في حوار مفتوح مع الشاعر إبراهيم العواجي عمري.. بدأ يوم أعلنتُ استنكاري للضجيج من حولي
|
أجرت الحوار: ناهد أنور التادفي
فضاء من السحر، وروح من نغم تشدو على وتر النبض، يطفو فوق كمّ من المواهب مجتمعة في صدر شاعر حقق الحضور اللافت والتفرد الإقليمي والقومي.. وأقول شاعر لأنه في كل أمر يحمل نبل وقيمة الشاعر، وهو سرب في طائر وشخصيات في كيان.
إبراهيم العواجي.. عربي... ينبض وطنية، ومثقف أنفق الجهد والوقت ليخلص عبر اطلاع واسع على ثقافات الذات والآخر إلى حصيلة موقف إنساني وطني واجتماعي.. شغل مناصب مسؤولية كثيرة منها (وكيلاً لوزارة الداخلية).
* إبراهيم العواجي.. الشاعر والباحث والإنسان.. متعدد المواهب..فهل نستطيع أن ندخل إلى عالمك الواسع من خلال دلالتك عن نفسك؟ أنا دائرة دون أسوار، وأقرب نقطة لمركزها هو الهم الإنساني الذي أشغلني وحفزني لكي أواصل رحلة التعب مع الفكرة ومع السؤال والبحث عن الإجابة الصحيحة بين الدعاوى المتعددة.
* منذ مدارجك الأولى في (مسكة) وهي وعاء الذكريات وحتى الآن، هل أعطتك الدنيا على قدر ما أعطيتها؟ منحتني تجربة أحسبها غنية، وأخذت مني القليل، مازلت لم أصل إلى حالة التوازن بين ما أخذت وما يجب أن أعطي بالمقابل.
* الطفولة هي الأبقى في قاع الذاكرة، فهل أسلمتك للتعب؟ والأصدقاء لهم الأثر، من تراه الرفيق الأبقى لك، ومن له التأثير على نضوجك؟
أخذت الطفولة البراءة والمباشرة والشفافية ولم تسلمني للتعب، وإنما غرست فيّ مضادا لفيروس اليأس والاستسلام.. والأصدقاء مثل الأيام والمحطات في رحلة الحياة منها ما تعاودها، أو تود العودة لها، ومنها ما طمرته أو طمرتك التجارب الأخرى، ويبقى حب المعرفة والسعي نحو الأفق الآخر هو السبيل للكمال.. والقناعة بأن ما وراء ذلك الأفق يستحق عناء السفر.
* كيف ينظر د. العواجي لمسألة عدد السنوات في عمر الإنسان؟ ومتى تبدأ مرحلة التشكل؟ وأي المراحل كانت أسبق إليك.. أشعر أم العمل الوطني؟
عن عمري بدأ يوم أعلنت استنكاري للضجيج من حولي ولم أفلح في تنظيمه وربما يمتد بعد مماتي إن أنا أفلحت في إبداعاتي، ومرحلة التشكل سلسلة من الوقوف والزحف والمشي والجري على طريق متصل أحياناً ومتقطع أحيانا أخرى.. هكذا كانت، أما كيف أنظر إليها الآن فنظرة القانع بما مضى، الطامح لما سيأتي.. الشعر أقرب إلى قلبي، والواجب الوظيفي أقرب إلى عقلي، وهما مرتبطان بذاتي بكل مكوناتها، ولكل منهما أثر على الآخر.
* شهدت مرحلة الخمسينيات قفزات واسعة على كل المستويات تقريبا أهمها المستوى الوطني التحرري، تشكل الأحزاب والتجمعات.. إلخ، والنهوض للبحث عن حداثة لأجناس الإبداع.. أين العواجي وسط هذا؟ وما مدى تأثرك بتلك المرحلة؟ كنا هناك بالطبع وتأثرنا ببريق المد كحالة انفعال طبيعية ولحسن حظي أنني لم أتقوقع داخل دائرة مغلقة، وقد حمدت الله بعد أن نضجت وتبين لي زيف تلك الدعوات أو هشاشتها لأنها استنزفت كل مشاعر الشباب وأوصلتهم إلى الهزيمة والضياع، وأذكر في مرحلة المراهقة والشباب لم يكن أمامنا من بدائل لقضاء الوقت سوى القراءة، والقراءة، والقراءة.. فقرأنا كل ما هو متاح وغير متاح في كل وأطياف المعرفة، لذا من الصعب أن نصنف أو نقولب اتجاهاتنا ومواقفنا، وهذا فضل من الله عظيم.
* هل كنت تخطط لمستقبلك منذ تلك الفترة السابقة؟ وهل ذلك التخطيط أوصلك إلى ما وصلت إليه؟ طبعا لا، عدا أنني قررت أن أواصل الدراسة والبحث حتى تقف بي الحياة، وقد تجاوزت بعض المحطات السهلة، وبقي أمامي طريق طويل لا نهاية له اسمه المعرفة.
* فلتسمح لي سيدي أن أنتقل إلى جانب آخر في شخصية العواجي.. في حالة الشعر توحّدت مع الوطن، فهل تحقق ذلك التوحد على مستوى العمل الوطني من خلال الوظيفة؟ وكيف؟ العمل الوظيفي مسئولية وواجب وطني، ولابد أنهما (الشعر والعمل الوطني) يتحدان في كل مكونات ذاتي، قلبي وعقلي كما يتحدان برمز هويتي: الوطن... الشعر بالنسبة لي هو المساحة الحرة التي يركض ويمرح فيها وجداني وحسي وقلمي، والوظيفة هي المجال الذي أمارس فيه إنسانيتي ومبادئي تجاه الوطن والناس الذين تشرفت بخدمتهم كما هو واجبي، ولا أعتقد أن أحد العملين يطغى أو يتعرض مع الآخر، فأنا عندما أمارس عملي أسقط كل اهتماماتي الأخرى عدا ما له علاقة بالعمل يرافقني إحساس بالمسئولية بكل اعتباراتها، أما حين أكتب الشعر فإنني أكون مجردا من التفكير بالوظيفة وتحكمني الفكرة والمفردة والصورة.
* تحضرني الآن بعض الصور التي جاءتني من كثيرين ممن تعاملوا معك في تلك الفترة من مواطنين أو مقيمين يحتفظون لك بذكرى طيبة ومواقف نبيلة أثرت إيجابا في حياتهم، حتى عندما تركت العمل الوظيفي لم تغب عن الساحة أعني ساحة العمل الوطني، فهل يمكن أن تكون وزارة الداخلية هي محرّضك إلى دخول هذا المعترك الصعب.. وكيف تنظر إلى هذه التجربة؟ لا أظنني عملت أكثر مما أملاه علي واجبي، فأنا عينت لخدمة المجتمع من خلال مسئوليات وظيفتي الواسعة، ولأنني أعرف أن توجهات رؤسائي تشجع على تسهيل أمور الناس انطلاقاً من سياسة الحكم وطبيعة علاقته بالمواطنين.. وأعرف أنني تعلمت من الناس وعنهم أكثر مما تعلمته على كرسي الدراسة، ولا أعتقد بأن المسئولية الوطنية تحدد بقرار التعيين، ولا تنتهي بقرار انتهاء العمل، فهي تكليف ذاتي ينشأ مع الإنسان ويكبر معه.
* دعنا أيها الكريم نتحدث قليلاً عن الحلم.. فلكل أحلامه، قد تتحقق، وقد لا تتحقق، وهي في دروب متعددة، أحلام الذات (الشباب النجاح الصحة الحياة) وهناك الأحلام المستمرة التي لا تنتهي، والأحلام التي تتعلق بالآخرة (البيت الولد، الوطن.. إلخ) وإلى أي مدى تتماهى مع واقع الحياة؟ لا حدود للحلم فأحلام النوم حشرجات كامنة لا تخضع للسيطرة، وتبقى ما بقيت الحياة.. أما أحلام اليقظة فهي مزيج من الأحاسيس التي تتدرج من محض الخيال إلى ما ترغبه النفس في غياب المرغوب فيه، والحلم لا يشيخ ولكنه يتحول إلى حلم آخر بمواصفات أخرى، وهناك تناسخ للأحلام لا نعرف كيف يتم ولا نتحكم فيه، ويظل حالة دائمة مع دوام الحياة.. بعض الأحلام ذهبت مع من ذهب، وبقي فيّ منها ما يلامس الحب، وربما تحققت وانتهت، وربما أصبحت جزءا من أحلامي.
* الحلم الدائم .. شهادة البقاء في الحياة... أين أنت من هذا القول؟ الحلم نعم، أما الديمومة فلا؛ حيث تتطور الأحلام مع تطور الوعي والتجارب والتطور.
* كيف تقرأ الوجوه.. هل من منظار شعري أم اجتماعي أم شخصي كرد فعل؟ اقرأ الوجوه من منظار إنساني بكل أبعاده الوجدانية والاجتماعية.
*كل منا عرضة لمواجهة أمور قد تخرجه عن السيطرة على أعصابه ومشاعره وتضعه في حومة ارتباك كيف تواجه مثل هكذا حالة؟ لأنني مؤمن بالله وقضائه وقدره فإنني وإن أزعجني هذا الارتباك إلا أنني أعتبره من طبيعة الحياة لذا أتعامل بإيجابية مع كل إفرازات الحياة.
* أستاذ الشعر الإنسان إبراهيم العواجي برأيك هل يعاني الجيل الجديد من أزمة؟ إذا كان الجواب نعم فكيف يمكن أن تلخصها؟ وفي سؤال شبه تقليدي: هل تدخلت في تشكيل نظرة وشخصية أبنائك للحياة.. وما أثمر ذلك التدخل؟ نعم بل بأزمات أولاها أزمة العلاقة مع الأهل أو الجيل السابق.. فجوة الأجيال كما يقال وآخرها ارتباك الهوية الثقافية أو تأرجحها بين قيم المجتمع وعادته من جهة، ومخرجات العولمة القوية ذات الجاذبية الخاصة من جهة أخرى، وعندما نتعامل مع أبنائنا كأصدقاء ونصدق في توجيههم فإن النتيجة ستكون إيجابية.. علاقتي بأبنائي تقوم على أساس التوجيه الإيجابي من خلال بناء الوعي السليم لديهم.
* الحداثة التي قلبت الكثير من المعايير والمفاهيم التي كانت سائدة .. وثورة الاتصالات وقيم العولمة والإيقاع السريع.. ترى كيف ينظر إبراهيم العواجي إلى الجيل الذي ولد وتشكل وسط هذه المعطيات؟ لكل جيل لغته ومفرداته ومفاهيمه وقيمه ودرجة ابتعاد هذه منظومته الاجتماعية يتوقف على مدى قدرة هذه الأخيرة من الاقتراب من الأولى ولو شكلا على أقل تقدير..والسؤال هو كيف تستطيع إقناع هذا الجيل بتفوق قيمه وخصائص هويته، وكيف نكيف هذه لتلائم اهتماماته الجديدة وتحفزاته.
* ما هو مفهوم الحرية عندك (الحدود والمحاذير)؟ وكيف تنظر إلى مثلث (العمر، المستقبل، الأحلام)؟ الحداثة بمفهومي هي الانعتاق إلى ما دون حدود حقوق الآخر، الإنسان أو القيم الجماعية، وهذا المثلث الإشكالي هو مسلسل متداخل الحلقات نحاول التحكم في بعضه ولا إرادة لنا ببعضه الآخر.
خلد ضياءك في دمي
فالليل يغزو ناظري
في كفه همس الهجي
ع وخيمة للساهر
* من شعرك وقد رددته بمناسبات كثيرة.. لماذا؟ وأيهما الأقرب إلى قلبك قراءة الشعر أم نظمه وكتابته؟ أقول هذا للفجر، للأمل، للحب، للحرية، لأحلام اليقظة.. وما من شك في أن كتابتي للشعر هي الأقرب إلى ذائقتي، وقد أصبحت لازمتي اليومية.
* بعض النقاد (واعذرني) تحدثوا وكتبوا عن تأثرك بالسياب وأبي ماضي وغيرهما من كبار الشعراء.. ويذهب البعض إلى أن الصوت الوجداني في شعرك أعلى من الصوت العام والقومي كيف تنظر إلى ذلك؟ أولا أنا شاعر يرسم بألوانه الخاصة التي تشكلت خلال رحلة طويلة بصحبة القصيدة والموقف، وربما تأثرت بهذا وذاك تلقائيا، ولكن لكل رسام منهجه، وثانياً فقد ولدت كشاعر همه قضايا الوطن ولم تظهر قصائدي الوجدانية إلا في مرحلة متأخرة بعد أن تطورت القصيدة لدي ليصبح وجهها قزحيا تختلط فيه الألوان والهموم لدرجة قد لا تعرف فيها هوية القصيدة.. وطنية أم وجدانية.
* على خلفية ما يقال: إن زمن الشعر كديوان للعرب قد ولّى، واحتلت الرواية مكانه، برأيك أين يقف الشعر الآن في خارطة ما تنتجه الثقافة العربية؟ وما موقفك من الشعر الحديث والكلاسيكي وأين أنت منهما؟ ثم ألم تفكر في التحول لكتابة الرواية بدل الشعر لحاقا بالركب؟ لأنه زمن ثقافة الإنترنت والوجبات المعرفية السريعة يقف الشعر الآن في مؤخرة المؤخرة أما عن زوال واحتلال فالأصل في الاعتراف بالواقع وصولا إلى إعادة منهجهم في تقديم أنفسهم إلى المتلقي او محاولة الهجرة إلى الرواية لمن يملك الموهبة، وهناك شكلان يكتنفان هذه التجربة قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وأنا أكتب الأولى منذ 30 عاما، أما الثانية فلا أفهمها، وإن كنت أعشق النثر الجميل، أما عن التحول فأنا إنسان مستقل لا تجرفني التيارات الطارئة.
* ما رأيك بالمهرجانات الشعرية العربية. وهل تجدها تقدم للشعر ما كانت تقدمه سابقاً؟ ربما تكون هي المسرح الوحيد الباقي للشعراء وعيبها التسلسلية والأحادية المدرسية والإقليمية تحكم أكثرها.
* منذ المداد ومرورا بنقطة في تضاريس الوطن، هجرة القمر، قصائد راعفة، مد والشاطىء، أنت وشوم على جدار الوقت والمجموعة الكاملة.. وانتهاء ب فجر أنت لا تغيب.. هل كان الشاعر العواجي يتحرك من خلال مشروع شعري ما؟ أم أنه ظل ينسج ما بداخله شعراً؟ كل شاعر أو مبدع في كل فنون الأدب والثقافة ينسخ ما بداخله متفاعلاً مع بيئته ومؤثراته وفي إطار هذه العملية يتشكل إبداعه، وأنا لست استثناء.
* ماذا حمل الشعر من عنانك، ومعاناتك؟ كل ما استطعت أن أقذف به من خارج مواقدي النفسية.
* الوطن هو الحاضر الدائم في أشعارك.. كيف ترسخت هذه العلاقة الطويلة دون تكرار؟ لأن الوطن هو الهوية والقضية والعنوان، المحطة الأولى والأخيرة في رحلتي الأثيرة.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|