الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 08th May,2006 العدد : 152

الأثنين 10 ,ربيع الثاني 1427

اعترافات العلماء في سيرهم الذاتية
الشيخ الطنطاوي نموذجاً «5»

*أحمد علي آل مريع:

النموذج الثالث:
(من أصعب ما مرّ بي من تجارب في مجال الدروس الخصوصية، هي: إنه كان في بوّابة الصالحية، مؤسسة أهلية لأستاذ لبناني اسمه سليمان سعد، تدعى الجامعة العربية، سمع بأني أحسن العربية، وأحتاج إلى المال، فعرض على أن ألقي عنده درساً خاصاً لطالب واحد، بأجر كان يعد كبيراً جداً فقبلت.
وكانت المفاجأة الكبيرة يوم الدرس أن هذا الطالب جاء يحمل معه تاء التأنيث، لم يكن طالباً، ولكن طالبة شابَّةً تتفجّر شباباً، وتفيض حُسناً، تنشر حولها ساحة من الفتنة مثل الساحة المغنطسيّة. لم أقدّر أن أمكن نظري منها، لأصف وجّهها وعينيها، ولكن اللحظة التي لقيت عيناي فيها عينيها كفت لتقول لي وأقول لها. ولعل شبابي وكوني لم اجتمع قبلها بفتاة من غير أهلي، وأن في نفسي من العواطف والرغبات ما يكون في نفوس أمثالي من الشباب، لعل هذا هو الذي خيل إلى أني أرى فيها ما رأيت.
اني أصبت منها بمثل ما يصيب من يمسه السلك مشحوناً بتيار الكهرباء. ووقفتُ ألتقط أنفاسي، وأراقب أن أفيق من دهشتي، يتقاذفني ميل نفسي إلى تدريس هذه الفتاة مع حاجتي إلى الأجر الكبير الذي عرض عليّ، وخوفي من اللَّه الذي أسأله أن يبعدني عن طريق الحرام، ومزلات الأقدام.
وترددت! هل أقول: لا، فأحرم نفسي متعة الجمال والمال. أم أقول: نعم، فأسلك سبيل الضلال؟ وتمنيت أن أقوى على الرفض فلم أستطعه، وكانت هذه الخواطر تمرّ في نفسي مرّ (الفلم) الذي يكرّ مسرعاً، وهما يرقبان الجواب، وهو يستحثني عليه، يشجعني على القبول، فقلت: ولكني لا أستطيع أن أدرس الآنسة وحدها. وهي سافرة، يتهدّل شعرها على كتفيها، وتبدو ذراعاها، قالا: ولِمَهْ؟! قلت: لأن ديني يحرم هذا عليّ. فقالت: آتي بأخي معي يحضر الدرس. وليتها ما نطقت، فقد كان صوتها فتنة أخرى كامنة فيها، ومن الأصوات ما يفتن ولو نطقت صاحبته بالموعظة والتذكير. وحضر أخوها، ودرستها، والدرس (تصوروا) موضوعه منهاج تاريخ الأدب في البكالوريا، الذي يجيء في أوله شعر بشار وأبي نواس، ولو درَّس الشاب مثل هذه الفتاة أحاديث البخاري لوجد الشيطان مدخلاً إلى مجلسهما، فكيف والدرس في غزل بشار المكشوف المفضوح، وشعر أبي نواس؟!
درستها أربع حصص أو خمساً، اللَّه أعلم كيف كنت فيها، وإن لم أدر (صدقوني) ما لون عينيها، فأنا كنت الخجلان لا هي، فكنتُ أتحاشى النظر إليها، على رغبة نفسي فيما أتحاشاه. ثم رأيتُ أن استمرار الدرس مع غض البصر، ولزوم الاحتشام، ومع ما في النفس من الرغبة الطاغية، نوع من عذاب الدنيا. ونظري إليها ورفع الكلفة معها، وتوثيق الصلة بها، تعريض نفسي لما هو أشد منه من عذاب الآخرة. فتركت لها ما بقي لي من (الأجرة) معها، وهربت منها، وقلبي عندها. ولو وضعت في هذه الحالة قصة لكانت من أروع القصص، وأنا قادر على كتابتها، ولكني أكرم شيبتي أن أعود الآن إلى هذا الهراء، وأرحم الشباب من القرّاء).
وعلى كل حال فإن هذه المشاهد بعامة من مشاهد الاعتراف تذكرني بصورة من صور الاعتراف الجريء عند الإمام الفقيه ابن حزم الظاهري -رحمه اللَّه- في كتابه الشائق (طوق الحمامة في الألفة والآلاف) إذ جميع ما ساقه الشيخان (ابن حزم - الطنطاوي) من صور للاعتراف يحكي فترة ماضية من فترات حياتهما هي صدر الشباب، وبرغم أن هذه المرحلة مظنة النزق والطيش نراهما بفضل تمسكهما بأهداب الورع والتقى ينتصران على بوادر الضعف والنقص، ويُعْليان من شأن الفضيلة والعفاف، ويبرزان المعصية والخطيئة في صورة كالحة مقيتة، وحتى حين يقارفان شيئاً من (اللمم) -وهو ما لا يسلم منه إنسان- فإنهما يرسمان قدوة صالحة وهي تجتاز الظلمة إلى النور وليس العكس، فتصحح ما بدر بالتوبَة وتعلن الفرحة بالعودة إلى الطريق الصحيح. وهما لا يخاطبان فيما يبوحان به غريزة الإنسان -وإن وصفا شيئاً مما نالهما بسببها- ولكنهما يخاطبان عاطفة الإيمان بداخله فيوصدان سبيل الشرّ في وجّه النفس الأمّارة بالسوء، ويوقظان في النفوس روح المحاسبة النبيلة، ويبتعثان فيها راحة غريبة ولذّةً ورضا لا تعرفها إلا النفوس المطمئنة إلى عقيدتها.
لقد استطاع الطنطاوي بصدقه في اعترافه أن يقدم لنا في ذكرياته بشراً مثلنا يصيب ويخطئ. وليس الخطأ عنده نهاية المطاف، ولكنه بداية لتحديد وجهة المسيرة التي اختار أن تكون ارتحالاً إلى مرضاة اللَّه وعملاً في طاعته، وصبراً على أوامره، وحبساً للنفس عن نواهيه، وتحقيقاً كاملاً لمعنى العبودية على ما يعتورها من عجز وقصور.
 
النموذج بين مصطلحي الاعتراف والمكاشفة، ولماذا؟!
أودّ أن أبيّن للقارئ الكريم عدم ارتياحي لاستعمال مصطلح (اعتراف - اعترافاتONFESSIONS (- (CONFESSION) في دراسة النماذج المشار إليها سابقًًا؛ لأنه وإن كان المصطلح (الاعتراف - الاعترافات) مشتقاً من مادّة عربية فصيحة صحيحة، فقد اكتسب باستعماله مقابلاً ل (CONFESSION) بعداً (فضائحيّاً) وارتبط استخدامه - في الغالب - بالعلاقات الجنسية غير المشروعة، أو المغامرات العاطفية، والانحرافات السلوكية والنفسية في أحط صورها. وهو بهذا المفهوم: مصطلح صيغ تحت وطأة فهم وظرف مختلف، وتربى تصوره الذهني والفلسفي والأدبي على يدي نموذج غربي وافد من خارج أحضان المجتمع المسلم، والذائقة العربية الخالصة.
وأعتقد أن البديل الأمثل الذي ترشحه الدراسة لقراءة النموذج الاعترافي المشار إليه سابقًا، وهو نموذج يختلف في تجاوزه للدين والأخلاق، والمألوف الاجتماعي، هو: لفظة (مكاشفة - مكاشفات) لخمسة أسباب، هي:
1- عربيّة الكلمة وفصاحتها، فهي مصدر من الفعل (كَاشَفَ) بمعنى: أفضى بالشيء، وجاهر به، وأزال عنه ما يستره.. وفي الأثر: (لو تكاشفتم ماتدافنتم) أي: لو انكشف عيب بعضكم لبعض.
قال المبرد وابن الجزري: أي: لو علم بعضكم سريرة بعض لاستثقل تشييع جنازته ودفنه.
2- قرب المعنى اللغوي من المعنى الاصطلاحي.
3- المصطلح بكر - على الأقل في حقل الدّراسات النقدية- مما يسهل تبنيه، ويكون استعماله بدون هالات مشوَّهة أو اضطراب يفضي إلى الخطأ أو الخلط.
4- ليس في المصطلح أثر من آثار النموذج الغربي للاعترافات، خلاف مصطلح (الاعتراف).
5- التوافق الطيب والمعبر بين صيغة المصطلح (مكاشفة) وبين عملية الكشف عن الذّات. فهي ليست عملية ميسورة ومتاحة لكل أحد، بل فيها محاورة ومدافعة بين الإنسان ونفسه، وفيها مساجلة وكرّ وفَرّ بين الرغبة الجادة في الصدق، وتحفظ الإنسان على أسراره الشخصية وتكتمه على عيوبه، وخوفه منها. وهذا التوافق ظاهر في صيغة الفعل والمصدر: (كاشف - مكاشفة).
ولستُ بطبيعة الحال أقصد بهذا إلغاء مصطلح الاعتراف - الاعترافات ولا مصادرته من حقل الدراسات السيريّة، بل على العكس أقرّه واعترف به، ولكنّي أجعله - مراعاة للدقة واحتراماً للعمق المعرفي والثقافي للمصطلح - ألصقَ بالنموذج الغربي المتحرر من سُلطة الدين والأخلاق سواء أكان غربياً أم شرقيّاً. وفي الجانب الآخر أرشح مصطلح (مكاشفة - مكاشفات) وأرجح استخدامه لذلك النموذج المغاير، الذي ينطوي على تميّز حقيقي في طبيعة الإِفضاء - البوح، ويظهر عليه مسحة من الالتزام الواعي خلقاً وديناً؛ كما في بعض أحاديث الأصحاب رضي الله عنهم والتابعين، وكما نجده عند ابن حزم، وابن الجوزي، وأحمد أمين، وعلي الطنطاوي، وأبي عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري.
.................................................. انتهت
 
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved