Culture Magazine Monday  09/07/2007 G Issue 206
الملف
الأثنين 24 ,جمادى الثانية 1428   العدد  206
 

آل عمر بين شجاعة المواجهة وزفرة الموت
د.عبدالرحمن بن حسن المحسني

 

 

عرفت علي آل عمر عسيري نصا أكثر منه شخصاً، فسأنطلق من نصه لقراءة شخصه.

كنت وأنا أقرأ المجموع الشعري لعلي آل عمر الذي أصدره نادي أبها الأدبي أتحرك في القراءة وفي ذهني موضوع (هواجس الموت في شعره) لكنني تفاجأت أن قصائده ملأى بالحياة، وأن أغلب قصائده مبتهجة، تتصارع مع الحياة في شجاعة، تجوب الأحداث بدءا من قرية (الشبارقة التي غنى لها وعنها نصوصا مثل)، (أسئلة الوجه الحنطي)، ونص (لافتة) التي يقول منها:

أنا من صبح القرية

في الوهج القادم عرسا وسنابل

لا أحد يعرف صبح القرية

ألق الطل على ناصية الرمل

ثغاء الشاء المتعرج في رائحة الهمة والبن

وبخور الجاوي

وعصى الراعي ينبض مقبضها

وتئن مسحاة ومناجل(1)

إلى وطنه الكبير المملكة العربية السعودية التي كتب لها نصوصا في ديوان أسماه (قصائد للوطن ) ومنها نص (جيل الفهد )، ونص(حامي التراث) الذي كتبه في خادم الحرمين الملك عبدالله، ومنها يقول:

حملتني إليك أبها السلاما

واشتياقا ومأملا وهياما

والتفاتا إليك من قمة الحب

ولاء وعزة واعتصاما

يابن خير الملوك عاشت وعزت

واستقامت به البلاد إماما(2)

إلى أمته العربية التي سعى جاهدا لتحليل أوصابها في نصوص مثل: ،(تفاصيل الخريطة)، ونص (أشهد ألا عدلا) ،التي يقول فيها:

أبدأ من أين أنا أبدأ يا بيروت ...؟

(شارون ببابك يشرب في جمجمة منخوبه

ويغني ثملا..

زوينادي كل جناة الشر ..تعالوا

فهنا أحلام الجنة منصوبه

وهنا أعداء يهودا قد جاؤوا بقماقم مقلوبه ..(3)

كل ذلك، وعلي آل عمر يتواجه مع الحياة بشجاعة وتفاعل حتى إذا جاءت لحظة الفراق الأهم في حياته، تخلى عن كل تلك الشجاعة، ووقف على قبر أمه يبكي ويبكي كطفل في نص جعل عنوانه (بكائية طفل)، وتعد علامة فارقة في حياته وشعره .ووفاة أمه في الفعل الاجتماعي تعد منطقة مفصلية في حياته، وهو ما أشار إليه المقربون منه كمحمد زايد وأنور خليل وغيرهما.

عنون قصيدته (بكائية طفل) والعنوان يمارس سلطته الظاهرة على النص، ويشكل اختزالا لمعطيات النص الذي هو عبارة عن دموع ذارفة وبكاء طفل يردد (أمي، أمي) سبع مرات بما لهذا الرقم من تشظيات.

والنص من بدايته يسفه فيه الشاعر- وهو الوقور دائما - حتى المعزين له في أمه الذين يرددون عبارات العزاء الرتيبة التي يرى أنها لا ترتقي لمصابه:

أحسن الله عزاءك - أحسن الله عزاءك

هذه الدنيا جراحات وآلام وقد شابت صفاءك

فعلها آلمنا...آلمنا

رغم أنا ذات يوم سوف نلقى ما أساءك...

قالها الناس وما أكثر ما قالوا.. وما أقسى المقاله

كان شرخا في جدار الصمت

وهنا في عظام البخت

زلزالا أزاله

ويمضي الشاعر باكيا واللازمة التي يكررها ويناجي بها هي (أمي) بما لياء المتكلم من استنباتات تقارب أمه منه أكثر ولذا أخذ يرددها كطفل صغير فقد لعبته أو أمه:

غبت يا أمي ومن كالأم يجتث الأسى

غبت يا أمي ومن كالأم في كل النسا

غبت يا أمي فويلي من لعلي وعسى

حتى إذا أيقن أنها لن تعود أبدا بدأ في ترداد التمني الذي يعلل به نفسه كما الأطفال حين ييأسون من أمر ما، لكنه هنا يتمنى بحرقة الكبار الباكية:

ليتني كنت لعينيك من الرمل وقاء

ولجنبيك وطاء

ليتني كنت لكفيك من الدود خباء

ليتني كنت الفداء

فأنا الميت يا أماه من غير رثاء

والشاعر هنا يصل مع أمه إلى درجة التوحد والفناء معها في القبر، حين يتخيل مآلها، وما يؤمله من المستحيل، فيبدأ في صنع المفارقات المستحيلة حين يتخيل أمه في قبرها، ويتخيل نفسه عينها وجنبها وكفها ليقول في الختام إنه هو الميت لا هي!.

فأنا الميت يا أماه من غير رثاء

ويعود الشاعر بعد ذلك ليلتف على نفسه ويجلدها بقسوة عنيفة وكأنه كان سيقضي أمرا لوكان، ويوظف اللغة هنا لنقل حالة من شؤم الرحلة التي قضت فيها أمه وهو بعيد عنها فنجد ألفاظا مثل (شؤم، عذاب، الغراب، مفلسا، طاوي العياب ، يقول:

عدت من رحلة شؤم وعذاب

ناعقا في مسمعي ألف غراب وغراب

متعبا أشكو النوى

مفلسا طاوي العياب

وبرغم لحظات اليأس في المقاطع السابقة إلا أنه يعود إلى التناغي مع أمه، وإلى التلذذ بذكرها مرددا ( أمي.. أمي ...) بلهفة الطفل الباكي الذي اختلطت عنده الأمور:

عدت لا آسى على شيء سوى فقدان أمي

عدت لا أقوى على شيء سوى حبي لأمي

عدت لا أذكر شيئا أي شيء غير أمي

ولا يجد لنفسه عزاء من صدمة الحدث إلا التشبث ب ( قل هو الله أحد)، كمفزع من الألم:

رب عفوا ...رب لطفا ... قل هو الله أحد (4)

لكن هذه القصيدة التي كتبها في مطلع شاعريته، وضمنها ديوانه( قصائد من الجبل)، وكتبها عام 1404 هـ، لم تثنه برغم مرارة حزنها وحرقتها التي قال في ختامها أنها ستحزنه إلى الأبد:

من لروح سكن الهم بها حتى الأبد (5)

أقول برغم هذا الحزن الغامر إلا أن علي آل عمر قد تجاوز لحظات الحزن، واتجه إلى معركة الحياة بشجاعة وضراوة، تمثلت فيما أشرنا إليه من نصوص تعد حركية آملة جاب بها أرجاء وطنه الكبير من قريته إلى أمته كما أشرنا. وباستثناء نصوص محدودة، وقف فيها عند لحظة الموت إلا أننا نجد علي آل عمر فيما كتبه بعد هذا النص واقعيا في طرحه لا يستبد به الحزن كما استبد به في مرثية أمه، بل يأتي ذكر الموت كلازم من لوازم التجربة، كنص ( القتلة )، الذي يتحدث فيه (عن فتاة مسلمة قتلها أحد الشيوعيين وهي تحتضن ابنها الرضيع

فماتا معا) وفيها يقول:

سكرت الموت هابت من تفاصيل الدماء

وعيون أجهشت -مما تراه بالبكاء

هالها المصرع لكن أيقنت

أن من مات شهيدا في سبيل الله ترثيه السماء(6)

ومثلها قصيدته: أشعلها وتوكل التي كتبها في سعيد الحوتري:

كم أنت جميل وعلامة

كم أنت عصي

لم تشرب من ثدي نعامه ...!

أشعلها وتوكل

فالموت ألذ وأحلى

من طعم سلامه (7)

وفي قصيدة (الملًكان) تحضر لحظات الآخرة وتذكر الموت لكنه يحافظ على توازنه الواقعي في هذه القصيدة التي تشكل لحظة مراجعة وندم، يقول:

يا أيها المتلقيان

عن اليمين والشمال

في فسحة الزمان والمكان

عليكم السلام

يا حارسان للفضيلة

وراصدان للخطيئة

في الصحو والمنام

عليكم السلام (8)

وفي نص مقاطع من تعب الطفولة يقول في خاتمتها ذاكرا المآل:

أيا أهلي الراحلين

إلى جنة الخلد يا مطعمي الأرض أقدامكم (9)

ويلاحظ أن علي آل عمر كأنما أفرغ حزنه كاملا في نص مرثية أمه، فلم نعثر في نصوصه المنشورة بعد على قصيدة تتناول حدثا بذات الحرقة والدموع والحزن، وكان كل حديثه عن الموت في النصوص الأخرى لا زما طبيعيا تستدعيه التجربة دون أن يقف لديها متفجعا باكيا، بل أغلب نصوصه يتعاطى مع الحزن والموت فيها بعقلية وواقعية . وحقا إن علي آل عمر كان إلى الحياة أقرب، فلم نجد في نصوصه تلك الروح الساخطة على الحياة والأحياء التي أحاطت بالشعراء من جيله بل كان شجاعا في تعاطيه مع الحياة، واقعيا في طرحه وتصوراته، والنص الأوحد في مجموعه الشعري الذي يشكل علامة مستقلة بذاتها وتصوراتها وأبعادها الأيديولوجية والفنية هو نصه (بكائية طفل) الذي تعاطت معه هذه الدراسة وهو نص يستحق المعاودة والنظر .

***

(1)رماد الوجه الحنطي، المجموع، مطابع المستقبل، من إصدارات نادي أبها الأدبي، الطبعة الأولى، 1426هـ ص 26.

(2) قصائد للوطن ص 120

(3)قصائد من الجبل 17-23

(4)قصائد من الجبل، ص 15، 16

(5)المرجع السابق ص 16

(6) قصائد غاضبة، ص 96.

(7) قصائد واقفة، ص 276.

(8) قصائد غاضبة ص 108

(9)قصائد للوطن ص 147.

- أبها


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة