والإبرة.. مؤمناً أن الإنسان جوهر ومخبر.. لا شكل ومنظر!!
في هذه الفترة انتقلتُ شخصياً للعمل والدراسة بجدة، حيث كنتُ أعرف من السابق الأصدقاء «أحمد عبد الواحد .. وهاشم عبده هاشم» وغيرهما.. ومن خلال هؤلاء الأصدقاء تعرَّفتُ بقطب، أو محور موضوعنا «الطفل اليتيم» الذي أصبح دكتوراً في الجامعة «علي عمر جابر».
من لقاءاتي المكرورة به شعرتُ أنه شخصية تتسلل إلى جوانحك لطفاً وتواضعاً ومودة وألفة.
ما قلته عنه في ثنايا هذا الموضوع ليس مجاملة تغلِّفها المبالغة.. لقد عشتُ معه في سكن واحد لعدة أشهر.. عرفتُ عنه خلالها ما لم يعرفه شقيقه.. وعاصرتُ ما مرَّ به من مكائد.. ومنغِّصات.. وعداوات «مضمرة».. وغير «مضمرة».. ومع ذلك لم يتذمَّر.. أو يتشكَّ.. أو يصيبه القلق على شأن من الشؤون، كبيرها وصغيرها.. بل كان ينام مرتاح البال، وبمجرد وضع رأسه على وسادته.. محتضناً جهاز المذياع يشدو على صوت «أم كلثوم».. فأقوم بإغلاقه بعد إحساسي أنه يسبح في نهر نومه!!
انضم للدراسة معنا في الفترة المسائية بمدرسة الشاطئ الثانوية» الواقعة في «السبخة» بجدة، ثم نُقلتُ إلى الرياض 1387هـ.. وبعد إتمامة الثانوية العامة عمل مديراً لمكتب جريدة «الجزيرة» بجدة، في الوقت الذي كان يدرس المرحلة الجامعية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة كلية الآداب قسم التاريخ.. فهل اختياره للتاريخ عن ميل، ورغبة ذاتية.. أم أنه كان متأسياً بما قاله الشاعر:
ومن وعى «التاريخ» في صدره
أضاف أعماراً إلى عمره
وبعد الانتهاء من دراسته الجامعية التي أهَّلته جهوده، بأن يكون معيداً في الجامعة نفسها التي ابتعثته بعد حصوله على «الماجستير» لنيل الدكتوراه» في جامعة «تونس» حيث ارتحل رغم ظروفه القاسية.. وارتباطاته العائلية، بعد أن أصبح أباً لعدد من الأبناء والبنات.. فشد المئزر، واكتفى بالقليل.
موضوع أطروحته كان عن «الحرب بين الحبشة وإيطاليا» وهو موضوع شائك، ومشتَّت كلَّفه كثيراً من العناء.. ومشاق السفر بحثاً عن المراجع.. والمصادر والوثائق.. والمخطوطات متنقلاً بين «روما.. وأديس أبابا.. والقاهرة.. وإسطمبول».
كان يخرج من فندقه صباحاً.. ليعود في المساء أشعث أغبر.. كأنه قادم من القرون الخوالي.. فالبحث لم يكن سهلاً.. والوصول إلى ما يبحث عنه أمر صعب.. لكن هذا لم يفتَّ في عضده.. ولم يفلَّ من عزيمته.. فحصل على «الدكتوراه» ليعود مدرساً في التاريخ بجامعته التي ابتعثته.. عاد ليضيء العقول الشابة المتطلعة إلى الفجر.. والقمر.. والنجوم!!
ومن منطلقات «العصامية» الذاتية التي كان «الصفر» بدايتها.. والجلد والتجلد طريقها.. أصبح الصديق العزيز «علي عمر جابر» الطفل اليتيم.. وابن المدينة الصغيرة.. وأزقة الحارة الضيقة المظلمة.. يحمل أعلى شهادة ويمارس التدريس بالجامعة.. وهي شهادة قد لا يحصل عليها ابناء الذوات من الأثرياء!!
هذا إلى جانب أنه كانت له بصمته على صحافة بلادنا.. فلم يكن حرفاً ساكناً.. بل كان «بيدقاً، متحركاً على رقعة «شطرنجها».. وكانت له زاوية يومية يحرِّرها بعنوان «موقف».
كما أنه أعطى الفرصة لعدد من الشباب الواعد الذين أثبتوا جدارتهم.. فلم يضع تشجيعه لهم.. وتعهده بالرأي، والمشورة.
صلتي به ما تزال مستمرة.. وتزداد بالتقادم متانةً، ورسوخاً دون أن يكون لأحد منا فضل على الآخر، ويبقى الفضل ما بقي الوفاء الذي يعد رأس هرم الصداقة، والصدق فيها.
* ص. ب 7967 الرياض 11472
alawi@alsafi.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|