«ألا ليت لي قلبين إن مال صاحب |
جفوت لياليه بأقصاهما ترحا» |
لئن يا تِهامَ استوثقتْ عبرتي هنا |
بجذرك جذرا.. لا مجافاة لا ممحى |
ولكنني لأياً عن الواد نائياً |
بنجم سهيل.. جارح نجمه صدحا |
فأيُّ صباباتي إذا أنكر الظما |
بواديكِ قلبي موارياً ذا الظما لفحا |
يسامرُ جفناً يشبه الليل كلما |
طوى الليل جُنحاً عادني في البكا جنحا |
تعلل تشرابي تواليَ ليلةٍ |
من الوصل بكائين عن بردها صفحا |
بهذه العذوبة، والدفء، والصدق، والشعر الخالص، يختم الشاعر الكبير محمد العمري قصيدته الرائعة والفريدة (معلقة الشكايات) التي نشرها هذا الملحق في عدده 82 بتاريخ 11 رمضان 1425هـ. |
وهي من أجمل وأكمل القصائد التي قرأتها، وظلت تلاحقني بحسنها وترافقني بلطفها وتمنعها.. |
انها قصيدة حية حاضرة، من تلك القصائد الحميمة التي لا نحيلها إلى مكتباتنا، أو أرشيفنا بل نحملها معنا، وفي ذاكرتنا. |
وأذكر أنني قد قرأتها قبل أيام، وأهديت نسخة منها للشاعر الدكتور زاهر عبدالرحمن عثمان. كما أذكر أنني منذ أعوام ليست بالقصيرة قد اتفقت مع القاص والشاعر المبدع جار الله الحميد على فرادة وتميز محمد العُمري لغةً وشعراً.. ونأيا مصطفى. |
والعُمري كنز من كنوز هذا الوطن الأدبية، وهو زاهد في الحضور حسب متابعتي ومعرفتي، ويمكنني اعتباره من أجمل شعراء الظل المؤثرين.. ومن أهم من يفهم الشعر ويتذوقه، ومن يطرق أبواب القصيد. |
وهو يفرز بعين ثاقبة الغث من السمين، والضحل من الفارة.. |
وما كتاباته وقراءاته التي تنشرها ملحقاتنا الثقافية بين الحين والآخر إلا دليل على وعي كبير بموضوعات الشعر واللغة والنقد. |
ولمحمد ذائقة عالية تتبدى في انتقاءاته، وتنعكس في قصائده غير العادية، والمتجاوزة، والجديدة، لكنها في نفس الوقت المحملة بعطر وجماليات القصيدة الأم. والقارئ للمعلقة يكتشف أن محمداً لايستعيد التراث، ولا يحاكيه ببرود، بل يصوغ قصيدته بافتتان عظيم باللغة، وهو يكتب نفسه بحرقة، ويمثل نموذجاً للشاعر المتمكن من أدواته، المتطلع أبداً إلى الغد بما يحمله من شموس معرفية جديدة. |
والعُمري يذكرني بالراحل الكبير عبدالله البردوني، ليس لتشابه في الشعر ولكن للنظرة التي يحملانها لمفهوم الشعر ومعنى التجديد.. |
ولخروجهما عن أسر القديم والعادي والمكرور، وليس عن غيوم التراث ونجومه.. |
والمعلقة من مطلعها: |
إلى خاتمتها: (لغة صافنة متعالية لم تك غير نفسها.. لم تك لغة دمية خداجاً شاخت في المماثلة والمحاكاة والتشابه والتعمل الهزيل.. إنها الظرف العقلي الفرد كما كنت اسميه وأصفه وأعتقده...). |
وقد اخترت هذه المقولة لمحمد العُمري نفسه، لأطبقها على رائعته، لأنها خير مختصر لوصفها، ولتبيان رأي نقدي سديد في الشعر له ومنه يمكننا الوصول إلى ذائقته العالية: |
مُعرّفة ذي الريح تنبئ شادناً |
عن المسك بضاً.. ضمخ المرمر الفسحا |
فما نُكّرت في العود نغمة مُوحش |
مراود تمحو نعّساً.. قلّ ان تمحى |
وأنت جوى في الليل أمسيت عائذاً |
بربِّكِ من وسواس قلبكِ.. لِمْ جَنْحا |
فلله دره من شاعر شاعر |
ولغوي ماهر باهر |
|
mjharbi@hotmail.com |