غازي الجعيد للثقافية: لستُ بحاجة إلى عمل يحاكي الواقع أو موضوعاً بحد ذاته
|
* حوار المحرِّر التشكيلي:
الفنان غازي الجعيد رقم مهم في مجموعة فناني الدوادمي، جاء يحمل مختزلاً كبيراً من الصور البصرية لجوانب جمال طبيعة الطائف بكل ملامحها المتعددة الألوان: ربيعها الأخضر، وشتائها المكتنز بالغيوم، ولفحات الضباب التي تغازل قمم الجبال، وربيعها المفعم بالزهور وشذاها العطر. جاء ليحط رحاله في الدوادمي بناءً على متطلبات خدمة الوطن التي يعتز بها كل منتمٍ لهذه الأرض الطاهرة الطيبة، جاء بما اكتسبه من علوم عسكرية بأُطرها الصارمة، إلا أنه يحمل وجداناً ممتلكاً لكل ما يعنيه الإبداع، فكان مشروع شاعر أو كاتب أو روائي، إلا أن سفينته جنحت به إلى الفن التشكيلي، فوجد في مرساه وشواطئه ما يمكنه من التعبير عن مشاعره النقية والمتألقة تعاملاً وخلقاً ورحابة صدر.
هذا هو غازي الجعيد الذي عرفته عن قرب كما كنت أعرفه من خلال أعماله التي أضفتْ على معارض مجموعة الدوادمي الكثير من الخصوصية والتميز، دون أن يكون نسخة طبق الأصل لفنان آخر. الجعيد فنان يبحث في أبعاد إبداعه وجدانياً، ويمر به على مكتسباته الثقافية التي جمع أطرافها سنوات طويلة من القراءة ومتابعة كل جديد في مجاله التشكيلي. دعونا نبحر معه في هذا الحوار السريع:
* كيف كان اكتسابك لتقنيات إبداعك؟ وكيف ترى تعاملك مع منجزك التشكيلي؟
الفن قبل كل شيء تعبير عن أعماق الوجدان الإنساني، ودلالة على جوهرنا، وتمثيل لإرادة التطور. هو إعادة خلق قدرته فيما يضفيه على الأشياء من سر التحول، ولا بد من الإحساس بنبضات الأشياء وإيداعها أعماق العمل الفني، لا بدَّ من الصدق والحماس والوعي الفلسفي بالأحداث؛ ليخرج العمل الفني بفكر الإنسان ووجدانه. لقد كانت انفعالات الفن وصدقي الخاص يبعثان هذا الجلاء الفكري والوجداني الذي انبثقت منه رموز لوحاتي؛ رموز تسمو على الحكاية وترتقي أحداث الزمان والمكان، ومغزى يتولد من داخل اللوحة. أنا لست بحاجة إلى عمل يحاكي الواقع، أو يصوِّر موضوعاً بحد ذاته، بقدر ما أنا بحاجة إلى العمل الذي يمدُّني بالقوة التي تستأثر بكل جوارحي، ذلك الذي يشارك في أن يولِّد روح الصراع لديَّ، ويولد عندي أبعاداً وطاقات لا حدود لها، ويتخطى الحدث المباشر ليعبِّر عن المغزى العميق من موقعه؛ ليستطيع أن يبلغ قلب الإنسان في كل مكان. تلك مهمة تتطلب أعلى المواهب الفنية وأسمى ما في قدرة الإنسان من ممكنات، ولكن بلوغها ليس بالعسير. كان لا بدَّ أن تكون لديَّ اللوحة آلاماً، وأن تكون اللوحة أهوالاً أو غضباً، وأن يتحول اللون إلى دوامة يتمثل فيها حيرة الفكر وانقباض الأزمة وأنين الروح المثخنة بالجراح.
* ماذا عن مرسم نادي الدرع ودوره في تنمية مهاراتك؟
ليس على الفن من خطر أكثر من النظرة المحدودة الضيقة المجال؛ فالفنان الحقيقي الذي موجود على أرض الواقع ليس بحاجة إلى أن يكون (تركيبة معملية). وإن كل نشاط خلاق يتطلب لازدهاره احترام كرامة الإنسان. وفي حين جرت سيول الأحداث مجرى آخر، في بعض
منها اكتسبت معنًى خاصاً ومغزاها العميق ومالت إلى رموز تخطت الأحداث الطارئة إلى الحقائق البعيدة، منها ما يمثل وثيقة اتهام صارخة لمن أخذت لوحته مكاناً خاصاً في هذا المرسم، وفيها صمت الأصوات الخرساء التي لا تجرؤ إلا على تشويه وجه لوحة فنان في بعض ألوانها طغيان القتامة.
* يغلب على أعمالك البحث عن نتيجة ما من خلال تكرار الوحدة أو العنصر، ما مدى تواصلها مع تجاربك اللاحقة؟
في مجال تحريك الوجدان الصورة وحدها تفرض وجودها على الرائي أو المتلقي، والجوهر هو في الرؤية وتحريك الفكر؛ ليترك المشاهد لتأمُّله ولانطباعه الذاتي إن كان في إمكانه أن يرى ذلك في لوحة منفصلة، حسبه فقط أن يعيش لحظات من فيض من إبداع. إن المرحلة هذه داخل حدود اللوحة ما زال لها أبعاد عميقة أيضاً، والقديمة لم تبُح بعدُ بكل أسرارها، ولم أستنفد الطاقات التي يمكن استخلاصها منها. واللون الأسود وهو العودة إلى المنابع سيفتح آفاقاً لا حدود لها، فتجاربي السابقة تمثِّل معركة مع نفسي ومحيطي. مسطحاتي الضخمة هي أرض هذه المعركة، وهي ربط بين الرؤية والحركة، وجعلت من اللوحة في كل جزء من أجزائها وفي كل خط من خطوطها المتشابكة ذروة للرؤية من أجل أن يخرج كل مربع
محملاً بنفس كثافة الآخر، بحيث تكون سياحة العين في أرجاء اللوحة رؤية متكاملة ومتماسكة، فاللوحة لديَّ تخضع لحتمية التطور، غير أن التطور لا يصح أن يكون افتعالاً.
* الساحة التشكيلية لا تخلو من النقد العام، كيف تتقبل هذه الظاهرة، خصوصاً أنها تأتي من فنانين هم في حاجة للنقد؟
هناك أبعاد بين العمل الفني والتذوق الحق؛ فالناقد
يتطلب ثقافة عميقة واتصالاً فكرياً ووجدانياً؛ لأنه هو الذي يترجم الإحساس بالعمل التشكيلي إلى لغة مكتوبة، يختصر كل الأبعاد، ويقرب المسافة بين العمل والمشاهد، وهو وسيط يحمل رسالة التقويم الجمالي، إذاً هو أداته الكلمة يفسِّر بها عملاً قوامه الشكل. أما غير ذلك فهي ظاهرة ترجع في جوهرها إلى أمرين أساسيين؛ أحدهما يتصل بالفنان نفسه، والآخر يتصل بالمجتمع المحيط به. وهي ظاهرة تحاول في بعض الموجات أن تجرِّد الفن من احترامه، وهي في ذاتها صرخات احتجاج على وجود الفنان، وكثيراً ما تحمل هذه الظاهرة نذير الحسد أكثر مما تحفل بدلالة صحية.
* مصادر إلهامك أين تكمن؟
لم تعد المسألة بالنسبة لي مجرد لحظة ما في العملية الديناميكية، ولكن تمثل العملية ذاتها تمعناً في أن التغيير المستمر لوضع ما في المساحة إنما يؤدي وظيفة العمل الفني، ربما يطغى البعد المكاني على اللوحة التي تظل ساكنة بمادتها الأولية من خط ولون، ولم تعد مجرد بناء، وإنما حركة افتراضية مليئة بالمفاجآت.
* تعاملك الأخير مع اللون يوحي بأنك تسعى إلى التحول تجاه الرمزية، وأحياناً إلى التجريد، أيهما تراه أقرب إلى تجربتك؟
الفن كالحياة يخضع لحتمية التطور، غير أن التطور لا يصح أن يكون مفتعلاً، ينبغي أن أقدم فناً صادقاً راسخ القيم يستمد تطوره من واقعنا ومن مثاليات مجتمعنا.
* مجموعة الدوادمي تعني الكثير كما أعلم ويعلمه الجميع، حدِّثْنا عن التحاقك بها؟
هناك ظواهر جديرة بالتنويه حين نعرض نشاط جماعة الدوادمي التشكيلية، وحين نبدأ بالحديث عنها. بعض التفسيرات في بواكير نشأتها والظروف التي صاحبت هذه النشأة التي مضى فيها هذا النشاط إلى أن حقق إنجازاته التي ظهرت في السنوات الأخيرة. ولكن أُولى هذه الظواهر أن خط الإبداع في هذه الجماعة قد انقطع أو توارت معالمه لأسباب ليست تشكيلية، ولكن عندما اعتقد البعض أنه عندما يقوم بالدوران حول نفسه أنه يسقط الآخرين ويبقى هو. ثانياً: التحرر من قيود التعهدات.
* متى تقرِّر التوقيع على اللوحة؟
أولاً البحث عن أبعاد داخلية، فهي ما أقدمه من اختصار لتصفية المساحات وتحويل المشهد إلى ما يشبه الكولاج اللوني؛ حيث يصبح القطع اللوني خطاً واضحاً، وتصبح العلاقات اللونية علاقات تحاور أكثر مما هي علاقات اشتباك. لا حدود لحجم الألوان والموضوعات، لا حدود للتفاصيل، ولا حدود بالتالي للَّوحة، فالمساحة تبدو فسيحة، والنظر يستطيع أن يحتمل تفاصيل أكثر في اللوحة ممتلئة ومكتفية بذاتها، فلعبة التكوين لدى الفنان تجعل من لوحته نصاً مفتوحاً مكتملاً وغير مكتمل، فأنت تستطيع أن تتخيل إضافة هنا أو إمكان زيادة مفردة هناك، ثم تقترح حذفاً لا بأس به، فالتكثيف الموجود والتجريد والفضاءات اللونية واللعب بالتكوين تساهم في جمال اللوحة إذا كانت المفردات قليلة والأشكال مختصرة. هذه هي الطواعية في حركة الفنان، بل أكثر من ذلك، بل أذهب بعيداً عن الاطمئنان له، وقريباً من الانتماء إليه، فهي لديَّ ذاكرة فنية بين انطلاقها الكامل فإنني ألمح وأشير إلى انتمائي إلى اللوحة، وأن الشغف الفني الذي يضج في نفسي هو الذي يشعل اللوحة ويحرك أشكالها، أجعل الحياة فيها تخبو وتهدأ وتتثاءب مرة ثم تثور مرات أخرى، وأخيراً أضع علامة الرضى عنها، وهي التوقيع.
* مع أنك تعيش في محيط يمارس غالبية فنانيه مجال النحت، لماذا لم تنخرط في هذه المعمعة؟ وكيف ترى مثل هذا الاندفاع؟
لقد وعى فنان عظيم مثل بيكاسو هذه الحقيقة حين قال: (ماذا تظنون بالفنان: رجلاً أحمق لا يملك سوى عينين إذا كان مصوراً، وأذنين إذا كان موسيقياً، وقيثارةً في كل طبقات القلب إذا كان شاعراً). أولاً: أتيتُ إلى الدوادمي وأنا فنان قبل كل شيء، فكنتُ كثير الاطلاع على أعمال النحاتين العالميين، وخاصة هنري
مور الذي ما زال أباً لهذا الجيل، وحتى الذين خرجوا عليه ومضوا في اتجاهات مختلفة كأعمال أرميتاج وبتلر وآدمز وشادويك. ويقول شادويك أيضاً: إن مدارس الفن علَّمت الناس التفكير أكثر من الشعور. ليس غريباً إذاً أن يكون الفن شاغل الفنان في محيطنا، بل الغريب ألا يكون شاغله.
* يرى البعض أن العمل الإبداعي لا يتقيد بشكل معروف أو منقول من الواقع بقدر ما يمثل الإبداع تعبيراً يختص بالمبدع وله الحق في إظهاره كيفما يشاء على أن يشكل ردَّ فعلٍ إيجابياً عند المتلقي، كيف تتعامل مع أعمالك؟
أصبح العمل الفني من هذا المنظور يشبه النص المصاغ من كتابات متعددة تنتمي إلى ثقافات متنوعة، بناءً على ذلك لم يعد العمل الفني مجرد معادلة يخلقها الفنان ويوزِّعها؛ إذ يتحول المضمون إلى حالة أشبه بالتدفق قابلة للتغير والتحول بشكل مستمر. أدركت أنا أن عملية الفن أصبحت منذ الآن منسجمة مع المجتمع؛ حيث إن الأشياء ليست سوى قطع (مفبركة). ولقد ساهمت كثرة تجاربي في دفع تطور اللوحة إلى أقصى حدودها.
* الاقتناء يشعر الفنان بشيء من النجاح، فأين يقع الجزء الآخر؟ وماذا عن اقتناء أعمالك؟
عملية التحريض لإنتاج العمل الفني يخضع لها كل فنان صادق، وهي ما يحرك إحساس الفنان الإنسان في الدرجة الأولى ويدفعه للتعبير عن هذا الإحساس بواسطة اللوحة أو أي عمل فني يتوخى الفنان فيه الصدق مع ذاته ومع الآخرين في أن يقدم لهم هذا العمل، وهنا تكمن المسؤولية؛ مسؤولية العمل الفني، من هنا فإن العمل يكون ناجحاً بقدر ما يمثل من خصوصية الفنان الذاتية، فالغربي استطاع أن يعرف قيمة فنوننا ويقدر قيمتها النقدية قبلنا بعدة قرون، وهو إذ يقتني عملاً فنياً يدرك تماماً أنه رأس مال مجمَّد له فائدته المادية والمعنوية، بل يعطي إحساساً بالجمال والأمان في آنٍ واحد، فكلُّ جمالٍ قادرٌ على أن يساوي
قيمة الشرًائية.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|