العلاقات الأدبية بين العرب والغرب* د. علي القاسمي
|
الكاتب وأعماله
منذ ما يربو على نصف قرن والأديب الأكاديمي الدكتور صالح جواد الطعمة يواصل، بحماسة وتفانٍ، مشروعه الرامي إلى ترقية العلاقات الأدبية بين العرب والغرب، دارسا ومدرسا وباحثا ومترجما، فنشر، باللغة الإنجليزية وحدها، ما يناهز ثمانين كتابا ودراسة ومقالا، وما يقرب من ضعف هذا العدد من الأعمال باللغة العربية، إضافة إلى عشرات المحاضرات في أرقى الجامعات الأمريكية مثل هارفرد، وبرنستون، ومشيغان، وإنديانا؛ وذلك إيمانا منه بأن توثيق العلاقات السياسية بين الأمم لا ينبني على متانة المصالح الاقتصادية والتجارية بينها فحسب، وإنما كذلك على قوة العلاقات الثقافية بصورة عامة والعلاقات الأدبية بصفة خاصة. فهذا النوع من العلاقات هو الذي يتيح لنا فهما أكبر لثقافة الآخر، أي لطريقة تفكيره، ويمكننا من تفهمه، وبالتالي من التفاهم معه.
ويكاد الدكتور صالح جواد الطعمة يلفي نفسه حاملا لراية العلاقات الأدبية العربية الأمريكية في معركة حاسمة وليس له من مناصر سوى قلة قليلة ممن تعوزهم آلة الحرب ودربتها ما أدى إلى انسحاب أكثرهم من الساحة. ويعود تشبث الدكتور الطعمة في موقعه واستمراره في النضال إلى تضافر مجموعة من العوامل النفسية والمهنية في حياته.
وكانت بواكير شعره (نشر مجموعتين شعريتين: ظلال الغيوم والربيع المحتضر، بغداد، 1950، 1952) تعكس بعض جوانب تلك الحياة الثقافية الحافلة بالفكر، الزاخرة بالتواصل. وحينما درس الأدب العربي في دار المعلمين العالية ببغداد كانت هذه الكلية تضم رواد مدرسة الشعر الحر كبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي الذين تأثروا بالشعر الإنجليزي شكلا ومضمونا وترجموا عددا من قصائده.
وعندما تخرّج بتفوق في دار المعلمين العالية ابتعثته الحكومة العراقية إلى الولايات المتحدة لمواصلة دراسته العالية في جامعة هارفرد، فتخصص في الدراسات اللغوية والأدبية المقارنة وتتلمذ على اثنين من أشهر الأساتذة هما آي أي ريتشاردز، الشهير بكتابه (معنى المعنى) الذي ألفه مع أوغدن، وكذلك بكتابه (مبادئ النقد الأدبي)، وتشارلس فرغسون، الذي يعد في طليعة اللغويين الأمريكيين المعاصرين والذي درس ظاهرة الازدواجية اللغوية في أربع لغات عالمية من بينها العربية. وحصل الطعمة على الدكتوراه من جامعة هارفرد، وعاد إلى العراق ليدرس في قسم اللغة العربية وآدابها في دار المعلمين العالية نفسها، وأصبح معاونا لعميدها، ثم مديرا عاما للعلاقات الثقافية في وزارة التربية والتعليم، وبعدها مستشارا ثقافيا في السفارة العراقية في واشنطن. وبعد انقلاب 1963، غادر السفارة ليصبح أستاذا للأدب المقارن في جامعة إنديانا في مدينة بلومنغتون، ثم رئيسا لقسم (لغات الشرق الأدنى وثقافاته، والدراسات الإفريقية، والأدب المقارن) في تلك الجامعة.
الكتاب ومضامينه
ففي كل أطوار حياته، وفي مختلف مواقعه العلمية، وفي جميع المناصب الإدارية والدبلوماسية والأكاديمية التي تقلدها، كان الدكتور صالح جواد الطعمة شديد الصلة بالفكر والأدب، مولعا بمعرفة الآخر، منهمكا في تنمية التبادل الثقافي، فلا عجب أن يؤلف كتاب (في العلاقات الأدبية بين العرب والغرب) ينضاف إلى عشرات الأعمال القيمة التي أنجزها في هذا المجال، وآخرها كتابه باللغة الإنجليزية (الأدب العربي في الترجمات الإنكليزية 19472003)، المنتظر صدوره في لندن سنة 2005م.
ويشتمل كتابه (في العلاقات الأدبية بين العرب والغرب)، الذي يُعنى بعلاقاتنا الأدبية مع الغرب الناطق بالإنكليزية، على عشر دراسات كتبت بمنهجية أكاديمية رصينة، وتتسم بدقة البحث وشمولية الاستقصاء، وعناوينها كالتالي: التلقي الأمريكي للأدب العربي، الشعر العربي الحديث المترجم إلى الإنكليزية، الحب الفروسي أو شعر التروبادور ونظرية أصوله العربية، شوقي وآثاره في مراجع غربية مختارة، نازك الملائكة وآثارها في بعض اللغات الغربية، بين مسرحية (ابن حامد أو سقوط غرناطة) وقصة (كنز القرطبي)، الشاعر العربي المعاصر ومفهومه النظري للحداثة، (الفكر) حرم آمن بلا جدران، البعد العالمي في مجلة الفكر 19551985، تلقي نجيب محفوظ في المطبوعات الأمريكية. وسنتناول في هذا المقال بعض المعالم في الكتاب.
ضعف التلقي الأمريكي
للأدب العربي
أول حقيقة اكتشفها الطعمة في الولايات المتحدة الأمريكية وأخذت تمض في نفسه هي ضعف تلقي المثقفين الأمريكيين للأدب العربي. فعلى الرغم من مرور أكثر من قرن ونصف القرن على تأسيس الجمعية الشرقية الأمريكية (تأسست عام 1843 من أجل دراسة الحضارة العربية الإسلامية في عصور ازدهارها وتقييم تأثيرها اللاحق)، فإن التلقي الأمريكي للأدب العربي هزيل جدا بحيث لا تزيد الدراسات والترجمات التي نشرت في مجلة الجمعية من الفترة من سنة 1843 إلى سنة 1950 عن عشرين دراسة وترجمة فقط، (يتناول بعضها أعمالا ثانوية أو ينتمي إلى الأمثال والتراث الشعبي والغناء أو إلى الدراسات النظرية أو النقدية) (الطعمة: 13). ولم تقدم مجلة (العالم الإسلامي) التي صدرت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1911 أية خدمة تذكر للأدب العربي، لاهتمامها أصلا بالجانب التبشيري. كما لا يتعدى عدد الأطروحات الجامعية التي تتصل بالأدب العربي في الجامعات الأمريكية عدد أصابع اليدين من بين ما ينيف على ألف أطروحة دكتوراه قبلت في الجامعات الأمريكية في الفترة من سنة 1883 إلى سنة 1968. ومن ناحية أخرى فإن ما ترجم من الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية محدود في نطاقه.
فلو أخذنا أشهر شاعر عربي حديث، وأعني به أمير الشعراء أحمد شوقي، فإن عدد ما ترجم من قصائده كليا أو جزئياً، إلى اللغة الإنجليزية، لا يتعدى 82 قصيدة، طبقا لإحصائية أعدها الدكتور الطعمة وضمنها كتابه موضوع البحث (ص125 131)، كما تبين ببليوغرافية أعدها الدكتور الطعمة (ص132144) أن أحمد شوقي لم يُذكر في المصادر الإنجليزية إلا في 131 مصدرا فقط من بين ملايين الكتب الإنجليزية التي تتناول الآداب العالمية.
وليس نصيب السرد العربي من الاهتمام الغربي بأفضل من نصيب الشعر العربي. ففيما يخص أشهر روائي عربي، وأعني به نجيب محفوظ، ظلت الدراسات التي تتناوله محصورة في الأوساط الجامعية الأمريكية ولم تصل جمهور القراء إلا بعد أن حاز على جائزة نوبل للآداب عام 1988 (وقد أورد الدكتور الطعمة في كتابه ببليوغرافية شاملة لما ترجم من أعمال نجيب محفوظ وما كتب عنه في اللغة الإنجليزية قبل 1988 وبعدها، ص375403). فإذا كان تلقي أشهر أديبين عربيين حديثين شوقي ومحفوظ من قبل القارئ الإنجليزي ضئيلا، فإن ذلك يدل على أن الاهتمام ببقية الأدباء العرب اهتمام ضئيل لا يساعد على تنمية العلاقات الأدبية بين العرب والغرب إلى المستوى المنشود.
أسباب ضعف العلاقات الأدبية العربية الغربية
وفي تعليل هذا الضعف الظاهر في التلقي الأمريكي للأدب العربي، يرى الدكتور الطعمة أن التلقي عملية معقدة تخضع لمؤثرات يتصل بعضها بالمصدر من حيث حيويته وقوته الإبداعية، ويتصل بعضها الآخر بالمتلقي من حيث حيويته وقوته الإبداعية، وأن هذه العملية تزداد تعقيدا عندما يمر التلقي الأدبي عبر الحدود اللغوية، لا بسبب اختلاف اللغة فحسب، بل كذلك بسبب اختلاف التقاليد الأدبية وبتأثير جملة من العوامل الحضارية والدينية والسياسية وغيرها.
ويعود أول أسباب ضعف التلقي الأمريكي للأدب العربي إلى أن الثقافة العربية كانت في حالة انحطاط وجمود عندما بدأ التلقي الأمريكي. وأن أدبنا لم يصبح حداثيا بعد آنذاك، بمعنى أنه لم يتمكن من تقديم رؤية جديدة للعالم والحياة، ناتجة عن طرائق تفكير مبتكرة ونابعة من ذات الفرد وحريته ومشاعره، وإسقاط تلك الذات على المجتمع بأسلوب يبتعد عن الوضوح المطلق والبساطة التامة اللذين يؤديان إلى إغلاق عملية التأويل والتفسير والإيحاء والإشعاع، ويجعلان من الصعب تفجير أكبر عدد من الدلالات لدى المتلقي. ولكي يكون أدبنا حداثيا ينبغي له أن يكون نتاج جهد متجدد في تطلعه إلى قيم ومضامين جديدة تصاغ في أشكال وأساليب تعبيرية جديدة. وهذا لا يعني أن تكون الحداثة في علاقة تضاد تام مع التراث وانقطاع كامل عن الماضي، وإنما يعني أن الحداثة توسع مفهومنا لتراثنا وماضينا. ويعزو الدكتور الطعمة عدم تمكن الأدب العربي من الاتصاف بالحداثة إلى افتقار المجتمع العربي إلى التحولات الجذرية التي عاشها الغرب قرابة بضعة قرون في المجالات الفكرية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية (ص225240). كل ذلك يجعل النصوص الأدبية العربية لا ترقى إلى ذائقة القارئ الغربي الذي اعتاد الحداثة الفنية منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حينما تبلورت الحداثة الغربية في حركة خاصة لها تياراتها المتعددة في الأدب والفن، كالتيارات المستقبلية والتصويرية والانطباعية والسيريالية وغيرها.
وثاني أسباب ضعف التلقي الأمريكي للأدب العربي يرجع إلى أن الاستشراق الأمريكي لم يقم بدور ملحوظ في التعريف بإنجازات الأدب العربي، عن طريق الدراسة والترجمة، بل على العكس من ذلك فقد أفرز الاستشراق الأمريكي مثل نظيره الأوروبي ملاحظات سلبية عن الأدب العربي كقول المستشرق ويكنز في ختام مدخل الأدب العربي القديم في الموسوعة الأمريكية (طبعة سنة 1985): (قد تُرجم قليل من الأدب العربي، وكثير منه بحكم طبيعته لا يقوى على الترجمة (أي لا يصلح للبقاء بعد الترجمة)) (ص9)، وكقوله في دراسة له عن الأدب العربي الحديث: (لن أقف طويلاً عنده، لأني أشك في أن يكون هناك الكثير مما يستحق الذكر عنه. إن معظمه إن لم يكن كله يبدو لي تقليدا خاضعا لأسوأ ملامح أدبنا الحديث) (ص9).
وليس هذا المستشرق استثناء بين زملائه بل يمثل الأغلبية الغالبة منهم، وهم وأسلافهم من المستشرقين مسؤولون عن الرؤية السلبية للأدب العربي، وهي رؤية ناتجة عن التعصب الذي ورثه الغرب تجاه الثقافة العربية الإسلامية، أو عن التعالي الأدبي تجاه الآداب الأخرى، أو الوقوع في فخ التعميم وإطلاق الأحكام، أو قصور فهم المستشرق للغة العربية وعجزه عن تذوق الأدب العربي في لغته الأصلية (ص10). وبعبارة أخرى، فإن الاستشراق، الذي اتخذ من الشرق موضوعا لدرسه، هو مؤسسة غربية تستجيب لشروط الثقافة الغربية ومفاهيمها وأهدافها ومناهجمها أكثر من حرصها على تفهم الشرق وتقديم أفضل معطياته بأبهى حلة إلى الغرب. وهذا ما دعا إدوارد سعيد إلى تعرية المستشرقين في كتابين هما: (تغطية الإسلام) و(الاستشراق)، وتحميلهم بعض المسؤولية عن الصورة النمطية السلبية السائدة في الغرب عن العرب وثقافتهم: (فالعرب، مثلما يتصورون، راكبي جمال، إرهابيين، معقوفي الأنوف، شهوانيين، شرهين، تمثل ثورتهم غير المستحقة إهانة للحضارة الحقيقية؛ وثمة، دائما، افتراض متربص بأن المستهلك الغربي، رغم كونه ينتمي إلى أقلية عددية، ذو حق شرعي إما في امتلاك معظم الموارد الطبيعية في العالم أو استهلاكها أو كليهما، لماذا؟ لأنه بخلاف الشرقي: إنسان حق). (1)
وهذا ما دعا عددا من المستشرقين المنصفين إلى رفض لقب (مستشرق)، كما فعل الفرنسي أندريه ميكيل الذي قال: (إني أرفض أن أسمى مستشرقاً. أنا مستعرب وقع في دائرة سحر الأدب العربي).(2)
إضافة إلى ذلك كله، فإن دور الجامعات الأمريكية في تدريس الأدب العربي وترجمته، هو دور ضئيل، لا من الناحية الكمية فحسب بل من الناحية الكيفية كذلك؛ إذ انصب اهتمام تلك الجامعات على تدريس مادة اللغة العربية لا لفهم آدابها، وإنما بوصفها اداة في خدمة حقول معرفية أخرى مثل اللغات السامية أو التاريخ أو الدين، كما كان الأمر قبل الحرب العالمية الثانية، أو لخدمة حقول معرفية أخرى مثل السياسة والاقتصاد، كما أضحى الأمر بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا كانت الجامعات الأمريكية لم تعد خريجيها لنقل الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية، فإن أقسام اللغة الإنجليزية في الأقطار العربية، هي الأخرى، لا تكون طلابها للقيام بتلك المهمة، وإنما ليكونوا مدرسي لغة إنجليزية في المدارس. وإضافة إلى ذلك فإن هدف أقسام الترجمة في الجامعات العربية هو تأهيل مترجمين للعمل في المنظمات الدولية، وليس لنقل الأدب العربي(3)
تسويق الأدب العربي
الأدب بضاعة تضخع لمقاييس الجودة والتسويق، فإما أن تكون البضاعة جيدة ويعرف أهلها كيفية تسويقها فتصبح مرغوبة رائجة، وإما أن تكون رديئة ولا يُحسن أصحابها الإعلان عنها والدعاية لها فتمسي بائرة كاسدة. وهناك حالات قليلة يؤدي فيها التسويق الجيد إلى ترويج بضاعة سيئة، وهذا هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، كما يقول الفرنسيون. وتنمية العلاقات الأدبية مع أمة من الأمم مثل تنمية العلاقات الاقتصادية والتجارية يتطلب استراتيجية طويلة الأمد تشمل تطوير النظام التربوي، وترقية دراسة الآداب وترجمتها، ونشر تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وتشجيع المفكرين والأدباء ومد جسور الصداقة والتعاون بينهم وبين زملائهم من الأمم الأخرى، ودعم صناعة الكتاب وتكنولوجيا المعلومات والاتصال، والاستثمار في دور النشر ووسائل الإعلام في البلاد الأجنبية.
* قراءة في كتاب: صالح جواد الطعمة، في العلاقات الأدبية بين العرب والغرب (جدة: النادي الأدبي الثقافي، 2003)، 420 صفحة. وأرقام الصفحات الواردة في المقال تحيل على هذا الكتاب.
(1) إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء. ترجمة: كمال أبو ديب (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 6: 2003) ص131
(2) ناديا أنجليسكو، الاستشراق والحوار الثقافي (الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام ، 1999) ص15
(3) علي القاسمي، (دور الأدب في التقارب العربي الأمريكي) ورقة قدمت باللغة الإنجليزية إلى ندوة (أوروبا، أمريكا، والإسلام) في منتدى أصيلة المغرب، آب/ أغسطس 2003.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|