مضت الأوطان، والأزمان، ولكنني لم أنسكَ ياعبدالله!! |
عفواً سأروي.. ولا تسأل.. وما السببُ؟ |
اليوم عادتْ علوج (الروم) فاتحةً |
وموطنُ العربِ المسلوبِ والسلَبُ |
ماذا ترى يا أبا تمام هل كذَبتْ |
أحسابُنا؟ أو تناسى عرقَه الذهبُ؟ |
مضت الأوطان، والأزمان، ولكنني لم أنسكَ ياعبدالله!! |
فلقد حملتْ لي المدن العربية من صنعاء إلى جدة، فعمّان، فبغداد، فمسقط، سلالاً من إبداع وحضور الأديب اليمني الكبير عبدالله البردّوني رحمه الله. الشاعر الفذ، والموسوعة المتنقلة، الدانية لا العصيّة، الباسمة لا المتجهمة، الناضجة لا الفجّة. |
والواجهة الثقافية المميّزة لليمن السعيد، والابن البار للأمّة واللغة الفخمة، والأدب الرفيع، والمفردات الفطِنة القويّة اللاذعة الحلوة المريرة. |
كنت كلما جلست إليه ازددت طولا، وقد كان له إيقاعه الخاص، وحضوره الساحر الطاغي المميّز والمحبَّب في كل عاصمة ومحفل. فترى الأدباء من مختلف التيارات الأدبية والأجيال من حوله، وترى صدى قصائده وأسئلته الحارقة في عيون الناس ومهجعهم، إذا ما ألقاها بطريقته العذبة. |
لقد كان يملك الحضور تماماً، وبكل أحاسيسهم، بقصائده القويّة الضاربة في تاريخ، وواقع، وتطلّعات العربيّ أينما تقطّعت به الأمصار. |
وكانت واحدة من محاسن شعره، تلك الأسئلة الجريئة، التي ميّزته عن بقيّة شعراء العمود الذين ركنوا للإجابات والقوالب الجاهزة، واستسهلوا الشعر فوقعوا في أسر النظم، ونزلوا من أعالي الشعر إلى قاع الكلام العاديّ والمكرور: |
لقد كان للبردَّوني صورته الخاصة، وصوته الخاص، وعناقيد من قصائدَ هي هناك في سلال النّدرة والوفرة والجمال لا تشيخ ولا تفنى. |
فهي قطوفٌ من وجعٍ وغربة وحزنٍ ومرارة وفقرٍ وسخرية وبكاء. وهي قطوف عافية وسعادة ووطنٍ وغنىً وغناءٍ ورضىً وإيمان. |
هي التقاء الأضداد، وزهوّ الضاد، واختلاط أصوات النعيّ بصرخات الميلاد. |
*.. هي الأسئلة والرؤى. |
لقد تجمّع العرب حول البردّوني في حياته، وأجمعوا على فرادته، وحينما غادر الفانية شيَّعه الآلاف إلى المثوى الأخير. لكنه بقي في ضمير الملايين لصدقه مع وطنه وأمته حين قاده عماه إلى الإبصار والتبصّر المبكّر بأحوالها وآمالها. بينما قادت الآخرين نعمة البصر إلى ذواتهم، فأعمتهم عن أوطانهم فظلّوا خارج التاريخ.. خارج الذاكرة. |
لقد كانت للبردَّوني ذاكرة عجيبة، فعدا محفوظاته المبهرة كان يحفظ أصواتنا، ويميّزها، فيبتدرنا بالتحية حال إقبالنا عليه من العواصم البعيدة. |
وكان يسأل عنّا بلهجتِه المحببة، ولكنته المميزة: |
*؟! |
وكنا ولا نزال نعرفه ونحفظه ونفاخِر به ونستعيده قيمةً عربية خالصة، معرفتنا واستعادتنا للبنّ، والهيل، والعسل، والجني، وأنهار المعرفة الحرة الطليقة.. معرفتنا للأسئلة.. الأسئلة: |