التوظيف الشعري (4)
|
كان من الطبيعي جداً أن يظهر الأدب في المملكة العربية السعودية اصلاحياً بصفة عامة فقد ورثت الثقافة العربية على وجه العموم، والجزيرة العربية على وجه الخصوص التخلف الفكري، ولم يكن تخلفاً سهلاً، قابلاً للتغيير والتجديد، بل كان هناك من يدافع عنه بشدة واستماتة في سبيل بقائه، إما أن يكون ذلك المدافع مستفيداً من التخلف فائدة شخصية، وإما أن يكون من الذين يخافون من التجديد، لضحالة الفكر، والغالبية العظمى من الفريق الثاني، حيث ظهر هناك من يحارب التقدم، ويرى أنه مضر بالأمة، إذا جددت وغيرت في أسلوب الحياة, فسيتغير الدين، وذلك نابع من حرصهم على المعتقد، فرفضوا التعليم الحديث، والعلوم الحديثة، القادمة من الغرب، بعد ظهور الآلة، وخاصة ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، التي كان لها الدور الأكبر في تغيير الكثير من المفاهيم التقليدية، وظهر فكر التكفير عند من هو على علم ومن هو على عكس ذلك، وكُفِر أهل البلد الفلاني، لأنهم يتعاملون مع الغرب، وسيتعلمون المنجزات الحديثة، ونصب البعض لهم العداء، وحرم التعامل معهم، حتى في المأكل والمشرب والتعاملات التجارية، حرَّم لبس الساعة، واستعمال جهاز المذياع (الراديو) وصدرت فتاوى بهجر من يتعامل معهم، وقدر ذلك بثلاثة أيام في بعض مناطق الجزيرة العربية (نجد) عند بعض المتشددين، على سبيل المثال، ومثل هذا التيار مجموعة نذرت نفسها لذلك، ومن أكبر من نذر نفسه لهذا المجال الشيخ عبدالعزيز العلجي، الذي خصص نفسه لتكفير أهل الكويت، وصار بينه وبين الأستاذ عبدالعزيز الرشيد، صاحب مجلة (الكويت) ملاحات حول الاصلاح، وكان العلجي يحرم كل شيء في هذه البلاد، حتى الماء كان يحمله معه من الأحساء، وهو الذي دبّر عملية الاغتيال للشيخ (رشيد رضا) على يد أحد أنصاره، عندما زار الكويت، لكن الله لطف بالشيخ، فجاء من طريق آخر، غير الطريق الذي نصب له فيه الكمين، ومن أشعاره في تحريم التقدم والأخذ بالحديث من الوسائل واعتزازه بالجمود والتخلف، قوله:
يا عائباً منا الجمود وطالباً | منا التقدم إنك الحيران | إن التقدم لو علمت فخسة | جاءت بها الأوروب واليونان |
والعلجي ورث هذا الفكر المتخلف من الذين سبقوه من النظامين، الذين حاربوا كل جديد، بغير علم، ولم يكن لهم أسلوب في الحوار غير التكفير والشتم والسباب، تكفير الفرق المسلمة، من غير مذهبهم، أو الفئات الأخرى من سكان البلاد، مثل البدو، والصلب والشيعة والاسماعيلية والصوفية، وغيرهم. ففي أواخر القرن الثالث عشر الهجري، أواخر التاسع عشر الميلادي، صدر الدستور العثماني (18761293) وتصدى له الكثير من علماء المسلمين العرب والترك، حتى الذين لم يكونوا من المتدينين، والسبب أن فيه تسامحاً مع المذاهب الاسلامية فيما بينها، ومع الفئات الأخرى من أفراد الامبراطورية، من غير العرب والمسلمين، لكنه تعارض مع الكثير من المصالح الفردية لبعض المتنفذين في السلطة، وبعض القوى السياسية الأخرى، وكان مدحت باشا (1822 1885) من الذين عملوا بالدستور، وكان اصلاحياً، يقول في مذكراته، عندما زار الأحساء بعد صدور الدستور:(وكل أهل تلك البلاد في القرى وفي بيوت الشعر يدينون بدين الاسلام، ومذاهبهم خمسة.. ولما دخلت الحسا في قبضة الحكومة عاد اليها أصحاب بقية المذاهب) وهذا دليل على أن العثمانيين لم يكونوا متطرفين لمذهب دون آخر، لكن الأطراف الأخرى كانت تشعر بحساسية مفرطة ضد الأمن الفكري والابتكار والتجديد، وتتهم كل من له صلة بهذا المنهج بالكفر والخروج على الدين، يرى الدكتور عبدالله الحامد، أن للسلفيين موقفا من هذا التجديد، فيقول:(.. فكثرت ألفاظ القذف الديني، واستخدام التكفير استخداما واسعاً، والتشدد في بعض الأمور، كقضية تحديد منهم المشركون ومنهم الكفار، وتكفير البدو والصلب، وتحريم ذبائحهم، وتكفير الدولة العثمانية، وتحريم السفر الى ما يسمى بلاد المشركين). | ومن هذا الموقف المتحيز، والرافض لكل جديد وعدم التفاهم مع الآخر، ظهر تيار الشتم والسب لكل من يخالف الرأي، الذي يسير عليه السلفيون، وقد مثلهم أحمد بن مشرف، وهو القائل في تكفير من يعمل بالدستور العثماني، أو من يتعاطف معه أو لم يكفر أهله فهو كافر: |
ويحكم بالدستور بين ظهوركم | وحكم النبي المصطفى ليس يذكر | فمن لم يكفر كافرا فهو كافر | ومن شك في تكفيره فهو أكفر |
وإن كان ابن مشرف قد صرح بالتكفير لمن يعمل بالدستور العثماني، أو يصدق به، فإن ابن سحمان قد أرسل ألفاظه غير المؤدبة، في منظومة تعج برائحة الطائفية، ليس فيها من نظمه إلا جملة الجار والمجرور في آخرها، والباقي من قول ابن مشرف، فيقول: |
ومن لم يكفر كافراً فهو كافر | ومن شك في تكفيره (من ذوي الطرد) |
وما الرفض للأتراك في غمراتهم | هو الدين يا معتوه لو كنت مبصراً | ولكن بتكفير لهم وبشتمهم | جهاراً وتصريحاً وغيباً ومحضراً |
ولعلنا نلاحظ حدة الأسلوب الذي اتخذه ابن سحمان، في ألفاظه، مثل (يا معتوه، وشتمهم، وغيبا) وهذه ألفاظ لا يمكن أن تصدر من مصلح، يريد الاصلاح، والدعوة بالتي هي أحسن. | وبما أن الأديب السعودي وجد هذا التناقض العجيب الغريب في الثقافة المحلية، والعالم من حوله يتقدم خطوات نحو الأمام، وفكر بلاده ما زال في مكانه يراوح بين التكفير والتناحر على أتفه الأمور، فلابد أن يكون له من ذلك موقف الداعي للاصلاح، وأولى خطوات الاصلاح في مجال الأدب، وحيث إن الشعر هو الحائز على أولويات الثقافة والاجتماع، فلابد له من محاكمة الفكر الشعري، القائم على التقليد والتكرار واجترار ألفاظ السابقين في جمل تخلو من العمق الفكري واللغة المعبرة عن حاجات المجتمع النامي، في البلاد العربية، وخاصة، مصر وبلاد الشام، وكان النقد هو المسؤول الأول عن تقييم وتقويم هذا الفكر الشعري، القائم على التقطيع والتخميس وتقليد السابقين، بلا إبداع، وتصحيح النقد القائم على التقريظ، وعالج لكثير من النقاد هذه القضية، من خلال الصحافة، التي أعطت المساحة لنشر الفكر النقدي، بما فيه من السيئات والحسنات، وكان لجريدة أم القرى الدور الأكبر في نشر الشعر ونقده على السواء. لكن ظهور الشعر الاصلاحي في هذه الجريدة في العهد السعودي كان جاهزاً مسبوقاً بظهور الفكر النقدي الاصلاحي، المركز على الفكر الثقافي الاجتماعي، أو النقد (الثقافي) كما يسمى اليوم في الدراسات الحديثة. يظهر ذلك من خلال ما جمع في المؤلف النادر. من حيث الأقدمية (كتاب أدب الحجاز 1344) جمعه محمد سرور الصبان (ولد 1316)، وظهر فيه مدى حماس الشباب الحجازي للاصلاحي الثقافي، ومن ثم الاصلاح الاجتماعي، وذلك بدافع الشعور بالنقص مما يجدونه في البلاد العربية المجاورة (مصر وبلاد الشام) فهناك من الشعراء من صاغ قصائده رمزاً، ومنهم من صرح بها. فالصبان من أقدم من رمز للاصلاح، في قصيدته (يا ليل) ويعني بالليل التخلف، ومنها قوله: |
يا ليل ما للبدر يمرح | في السما شرقاً وغرباً | يبدو فيضحك ساخراً | منا وطوراً قد تخبّا |
وله قصيدة أخرى يدعو فيها للاصلاح والنهوض (مباشرة ودون رمز) مثل الأمم التي أخذت الطريق الى النهضة والتقدم بفضل العلم، والاستفادة من خبرات الآخرين، في المجالين (العلمي والفني) وطورت أدواتها الاجتماعية، بمحاربة العادات الضارة، والموروث التقليدي البائد، فيقول: |
من لي بشعب نابغ مستيقظ | يسعى لهدم رذائل العادات | من لي بشعب عالم متنور | ثبت الجنان وصادق العزمات |
إن البلاد بأهلها فبجهلهم | تشقى وتلقى أعظم النكبات | وإذا توحدت الجهود لخيرها | سعدت ونالت أعظم الدرجات |
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|