قصة قصيرة بائعة البيض الطازج محمد أبو حمرا
|
سوق اللحوم يعج بالداخلين والخارجين، كلٌّ يخرج وقد لف اللحم في كيس من أكياس الأسمنت الورقية التي يتخذها الجزارون لهذا الغرض. صياح الجزارين يملأ الجو، ولأصوات السواطير وجع للعظم الذي يضعونه في الميزان وتحت اللحم الجيد بخفية ومهارة، إنه فن لغش الزبون الذي لا يكتشف الزيف إلا إذا وصل إلى بيته وصاحت زوجته على تغفيله وخداع القصاب له.
وبائعة البيض تجلس في الخارج تحت ظل جدار المجزرة الشمالي، بالمقابل لها يقف رجل سمر عينيه بكل لهفة وجوع على بائعة البيض الفارهة بياضاً، كانت تجلس على كرتون برتقال اتخذته كرسياً لها، لكن زوائد جسمها تتدلى مغطية ذلك الكرتون الذي يئز من ثقل التضاريس عند أدنى حركة منها. أطباق البيض أمامها على شكل نصف دائرة وقد رفعتها بكراتين تحت الأطباق، لتعرضها للبائعين الذين جاءوا من عند زوجات أحرق بياضهن لفح البيئة الصحراوية الجافة تماماً، وهنا يجيء للبياض طعم ولذة ولو بالنظرة فقط.
تسمر الرجل في ظلال الجدار بالرغم من زحف الشمس عليه، فإذا ما تعبت قدماه من الوقوف حرك إحداهما إلى الأمام واستمر، في يده سبحة بيضاء لها رأس منسوج بعناية.. يلعب بها وأحياناً يلثمها، أما الطاقية التي بها دوائر من الزري الأصفر والأبيض فقد غطت معظم جبهته، ومن جوانب الطاقية السفلى يبدو شعر أشبه ما يكون محتجاً على العرق والحر؛ إذ إنه حينما يخرج من تحت الطاقية يرتفع كالسكاكين المشهرة للقتل، وضع يده اليسرى تحت كوع اليمنى مباشرة.. استمر في تحريك سبحته، كان يضحك للهواء والجوع والبياض الغريب الذي لم تعهده البلدة كلها، وربما كان يقول لدواخله وخيالات اللحظة التي يتمناها: من أين جاءت هذه البيضاء؟ كيف جاءت؟ ما سر هذا البياض الناصع كالبيض الذي تبيع والمغري في زمن الشحوب، لعل البياض جاء إليها من البيض؟ ربما.
هذا حديث روحه لروحه وهو جائع.. جائع، لكنه يبني أحلاماً على بياض وقشر بيض!!
برقعها الذي لبسته بشكل مغرٍ أيضاً أغراه بأن يتقدم خطوتين نحوها.. جف ريقه.. قلبه ضعف، لكنه لا زال يحب البياض، فلا بد أن يتحرك.
امتدت يده برعشة إلى طبق البيض ولمسه بحنان وابتسام جاف من شفتين شرهتين.. عيناه على عينيها اللتين خفضتهما إلى كرتون به نقود قليلة. كم سعر الطبق يا ...؟
ردَّت ولم تنظر إليه وقالت: بستة ريالات.
لا يدري ماذا يقول؟ فهو لا يحتاج إلى البيض ذاته، لكنه أخرج ستة ريالات وأعطاها إياها، حاول أن يقول شيئاً لكن الفرصة لم تشجعه ولا اللحظة ذاتها، وغادر وهو يلتفت إليها ويضحك!! رأسه مملوء بالوسن والخواء واللهيب.
مشى خطوات والتفت إليها، كانت لحظتها تصلح عباءتها فوق رأسها، ظن أنها إشارة منها، فسمر عينيه وهو يمشي ملتوي العنق، مرت عجوز تحمل دجاجة في يدها خارجة من سوق النساء للتو فاصطدم بها وطاح البيض.. ملأ البيض الأرض صفاراً.. انتشر قشره مهشماً مثل سر الأسحم العاشق، قالت العجوز التي لا تخجل له وبصوت مسموع أيضاً: طالع في دربك، لقد شدهتك تلك البرصاء، اللهم أرجع إليهم قلوبهم من هذه ال.....
استمرت تكيل له الهزء والتوبيخ، وصوتها يملأ السوق، لكنه غاب فجأة!!
دلف إلى غرفة سكنه في العلية التي استأجرها في حي الدحو، استأجرها من رجل يشدد الرقابة عليه.. أثاث غرفته قد جمعه من أمكنة متعددة، لكن الدافور الذي يستعمله للشاي قد نفد منه القازولين، وهذا ما جعله يعدل عن براد الشاي، رمى بنفسه على مطرحة يمشي عليها النمل الذي جاء البارحة على رائحة التونة، فكَّر في البيض والبياض وفتنة التضاريس، قطع المؤذن تفكيره حينما نفخ في مكبر الصوت استعداداً لأذان الظهر، فلا بد أن يصلي مع الناس، فجاره ذو العيون الكبيرة التي تشبه عيون البقرة لا بد أن يلتفت من الصف الأول في المسجد ليرى هل صلى أم لا.. وكان يقول إذا ذكره: (أبو طاقية زري).
عاد وهو يتصبب عرقاً.. فالجو لا زال حاراً إلى درجة أن الأرض من تحت قدميه تفوح، أولج المفتاح في باب غرفته التي يصعد لها من الأرض مباشرة إلى العلية.. مشى مع العتبات وصوت مفاصل ركبتيه يوحي بانفصالهما، أرخى جسده وهو يلهث ويفكر في البياض الناصع، لكن الرطوبة أيقظته ليبدأ في منحى آخر للنظافة، لزوجة المكان والماء أنسته البياض الذي كان أشغله زمناً.. شتم كل شيء عرفه في حياته.
ها هو يقف على قارعة الطريق لكي يجد عربة توصله إلى سوق البطحاء، ومضت عدة دقائق لم ير أية عربة، فما كان منه إلا أن مشى على قدميه فالمسافة قريبة، لكن البياض يشغله وهو يمشي، عبر الشارع مسرعاً وكانت السيارة العابرة أسرع منه، فرمت به بعيداً وصاح (البيض... البيض).
استرد وعيه الذي فقده لمدة لا يدري كم هي، فتح عينيه ليصدمه بياض كل شيء حوله، الغرفة التي يستلقي فيها، والملاءة، وكذا الممرضة ترتدي بياضاً، كل شيء أبيض اللون ناصع، لكنه رأى أن سلامته أكثر بياضاً. ولما عاد لغرفته وجد المزايدة على أثاثه قد انتهت وبيع كله قبيل وصوله؛ لأن صاحب الغرفة فقده ثلاثة أشهر، فلم يكن أمامه إلا إخراج ممتلكاته وبيعها، فكان اللون الأبيض شبحاً يخيفه ويكرهه مدى الحياة.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|