صدى الإبداع الرواية بين مصطلحين د. سلطان بن سعد القحطاني
|
عُرف القصُّ منذ أن عرف الإنسان الحياة، كفن من فنون القول، المتمثل في النثر والنظم وهو فن التعبير قبل الشعر، فالقص أقرب مصطلح للتعبير الشعبي فهو لغة العامة وعنوان التخاطب اليومي بين أفراد المجتمع، إضافة إلى المواعظ المقتبسة من سير الأمم السابقة سواء في المواعظ الدينية أو الاجتماعية.
ولم يذكر في سطور التاريخ أمة من الأمم ليس لها فن القص خاصة الأمم ذات الطابع الديني الاسطوري الذي يسرد خوارق العادة بأساطير الآلهة، مثلما هو عند اليونان، والرومان، والفرس، والهنود وقدماء المصريين.
ويعتبر المشرق مهد القص الأسطوري الفلسفي التأملي حتى ان حضارة أوروبا قامت على التنوير الأسطوري القصصي، الموروث من حضارة اليونان، إضافة إلى النثر القصصي المنقول من التراث العربي المهجَّن من حضارات الهنود والفرس، بعد أن صاغه المترجمون العرب "ونعني بالعرب هنا اللغة، وليس العرق" فقد اهتمت الحضارة العربية الإسلامية بالقصّة الهادفة، التي ذكرت في القرآن الكريم، كموعظة مباشرة، من أحوال الأمم التي طغت على أمر ربها، وأحدثت في شأنها شططاً على أنبيائها ومصلحيها، واتضح فيها الرمز الأسطوري والتاريخي على لسان الطير والحيوان، بصياغة اللسان الإنساني، واشتراك الكائن الحي في الكثيرمن الصفات السلوكية، ماعدا النطق، وقد استعاض القاص عن النطق بالحركة والفعل السلوكي، القابل للتأويل على النمط الأسطوري المعوض به عن فعل الآلهة الأسطوري، فالحب في تلك القصص لم يعد بفعل الآلهة، بل أصبح بفعل السلوك الفطري، والشجاعة بفعل القوة الجسمية، والمكر والدهاء بفعل الذكاء السلوكي الوراثي... وسمي الحاكي راوياً، أي ناقلاً، حسب المصطلح العربي المنحدر من أصل الفعل الثلاثي، وهو فعل القياس العربي الأول "روى، يروي، راوٍ، مروي" وهذا الفعل يعني النقل، وبالتحديد نقل الماء من مكان إلى آخر وسقي الإنسان والحيوان والأرض. ومنه اشتق الاسم "راوية" إناء كبير من جلد الجمل يروي كثيراً من الناس.
إن دلالة الفعل الثلاثي "روى" تتفق تماماً مع دلالة النقل الشفوي، وهو نقل الحدث ليروي به عطش الرغبة في معرفة الحدث الماضي، وهو حدث مجرد من الرؤية الفلسفية المستقبليّة، أو التوظيف المعرفي، ومطالبة المتلقي بالمزيد من أحداث الماضي، من زاويتين:
الأولى: تذوق طعم التأريخ، المتمثل في بقايا أطلال الآثار، كحكاية التأريخ الجيد، أو المتخاذل، وهذا يعود إلى قوة حذاقة الراوي وذكائه، ليستغل فيه ذوق المتلقي وجذبه للتفاعل مع الحدث المروي عن أحوال السابقين. ويكيف الحكاية بما يناسب المقام، فيدخل فيها الأصول القبلية والديانات والعقائد وكل ما من شأنه إرضاء المتلقي المباشر ولأنها رواية شفوية غير مكتوبة فإنها قابلة للتصريف على كل الوجوه.
الثانية: الرواية الدينية، المأخوذة من كتب الديانات القديمة، وهي ذات شقين.
الأول: معرفة حضارية سياسية بنى عليها العرب حضارتهم مستفيدين من النُّظم السياسية والمدنية التي كان الملوك والحكام يسيرون بها أحوال دولهم.
الثاني: معرفة أحوال أصحاب تلك الديانات التي نزلت فيهم آيات من القرآن الكريم، وهم اليهود والنصارى، أمّا الأول، فكان المستفيد منه الخلفاء والأمراء والساسة، وصنّاع القرار بشكل عام.
وهذا ما جعل الخليفة معاوية بن أبي سفيان يهتم بهذا اللون اهتماماً شديداً ويقرب الرُّواة منه، ويوجه كل اهتمامه إلى السماع منهم ومناقشتهم وتدوين قصصهم، وهي قصص اخبارية ذات هدف موجَّه لخدمة الدولة العربية الجديدة، ليقوم الديوان العربي الإسلامي عليها، بعد التعديل بما يناسب توجهات الدولة الأموية، وظهر على ضوء أسلوب تلك القصص كتّاب الدواوين من الموالي الذين وجهوا كل اهتمامهم للكتابة الديوانية تعويضاً عن المناصب القيادية في الدولة، لأنهم من الموالي الذين ليس لهم نصيب في القيادات بجانب أبناء العرب.
وتفوق من هؤلاء على سبيل المثال "سالم مولى هشام بن عبدالملك، ثم تلميذه ، عبدالحميد الكاتب، آخر كتّاب الدواوين، في الدولة الأموية. ولم يكن الموالي من كتّاب الدواوين برواة لكن كتبت الروايات الشفوية بأساليبهم المنمقة، القائمة على الترادف، والتلاعب باللفظ.
ولنا حديث في العدد القادم عن نظرية الرواية ، إن شاء الله.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|