بدء الرواية المحلية بين "التوأمان" والانتقام الطبعي د. عبد العزيز السبيل
|
حين الدخول الى بوابة البدايات لأي فن ادبي يجد الباحث صعوبات كثيرة في تحديد البدء، وربطه بعمل محدد. يأتي ذلك بسبب اختلاف وجهات النظر حول المنتج الادبي وقيمته الفنية، بحيث يمكن اعتباره بداية تاريخية. وحين الحديث عن بداية فن ادبي في منطقة جغرافية معينة، فيفترض ان تكون المهمة اكثر يسرا، لكن الامر ليس كذلك، نظرا لاختلاف الرؤى حول الاعمال الابداعية، والحكم عليها من ناحية فنية. ولذا، فان وجهات النظر تختلف في تحديد سنة معينة بأنها تمثل بدء فن ادبي في منطقة معينة. ولعل الخلاف الكبير في تحديد بدءالرواية العربية مثال واضح على ذلك. بل اننا لا نجد اتفاقا في كثير من الاحيان على اعتبار عمل محدد يمثل بداية الرواية في بلد عربي، وبدء الرواية في مصر مثلا لا يزال محل وجهات نظر كبيرة، واذا كانت رواية زينب تمثل نقطة البدء من ناحية فنية عند عدد من النقاد، فان آخرين يقفون عند اعمال اخرى.
اما حين النظر الى الرواية في المملكة العربية السعودية، فان الباحث لن يجد صعوبة في تحديد بدء مرحلة النشأة. فثمة اتفاق بين النقاد، ان تاريخ هذه النشأة يعود الى سنة 1930م، وهو العام الذي صدرت فيه رواية التوأمان لعبد القدوس الانصاري. ذلك ان المؤلف قد اشار في غلافها، انها اول رواية في الحجاز، واضاف الحازمي انها اول رواية في المملكة، ويمكن الامتداد جغرافيا الى اكثر من ذلك، للقول بأنها اول رواية في الجزيرة العربية بأكملها. ويمكن لنا الاطمئنان الى هذا القول حين ندرك انه يؤرخ لبدء الرواية اليمنية بسنة 1939م، حسب رأي عبد الحميد ابراهيم، في كتابه "القصة اليمنية المعاصرة". ويؤرخ محمد حسن عبد الله للرواية الكويتية بسنة 1962م، حين صدور مدرسة من المرقاب لعبد الله الخلف، وهذا يعني ان الرواية في المملكة العربية السعودية قد تزامنت في مرحلة البدء مع العديد من اقطار الوطن العربي، كما سبقت بعضا منها. لكن هذا القول لا يشمل منطقتي الشام ومصر، بحكم انهما صاحبتا تجربة ثقافية مبكرة.
من ناحية اخرى، يتفق نقاد الرواية المحلية، ان رواية ثمن التضحية "1959م"، لحامد دمنهوري، تمثل مرحلة النضج الفني للرواية المحلية. ولذا، فان المرحلة التاريخية بين 1930 1959م، تعتبر مرحلة النشأة لفن الرواية في المملكة العربية السعودية. غير ان هذه الفترة تأخذ مسميات مختلفة. فمن النقاد من يسميها "مرحلة المخاض"، ومنهم من يسميها "المحاولات الاولى"، او "الارهاصات والبشائر" وآخر يصف رواية تلك المرحلة من منطق المضمون بأنها "الرواية التعليمية الاصلاحية". ويتفق الدارسون ان الاعمال الروائية التي صدرت في تلك المرحلة، هي: التوأمان لعبد القدوس الانصاري، وفكرة لاحمد السباعي، والبعث لمحمد علي مغربي.
ويبدو ان الدارسين قد اعتمدوا على رؤية الدكتور الحازمي، الذي يرى انه لا توجد بين "التوأمان" وثمن التضحية ما يستحق الوقوف عنده سوى روايتي السباعي والمغربي.
وحين التوقف سريعا عند "التوأمان" باعتبارها "الرواية" الاولى، نجد انها تصور الآثار السلبية للتعليم الاجنبي، مقابل التعليم الوطني، وذلك من خلال الاحداث التي تقوم على شخصيتي التوأم "رشيد وفريد"، منذ ولادتهما مرورا بالمرحلة "التحضيرية". في بداية المرحلة الابتدائية ينفصلان عن بعضهما، حيث يتجه رشيد نحو المدرسة الوطنية، ويختار فريد المدرسة الاجنبية. تسير الاحداث محاولة تصوير واقع التعليم، والتوجهات الفكرية لكل منهما، واثر ذلك على بطلي الرواية. تنتهي الرواية بنجاح كبير حققه رشيد حيث اصبح رئيسا لأمته، في حين انتهت حياة فريد نهاية مأساوية، على باب حانة في باريس.
لا تسير احداث الرواية وفق زمن تصاعدي منطقي، بل يسيطر عليها عنصر الحدث القسري، الذي يتفق مع هدف الرواية، دون النظر الى منطقية تسلسل الاحداث. فالكاتب على ما يبدو قد حدد نهاية القصة قبل بدايتها، ولذا اصبحت الاحداث تتقافز بشكل سريع حتى تصل الى النهاية. والملاحظ بشكل واضح هو بطء نمو الاحداث في الجزء الاكبر من الرواية. وقرب النهاية يحدث ابتسار لبعض الاحداث والاكتفاء بالنتائج، التي كانت في ذهن المؤلف.
هناك ادراك ان روايات مرحلة النشأة ترتبط بشكل عام بالجانب الوعظي التوجيهي، ولذا فان ثمة قناعة ان الباب الذي دخلت منه الرواية والقصة القصيرة الى ادبنا المحلي، والادب العربي عامة هو باب الاصلاح، وليس الجانب الفني.
وهذا ما جعل روايات مرحلة النشأة ترتبط بالاتجاه الواقعي اكثر من اي اتجاه آخر. وحسب رأي تشارلتن فان الواقعية التي نريدها للقصة الفنية الكاملة ليست هي الواقعية التي يشهد بصدقها المؤرخون، وتقوم الوثائق دليلا على صحتها، لكنها الواقعية التي تلقي في روع القارىء انها صحيحة.
وحين النظر الى "رواية" التوأمان نجد انفسنا غير قادرين على نسبتها الى الاتجاه الواقعي. فالعمل يتناول قضية واقعية، قد تمثل مشكلة في المجتمع الذي تدور فيه الاحداث خارج وطن المؤلف، لكن طريقة تناول الاحداث حلقت بها الى فضاء "فانتازي" في اكثر من موقع. فالطفلان رغم انهما في السادسة من العمر، وصلا الى مرحلة من النضج، مما جعل والدهما يقرر "ها انا القي الحبل لكما على الغارب، ليعرب لي كل منكما عن نوع المدارس التي يود الالتحاق بها"، دون اي تبرير فني، سوى وعد قطعه الاب على نفسه بأن يترك لهما حرية اختيار مستقبلهما. اضافة الى ذلك يخرج الطفل من المرحلة التحضيرية "التمهيدي" على مستوى من الصلاح وحين قضى يوما واحدا فقط في المدرسة الاجنبية نجده يتهاون بالصلاة، وهو في مرحلة لم يؤمر فيها بالصلاة شرعا.
حين ذهب الى فرنسا، وعنّ له ان يتجه الى ملذاته، تصر الرواية على جعله يختلق "وسيلة غير شريفة لطرده من الجامعة طردا نهائيا".
السؤال الكبير المطروح في هذه المقالة، هو هل يمكن اعتبار (التوأمان) رواية، لنؤرخ بها بدء الرواية المحلية؟ هل تستحق من ناحية فنية ان تنسب الى الفن الروائي؟ هل كتابة الانصاري على غلاف هذا العمل انها اول رواية في الحجاز، هو السبب الذي جعل النقاد يقفون عندها؟ ولو خلت من هذه العبارة هل سيتوقف عندها مؤرخو الرواية المحلية؟ قبل الاجابة على ذلك يمكن استعراض بعض الآراء النقدية حول التوأمان، بعضها معاصر لصدورها، وبعضها من نقاد متأخرين.
في البدء يستوقفنا رأي المؤلف نفسه في مقدمة التوأمان، حيث يقول الانصاري وهي وان تكن غير مسبوكة تماما على أصول "الفن الروائي العصري" فقد يجد القارىء فيها صورة صحيحة عن اضرار المعاهد الاجنبية المؤسسة في الشرق نفسه. فالمؤلف على وعي انها غير مسبوكة على اصول الفن الروائي العصري، واذا كانت كلمة "تماما" في تعبير المؤلف، تؤكد انها غير مسبوكة بشكل كامل، فهل يحتمل انها تعني النفي المطلق "أبدا"؟ ثم ان هذا الرأي من المؤلف يمكن ان لا يحمل محمل التواضع، بقدر ما يقرر حقيقة.
فالمؤلف لا يبدو معنيا بالجانب الفني، بقدر ما كان يركز على الدور الاصلاحي الذي يمكن ان يؤديه هذا العمل الادبي.
اما محمد حسن عواد، المعاصر للأنصاري، فيقول عام 1933م "ولقد ذكرنا الشيخ عبد القدوس هذا بروايته "التوأمان" التي نشرها على حدة، فلم تصادف رواجا في الطبقات الادبية الممتازة، وعند الشباب المثقف، لانها خالية من كل مقومات الفن الروائي الجيد، الذي يجتذب النفوس ويلقح العقول، على ما فيها من ثقل الوطأة وضعف الفكر وتفاهة الموضوع، وفقدان الاستقصاء، وبتر الفكرة، وحشو اللفظ، ورداءة المعنى، وكان في عزمنا ان ننقدها حين ظهورها، ولكنا تركناها تموت بنفسها وبفعل الحياة القوية التي لا تقبل الا القوي وهكذا كان". ويقول عنها "انما تمثل ادب الصبيان". وبالرغم من ادراك مستوى الخلافات الشخصية التي كانت بين العواد والانصاري، فان رأي العواد له سند من آراء اخرى. فعمر الطيب الساسي يرى ان في نقد العواد ما يعتبر صحيحا من ناحية فنية. ويقول الكاتب عزيز ضياء في مقدمة رواية غدا انسى لامل شطا ان الاستاذ الكبير الشيخ عبد القدوس الانصاري كان اول من اقتحم الميدان بقصتين لا واحدة، اولاهما "التوأمان"، والثانية "مرهم التناسي في صيدلية الآمال". ولا يساورني شك في ان الاستاذ الكبير يزحمه الضحك الآن كما يزحمني حين تعاوده ذكرى ما في القصتين من تفاهة وخواء. ويقول السيد محمد ديب والتوأمان اول رواية سعودية، وليس فيها ما يحملنا على القناعة التامة بأن تلك المحاولة رواية تشتمل على تصوير الاحداث والربط بينها، وابراز الشخصيات في نموها او تسطحها، الى غير ذلك من الدعائم البنائية للفن الروائي، ونكتفي بالقول عنها انها محاولة قصصية وعظية. اما سلطان القحطاني فيقول عنها "كتب الانصاري على غلافها هذه العبارة" "اول رواية ظهرت في الحجاز". وبالرغم من ذكر كلمة رواية، فانه من الصعب جدا تسميتها رواية، ولكن وجودها في هذه الدراسة، التي خصصت للرواية، انما يأتي نظرا لقيمتها التاريخية من ناحية، ولاهتمام كاتبها بالقصة في وجه عام، والرواية بوجه خاص من ناحية اخرى. وهناك احتمال كبير جدا وهو ان الانصاري لم يقصد بها معنى الرواية، الذي اصبح فنا له اصوله ومقوماته فيما بعد. والسؤال هل بعد كل هذا يمكن اعتبار (التوأمان) رواية، وبالتالي يبدأ بها تاريخ الرواية المحلية؟ واذا كانت الاجابة بالنفي، فمتى يبدأ تاريخ الرواية المحلية؟ ستحاول مقالة الاسبوع القادم الاجابة على هذا السؤال.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|