وكانت كلية الآداب لا تزال آنذاك في مبناها القديم بحي الملز، قبل أن تنقلها الطفرة إلى مقرها الأنيق المترف الجديد بطريق الدرعية. |
ولكن الإحساس بالزمن أمر طبيعي في الإنسان قد يبدأ مبكراً وقد يتأخر، وهو الغالب، إلى سن الكهولة أو الشيخوخة، أي سن التقاعد. |
وإحساسي بالزمن قد بدأ للأسف منذ زمن بعيد، ولكنه ازداد حدة في مناسبتين، الأولى حين أشرفت على الستين وطلبت التمديد أسوة بزملائي الآخرين في الجامعة، والثانية حين شرفت بالحصول على جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي. |
لقد تحمس أخي العزيز وتلميذي البار الدكتور فهد العرابي الحارثي وكتب عني وعن قضية التمديد مقالتين مثيرتين في مجلته المتألقة آنذاك «اليمامة» فازدحم هاتف منزلي في تلك الأيام، وقبل اختراع الجوال، بجميع أنواع المكالمات: المستفسرة والمواسية والغاضبة والمحوقلة. وتفرغت للرد والصد والشد، واعتذر أكثرهم عن إزعاجي وتعكير مزاجي، وأنا أخلد، كما يظنون، بعد أن اعتزلت العمل وفارقت الناس، إلى الراحة والسكون. ولم تُجْد تأكيداتي بأنني لا أزال، والحمد لله، على رأس العمل، وأنني بفضل الله مكتمل العقل، صحيح البدن. |
وظننت أن الأمر قد انتهى عند القضية الأولى، والمقالتين «العُرابيّتينْ»، ولكن خاب ظني للأسف، في تردّي الحال وتقلّب الزمان. |
فإذا الأعراب يكثرون وإذا الزمان أبهى وأجمل. فكثرت الكتابات عن «القضية»، وتكشّفت معادن الرجال، وتألقت المروءات دفاعاً عن الضحايا، ماذا نفعل بهم؟ كيف ننقذهم؟ هذه الثروة البشرية كيف ننتشلها ونستفيد منها؟ نمدّد لهم إلى السبعين، إلى الثمانين، إلى التسعين، ولكن هذا كثير. |
ومن قال إنهم سيعمرون؟ ومن قال إنهم يرغبون؟ لماذا بالله لا يستريحون ويريحون؟ وقال مدير مركز المسنين: بل نحن بحول الله نتولاهم، وسيجدون في المركز كلّ وسائل الراحة والعيش الكريم، وما يشبع هواياتهم العتيقة في البحث والمطالعة. |
كان ذلك عام 1413هـ/1993م، وقد تحدثت عنه في كتابي «سالف الأوان». |
أما قضية الزمن في جائزة الملك فيصل العالمية، فيتمثل في أن أكثر المهنئين لي بالحصول على هذه الجائزة هو سؤالهم الدائب عن اللياقة البدنية والحالة الصحية، وكأنني على وشك الدخول في حلبة مصارعة أو ملاكمة. |
وقال بعضهم بصراحة: لقد تأخرت هذه الجائزة كثيراً، وكان الأولى أن تأتيك في وقت مبكر. ولا أخفيكم أنني بدأت أشعر آنذاك بشيء من القلق. |
ولعل تلك الصورة الفوتوغرافية الهرمة الكئيبة التي بثتها المؤسسة على الصحف والمجلات هي السبب في ذلك التشاؤم. والناس يحرصون عادة على الصور، ومنهم من يحصن صورته ويحميها من تآكل الزمن. فلماذا لم أفعل أنا؟ ربما لأنني لم أكن متأكداً من الفوز، وإلا لأرسلت إليهم لوحة ملمعة. وقد تلقيت من إحدى تلميذاتي هذه التهنئة «المفكسة» التي تقول فيها بالحرف الواحد: |
«كدت أطير من الفرح حين رأيت صورتك في الصحيفة تنبئ عن حصولك على الجائزة كل ما بيدي أن أهديك إياه بهذه المناسبة دعوة في قيام الليل بأن يمتّعك الله بالصحة والعافية وأن يهبك الجنة». |
وقلت في نفسي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد انقلب الفرح إلى حزن ومأتم. ولكنني تذكرت ما قلته في صحيفة «الرياض» قبل إعلان أسماء الفائزين بشهرين أو ثلاثة أشهر. قلت إن هناك الكثيرين من أساتذة الجامعات الذين تقاعدوا منذ أمد طويل، ولا يزالون يؤلفون ويكتبون وتستقبل أعمالهم بكل حماسة وترحيب. وبعضهم حصل على أرقى الجوائز، ومنها جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي، وهو يتوكأ على عصا ولا يكاد يبصر من حوله. ومن هؤلاء الأساتذة الكبار: شوقي ضيف ويوسف خليف وناصر الدين الأسد وعبدالله الطيب وعز الدين إسماعيل. فأنا، إذن، من أصغرهم سناً. والحياة تبدأ، كما يقولون، في الستينيات. والأعمار بيد الله. وكلٌّ زائلٌ إلا وجهه. فما بال الناس لا يقرأون ولا يتأملون. |
ولعل هذا الإحساس بالزمن هو ما يغريني هذه الليلة بالهروب معكم إلى الزمن القديم حيث الطفولة الغضة المتفتحة وحيث الذكريات. ومن الملاحظ انتشار هذا النوع من الكتابات في العالم العربي في السنوات الأخيرة. السيرة الذاتية والمذكرات واليوميات، يكتبها الأدباء والصحفيون والزعماء، وكثير من الناس من كافة الطبقات والاتجاهات. ولم تكن مثل هذه الكتابات الذاتية معروفة في التراث العربي القديم على هذا النحو الواسع. ويبدو أننا قد تأثرنا في هذا الاتجاه أيضاً بالغرب الذي يعتبر الاعتراف أو البوح الذاتي جزءاً من الثقافة والعقيدة. ونحن على أي حال في زمن ديموقراطية الثقافة، فلماذا لا نكون ديموقراطيين، في هذا الجانب الذي لا يضرّ ولا يسيء إلى أحد؟!!. |
وكنت قد بدأت بمرحلة الطفولة في تلك المقالة الطويلة التي نشرتها لي صحيفة الرياض سنة 1399هـ/1979م بعنوان «الدحلة» وكانت في الأصل عرضاً نقديّاً لكتاب الأستاذ عاتق بن غيث البلادي «الأدب الشعبي في الحجاز» الذي صدر حديثاً في ذلك الوقت. ولكنني نسيت كتاب البلادي واستغرقت دون أن أشعر في كتابي أنا. ذلك لأن البلادي ذكرني بالطفولة والحياة الشعبية القديمة، فاستسلمت وعجزت عن المقاومة قلت: |
* . والبدو لا يطيقون العيش في حواري مكة الداخلية، ويفضلون الإقامة في أطرافها. لعلهم يحنون دوماً إلى الصحراء، ولم تنقطع بينهم وبينها صلات الرحم والقربى، ولم تغير المدينة شيئاً كثيراً من لغاتهم وعاداتهم وتقاليدهم. |
وتحدثت بعد ذلك عن البؤس الذي كانت تعيشه تلك الدحلة الفقيرة. فبيوتها لا تعدو العشش والصنادق والقيع، وسكانها من صغار العمّال والجمّالة. ومن الشخصيات الطريفة التي كانت تضمها الدحلة: سائق البريد الذي يعود من سفراته الطويلة بالجديد من الأخبار وغرائب الحكايات، و«شيخ السقاية» الذي يبسط نفوذه على جميع السقاة بحارتنا والحواري المجاورة، وتحتل حميره مناطق واسعة من الدحلة، ومغسّل الأموات، وهو رجل نشيط يشعّ النور من وجهه الأبيض، على جبينه سجدة كبيرة ويهابه الجميع. وكان يجمع، مع ذلك، بين غسيل الأموات والطبيخ، وقد اشتهر بطهي السليق على نحو خاص. ومن شخصيات الدحلة أيضاً «سواق» ابن سليمان، وهو شاب أسمر اللون، رشيق القوام، متألق في ملبسه، تفوح العطور من ثيابه كلما مشى مختالاً في الحارة. ومن أعلام الدحلة «أم علي»، جدتي، وهي بدوية صميمة من حَجُرْ، قرب رابغ. لم تفقدها الإقامة في مكة طباعها وشخصيتها والحنين إلى ديارها. كانت تلبس. مشلحاً رجاليّا خشناً من الصوف الأسود، و«مركوباً»، حذاءً، رجاليّاً، وتبرز للرجال ملثمة، تحدثهم ويتحدثون إليها. ولم يكونوا يبرمون أمراً مهمّاً في الدحلة إلا بعد مشورتها. |
لقد كانت الدحلة القديمة تعيش على الجمَّالة وقوافل الحجاج، ويعمل بعض شبابها في قصور ابن سليمان المجاورة لهم. كانت الكهرباء تنبعث من وراء تلك النوافذ الباذخة، وبيوت الدحلة تضيئها الفوانيس الصفراء، وتغرق أزقتها في ظلام دامس. لقد كان الليل مخيفاً، وأشباحه تقض مضاجع الأطفال، الدنجيرة وهول الليل والغول والسعلاة. ألف الجن سكان الدحلة وألفوهم. ولكن حارتنا أصابها بعض التحول في أواخر الحرب العالمية الثانية، حينما بدأت تدب السيارات في أنحائها، وبدا المذياع و«البيك آب» «الشِّنَط» تنشر الأغاني العربية خفية في بعض البيوت. |
لقد جعلت «أم علي» تجسيداً أو رمزاً لشخصية «الدحلة». فعندما بدأ التغيّر يدبّ في أوصال «الدحلة» تدريجياً، انسحبت أم علي منها وغادرتها إلى حي آخر، حيث يسكن ذووها في «ريع الرسّان»، ولقد صورت هذا التغير أو الانسحاب على هذا النحو «بدأ الجمّالة في الانسحاب من الدحلة. تناقصت أعدادهم تدريجياً، وفقدت حارتنا موقعها الاستراتيجي. واكتأبت أم علي لهذا التغير المفاجئ، فقد كانت تؤجر أحوشة بيتها للجمّالة، ولعنت السيارات التي حرمتها من ذلك المورد الثابت. وعندما انتقلت أسرتي إلى «ريع الرسان» أثناء حرب فلسطين، رفضت أم علي الانتقال معنا. لقد كنا في حيّنا الجديد أقرب إلى أحياء «أهل البلد»: حارة الباب، والشبيكة، والشامية، وجدتي لا تحب «الحِضْران» (الحضر)، ولا تطيق العيش في الحجرات المغلقة. لم تأكل في حياتها «الصلصل» (الصلصة) ولا السمن الصناعي (سمن فقيه) ولا «الطميس» (التميس) وكان أكبر همها «المعاميل» (أدوات صنع القهوة) والعناية بدجاجها وأغنامها. ظلت وحيدة في الدحلة لا يؤنسها سوى جارية لها، فلما بيعت حزنت عليها حزناً شديداً. |
وفي صباح يوم من أيام 1377هـ/1957م افتقد أهل الدحلة جارتهم «أم علي». رأوها قبل بضعة أيام تغلق بابها في صمت، وتدبّ في وهن موليّة ظهرها دحلتهم. لا بد أنها ذاهبة إلى ذويها في ريع الرسان. سرعان ما تعود. ولكنها لم تعد إليهم أبداً لقد كانت حتى آخر لحظة من حياتها أعرابية صميمة، ترفض القيود وتحنّ إلى الحرية. قالت وهي تجود بأنفاسها الأخيرة: أخرجوني من هذه الغرفة، احملوني إلى «الخارجة»، أريد أن أرى ربيّ. وماتت قريرة العين تحت قبة السماء. |
لم تقم للدحلة قائمة بعد موتها. تغيرت معالمها وتفرق أبناؤها وربما غُيّر اسمها كما غُيّر اسم «أم الدود» إلى «أم الجود». من يدري؟!.. «انظر للباحث كتابه: في البحث عن الواقع، ص153 165». |
لقد صادفت مقالتي القصصية عن «الدحلة» هوى عند الكثيرين. ولم أتوقع حين كتابتها أن تحظى بكل ذلك الإعجاب والتقريظ. وحثني بعضهم على مواصلة الكتابة، وتحويل «الدحلة» إما إلى سيرة ذاتية أو مشروع روائي كبير. وقد دهشت حين تبينت أن «سائق البريد» قد عرفه أيضاً الأستاذ عبدالعزيز الربيع، رحمه الله، في المدينة المنورة، وقد أورد عنه بعض الأخبار و الأشعار في كتابه الرائع «ذكريات طفل وديع». يقول عن سائق البريد عبادي وهذا اسمه الحقيقي : «.. وأما عبادي فهو نجم البريد اللامع الذي يعجب الناس بطريقته في سوق سيارة البريد أو سيارة الشركة. وسيارة البريد هي إحدى سيارات الشركة. وقد وصل به الأمر أن يكون حديث الناس حتى في مجال الشعر: |
وعبادي قد كان فينا أميراً |
انزلوا اركبوا وكنّا جنوداً |
«ذكريات طفل وديع، منشورات نادي المدينة المنورة الأدبي ط2، ص157 158». |
|
* نص المحاضرة التي ألقيت في النادي الأدبي بالرياض مساء يوم الثلاثاء الموافق 26/7/1424هـ |