الماجد والعجيان والذكريات الجميلة محمد بن عبدالرزاق القشعمي
|
قبل نصف قرن إلا قليلا وبالتحديد عام 78/1379هـ كنا طلابا بالمعهد العلمي بأم قبيس بالرياض بما قبل المرحلة الثانوية "التمهيدي" مجموعة من الشباب المتحمس والمتنافس من خلال المذاكرة بحديقة البلدية أو من خلال ما يكتب بصحف الحائط ومنهم الاصدقاء فيما بعد محمد العجيان، صالح الصويان، مسفر سعد المسفر، عبدالرحمن الصالح الشثري، عبدالعزيز العمري، وكاتب هذه السطور وغيرهم كثير لا تحضرني أسماؤهم ولا ننسى من كان ينافس هذه المجموعة من فصول أخرى قبلهم أو بعدهم مثل: الدكتور محمد بن عبدالرحمن الربيع وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية والأساتذة صالح الراجحي سفير المملكة بكوريا الجنوبية ومحمد بن عبدالله الطيار وحمدبن دعيج الدعيج وعلي مهدي الشنواح وأحمد سعيد الجابري والأخيران من أبناء اليمن المثقفين ومع بداية كل شهر يبدأ التحفز لإصدار وتعليق صحف الحائط الجديدة وحفظها داخل برواز مقفل حتى لا يعتدي عليها المنافسون بتمزيق أو تشويه أو تحريف، ومع ذلك يبدأ الهجو والقذف بالعبارات أو الاستهزاء والقدح ببعض المقاولات والعبارات التي ترد في هذا العدد أو ذاك والرد التشهيري بها. والاجتماع لصياغة مقال متفق عليه ليلجم الصحيفة المنافسة وأصحابها، واستعانتنا بزميل يتفنن أنواع الخطوط التي تميز بها وهو ابن مدرس التفسير والتجويد عبدالفتاح قاري القادم من الهند، واسم ابنه عبدالعزيز.
وأذكر من تلك الصحف الحائطية المتنافسة في المعهد "النهضة الأدبية، الهداية، المجد، الربيع، الرسالة، الحرمين، الأنوار، دعوة الحق، الشباب، صوت المعهد، الطليعة، الهدى، العلوم".
أعرف أن الصديق محمد العجيان يُحضر بين يوم وآخر بعض الجرائد التي كان يراسلها ببعض الأخبار والطرائف ويطلب منا أن ننشر فيها ولو ضمن باب التعارف بصورنا وهواياتنا، مثل جريدتي الخليج العربي بالدمام أو البلاد السعودية بجدة، وكنت أتمنى أن أماثله أو أصبح مراسلا صحفيا ينشر اسمي مذيلا لمواضيع أو أخبار اجتماعية. وأذكر أن والدي رغب أن يقضي شهر رمضان لعام 1379هـ بمكة المكرمة معتكفاً بالحرم فأخذني معه، فبعد أن وصلنا مكة ذهبت لمكتبة بباب السلام واشتريت منها عددين أو ثلاثة من الصحف أذكر منها الندوة والبلاد السعودية، لأرسلها بالبريد للزميل الصحفي النابغة، فسألت صاحب المكتبة عن البريد فأشار إلى مبنى مجاور فذهبت له بعد أن دفعت قيمة الجرائد التي لم تتجاوز 12 قرشاً فأخذ البريد مني أكثر من ثلاثة ريالات كأجرة لارسالها للرياض، ولم تصل لصاحبها إلا بعد أكثر من عشرين يوماً أي بعد اجازة العيد.
بعد سنتين من هذا التاريخ ترك العجيان الدراسة ليتفرغ لادارة مكتب جريدة البلاد بالرياض وبعد سنة التحق بالعمل الحكومي بديوان الموظفين العام، ولحقته للعمل بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، "رعاية الشباب" وبدأ عقد المجموعة ينفرط ليلتحق صالح الصويان بإمارة الرياض وهكذا.
صحيح أن الأخ عبدالله الماجد بمقاله الوفي الوافي "وعشت في حياتهم محمد العجيان.. التوحد مع الذات" الذي نشر بالمجلة الثقافية العدد العاشر في 4/3/1424هـ قد أعادني الى ما قبل أربعة عقود بذكرياته الجميلة، صحيح أن هناك بعض الاخطاء المطبعية في المقال المذكور وهي أخطاء فادحة تقلب المعنى وقد لا يدركها الجميع فقد انقلبت "الدعابة" إلى "دعاية"، و"يستقل السيارة" إلى "يستقبل السيارة" ويحيكها الى يحكيها لزملائه، فأرجو ألا تتكرر مثل هذه الأخطاء غير المقصودة.
أعود للعجيان محمد الذي سافرت معه لأول مرة خارج المملكة الى العراق مروراً بالكويت ثم البصرة وبغداد في اجازة عيد الفطر لعام 1384هـ وصعوبة المواصلات وخوف حديثي عهد بالاختلاط بمجتمعات أخرى لم يعهداها، وكل ما نحمله النزر اليسير من مقتنيات محدودة وبضعة ريالات لا تتجاوز المئة أو المئتين على الأكثر، وأذكر أنه خوفا من أن تسرق منا ولما حذرنا منه البعض فقد تفتق عن أذهاننا ان نفتح فتحة صغيرة في ياقة قميص كل منا وندس بها بعض القطع النقدية الورقية وكذا نحمل إبرة وسلكاً فبمجرد أن نستأجر غرفة في أحد الفنادق المتواضعة إلا أن نقلب مرتبة السرير ونمزق جزءاً منها ونحشر داخل الفتحة ما نحمله من مبالغ قد لا نحتاج إليها في هذا اليوم وما يليه ثم نخيط الجزء الممزق، ونستعيد ما خبئ قبل المغادرة.
لقد كنا مبهورين بأشياء كثيرة ببغداد ومن أهمها حافلات النقل العام وبالذات ذات الطابقين فكنا نحرص على الصعود للجزء العلوي من الحافلة ونبدأ من أول المحطات الى آخرها والعودة من حيث بدأنا، وكذا المكتبات وبالذات الموجودة بشارع المتنبي والمتفرع من شارع الرشيد وبالذات مكتبة الرجيب ومكتبة البيان لصاحبها علي الخاقاني الذي استقبلنا بحفاوة واطلعنا على مجلة كان يصدرها باسم "البيان" ومنها أجزاء نشر فيها تحقيق صحفي وهي تلاحق وتكشف تجار العبيد وهم يأتون من الجزيرة العربية ويتواطأ معهم بعض أبناء العراق لخطف بعض أبناء العوائل التي تسكن على ضفاف شاطئ الخليج من ناحية إيران وتهربهم لبيعهم كعبيد أو "كراجي" للميسورين، وانه كصحفي وطني غيور قد لاحق هذه العصابة وكشف سترهم وفضحهم بعدد متسلسل من هذه المجلة.
أعود مرة أخرى لبدايات معرفتي وزمالتي للأخ محمد العجيان فقد كنا بصف واحد في ثاني تمهيدي ورغبنا المشاركة في الحفل الاسبوعي الذي يقام مساء كل خميس تحت اسم النادي الأدبي ويشارك به الكثير من طلاب ومدرسي المعهد وكليتي الشريعة واللغة العربية إلا ان مشاركة شاعرين هما إبراهيم محمد الدامغ وحمد الحجي شبه دائمة ففي كل حفل لهم فيه جديد. إلى جانب الأديب الظريف أبو أحمد الخيّال والذي كان يلقي قبيل نهاية الحفل قصائد فكاهية تضفي على الحضور شيئاً من السرور والانشراح. وكان لي مع الأخ العجيان مشاركة باسم "مساجلة شعرية" أعطانا مسؤول الحفل أو المشرفون آنذاك على تلك الحفلة عبدالله بن محمد الحقيل وحمد الدعيج مجموعة أبيات شعرية وطلب منا حفظها والتي يبدأ كل بيت بنهاية حرف بيت يلقيه الآخر، وهكذا قمنا بهذا الدور لأول مرة نواجه بها الجمهور ونعتلي منصة الخطابة رغم صغر سننا وما رافق ذلك من اضطراب وخجل علاوة على أن الالقاء كان ارتجالاً، وأذكر انه في نهاية كل حفل يقوم فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله وكان وقتها مدرساً بكلية الشريعة معلقاً على ما ألقي من مقالات أو قصائد مادحاً هذا ومنتقداً ذلك، وكان أكثر ما يتعرض بالانتقاد للشاعرين الدامغ والحجي.
أذكر ان الأخ العجيان يسكن في القلعة بحلة القصمان وكانت شمال شرق الرياض في وقتها وبالشارع الضيق نفسه يسكن أيضا الأخ صالح الصويان وكنت أزورهم وكانت والدة العجيان رحمها الله تستقبلني بحفاوة لم أعهدها من غيرها رغم كف بصرها فكانت تفتح لي باب المنزل لو صادف أن محمداً ليس موجوداً قائلة إنه سيأتي في الحال وسريعاً ما تحضر ما يتيسر من الشاهي أو اللبن أو إذا كان وقت غداء وغيره، وكان وقتها مشجعا رياضيا ومتحمسا لنادي الشباب حتى انه بعد أن عمل بالديوان وتحسن وضعه المادي بنى بيتا جديدا بالقرب من منزله القديم وصبغه بشعار نادي الشباب، الشبابيك خضر والحيطان بيض وكنا نزوره ليالي الجمع لأنه يداوم بقية الليالي في المطابع لملاحقة طباعة الرياض وقبلها في مكتب جريدة البلاد بشارع الثميري.
انتقل عملي الى المنطقة الشرقية ثم الى القصيم فالمنطقة الشرقية فالأحساء مرة أخرى وعلمت بانتقاله لها ورئاسته لتحرير جريدة اليوم عام 1396هـ والتي لم يمكث بها كثيرا إذ كانت والدته رحمها الله لم ترتح لجو المنطقة فلهذا عاد سريعا من باب الوفاء لها وهكذا لم يستطع الابتعاد عن الرياض العاصمة وعن الرياض المؤسسة الصحفية والجريدة.
أشكر للحبيب أبي عادل عبدالله الماجد وفاءه للأصدقاء وتعداد مناقبهم وما يمتازون به من صفات حميدة ومواقف جميلة، صحيح انه قد اعترض على ما ذكرته من انه هرب من الوفد الرسمي الصحفي المرافق لجلالة الملك خالد رحمه الله عند زيارته للسودان وذهب الى بور سودان ليستقل الباخرة المتجهة لجدة ولم يجد سوى واحدة لن تغادر قبل أسبوع وهي محملة بالمواشي، فقد قلت إنها محملة بالغنم والمواشي في نظره أكبر قدراً وحجما من الغنم وقد لاطفه صديق الجميع أبو بدر حمد القاضي قائلا: إنها أنعام كي يخفف من غضبه العابر.
واختتم هذه المداخلة بكشف سر آخر من أسرار شجاعته فبعد ان عدنا من رحلتنا لبغداد عن طريق البر بالسيارات، رغب أبو خالد محمد العجيان أن يجرب وسيلة مواصلات اخرى وهي ركوب البحر لأقرب نقطة من شواطئ المملكة فلتكن البحرين إذاً بعد أن حسم أمر الطائرة وقرر عدم ركوبها وهكذا ذهب مع صديقيه محمد اليحيا وصالح الشميمري وركبا المركب البحري اللنش وهو وسيلة المواصلات الوحيدة وقتها عدا الطائرة وكان بطيئا يأخذ من الوقت أكثر من ثلاث ساعات ويمتاز برخص أجرته إذ لا تزيد على خمس ربيات، بعد أن قطع المركب منتصف الطريق توقف في إحدى المناطق التي تكثر فيها الشعب المرجانية والمرتفعة عن سطح الماء فتعلق المركب بها وكاد يغرق لاختلال توازنه فأعلن "النوخذة" الاستغاثة المتفق عليها برفع العلم ليكون دلالة لمن يمر في المنطقة ليسعفهم، ولكن الخوف بدأ يدب في نفوس الركاب ويفعل فعله بصاحبنا الذي بدأ يصرخ ويبكي بحرارة فأخذ جواز سفره ليرميه بالبحر، فحاول أحدهم ثنيه عن ذلك فرد عليه: وما الفائدة من الجواز طالما أننا سنغرق؟! وهكذا أضاف ركوب البحر الى ركوب الجو في الممنوعات، فلم يصبح لديهم سوى ركوب السيارات وهو بقرارة نفسه يتمنى لو يعود لما كان عليه أسلافه.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|