مساقات نقد القيم مقاربات تخطيطية لمنهاج علمي جديد «8» د. عبد الله الفَيْفي
|
تقدم في المساق الماضي أنه لو أُمعن النظر في ذلك التصنيف للقيم، الذي ساقته عن (الجاحظ) دون توثيق (موسوعةُ القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية)، 1 : 75 77، (الرياض: دار رواح، 1421هـ = 2000م) حيث نسبت إليه جعله القيم العليا في المجتمع العربي التقليدي: القيم الدينية، وقيم الشرف، والأصل، والأسرة، والثأر لتبين أنه تصنيف ينتمي إلى ما قبل الإسلام، وأن قيم العمل، والحرية، والفردية، والمساواة، هي قيم إسلامية، لا غربية، انبثقت في الأساس من القيم الدينية، التي تنطلق من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات، وقوله عز وجل: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (78) سورة الزلزلة، وقوله سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (105) سورة التوبة. كما تنبثق من اعتماد الحرية، بما في ذلك الحرية الدينية، أساسا للتكليف في الشريعة الإسلامية: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} (29) سورة الكهف؛ {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (99) سورة يونس؛ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (256) سورة البقرة. ثم من النظرة إلى مسؤولية الإنسان الفردية: {قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (164) سورة الأنعام؛ {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15) سورة الإسراء؛ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (18) سورة فاطر؛ {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (7) سورة الزمر. وكذا قول الرسول عليه الصلاة والسلام (1): (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة)، إلى جانب قوله والدال على نقض المبدأ الثبوتي في القيم : (أبغض الناس إلى الله (...) مبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية)(2). وهذا إذن هو الإسلام (بالنص)، لا بالتأول، ولا بأسلمة الأنساق القيمية؛ هذا هو الإسلام: دين اختلاف، وحرية، وحوار، وتطور؛ من حيث هو دين (استسلام لله)، يحرر الإنسان من ربقة الاستسلام للإنسان وقيمه الموروثة؛ وذلك بعكس التصور القيمي (الرُّهابي) السائد عن كل ما يسمى (دينا).
هذا، ولو أمعن أيضا النقد في تصنيف القيم على أساس (العمل،
الحرية، والفردية)، لتبين أنها هي الأقدر على أن تصبح قيما دائمة التطور والتجدد والنمو، لا قيم (الشرف، والأصل، والأسرة، والثأر) المنتمية إلى ما قبل الإسلام، بل إلى ما قبل المجتمع المدني المتحضر. أما المغالطة في عزو قيم العمل والحرية والفردية في الغرب إلى المادية واللادينية، فمسلك مألوف في المفاضلة القيمية بين الغرب والشرق. وها قد رأى القارئ أن تلك القيم التي تُزعم غربيتها هي قيم دينية إسلامية، وإن كان هذا لا يتعارض مع كونها كذلك قيما دينية يهودية أو نصرانية.
وأما تصنيف القيم من حيث كونها نفعية وغير نفعية، أو داخلية (غائية) وخارجية (وسيلية مصلحية)، فإنما ينبني على النظرة إلى مفهوم (النفعية) و(المصلحية). وإلا فجميع القيم نفعية بشكل أو بآخر، إن فهم النفع بعمومه، لا على أنه النفع المادي فحسب، بل يشمل النفع النفسي والذهني أيضا، فرديا كان أو جمعيا. وعندئذ فالقيم الأخلاقية نفعية، والقيم الجمالية نفعية كذلك. وما يسمى بالقيم الداخلية الغائية إذن هي قيم نفعية وسيلية، نفعها رضى النفس، وهي وسيلة إلى كسب احترام الآخرين.
وأخيراً، يمكن هنا الاستئناس بما ذهب إليه أحد الدارسين (3) من إمكانية تصنيف القيم وفهم أنساقها (عن طريق متغيرات بارسونز T.Parsons الأربعة، وهي: العمومية في مقابل الخصوصية Universalism Particularism، والإنجاز الأدبي في مقابل النوعية Achievement Ascription).
* فهل القيمة الاجتماعية: ثابتة أم متحولة؟:
إن المفهوم القارّ للقيم في العالم العربي والإسلامي ذاهب إلى أن (القيم) مرتبطة (بالقدم). وهذا الموقف من القديم والجديد يعكس علاقة قيمية اتباعية لا إبداعية، تحاكي الماضي وتسير في ركاب المؤسسات التي تحمله. وذلك ما تؤكده (موسوعة القيم) حين تستهل توطئتها بعبارات تشي بخطاب حاث على الثبات على القديم. في حين أن (القيمة) كما تقدم في الحلقات الماضية من هذ الدراسة يفترض فيها أن تكون عملية متحولة متغيرة بتغير الزمان والمكان والإنسان. أفلا يتبدى إذن أن الدعوة إلى تثبيت القيم هو ضرب من إلغائها في النهاية، أو بالأحرى إلغاء الحيوي منها؟! تقول توطئة (موسوعة القيم)، (1 19): (ليس البحث في (القيم ومكارم الأخلاق) ترفا علميا، ولكنه نابع من ضرورة اقتضتها الحياة المعاصرة، فلقد كان لطغيان المادة على الفكر خطره، وعلى القيم ضرره، حتى شغل الناس عن الثوابت، وانصرف كثير منهم عن الموروث الذي صنعته الحقب المتتابعة، ونمته برعاية تامة في نفوس الأمة جيلا بعد جيل حتى أصبح ثابتاً..).
لقد ذهبت طائفة كبيرة من قدماء الفلاسفة، ك(سقراط) و(كانت)، إلى أن الطبيعة البشرية واحدة في كل زمان ومكان؛ لأن العقل مشترك بين البشر جميعا. ولهذا قالوا بعمومية المبادئ الأخلاقية وشموليتها، كما قالوا بثباتها وإطلاقها. بينما استقر رأي طائفة أخرى من الفلاسفة في العصر الحديث، يمثلها فلاسفة المذهب التجريبي الوضعي، إلى أن الأخلاق جزئية ومتغيرة ونسبية (4). أما القيم بعموم مفهومها فقد نظر إليها علماء الاجتماع المحدثون على أنها بنسبيتها في مخاض تحول دائم، وتطور تاريخي، وصراع وتداول، وذلك بتفاعلات الزمان والمكان والإنسان، وليست على كل حال بمطلقة أو ثابتة. (5) ذلك أن القيم التي لا تنمو ولا تتطور مع نمو المجتمع وتطوره ليست بقيم، وإنما هي مقدسات دينية، وحتى القيم الدينية لابد أن يكون فيها مجال للتطور مع الزمن، وإلا لما كان هناك اجتهاد، ولما كان من الضروري أن يرسل الله للأمة (على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها)، كما جاء في الحديث النبوي (6)، بل لما صلح الدين لكل زمان ومكان (7). (وللبحث اتصال، بمشيئة الله).
إحالات:
1 صحيح مسلم، باب العلم 15، الزكاة 69؛ النسائي، الزكاة 64؛ مسند أحمد بن حنبل، 4 357 361، عن: ونسنك، أ.ي. (ولفيف من المستشرقين)، (1986)، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي عن الكتب الستة وعن مسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل، (استانبول: دار الدعوة)، 2 553
2 البخاري، (1981)، صحيح البخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا، (دمشق، بيروت: دار القلم)، 6 2523 (باب الحياء في العلم).
3 بيومي، محمد أحمد، (1981)، علم اجتماع القيم، (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية)، 218
4 انظر: فارب، بيتر، (1983)، بنو الإنسان، ترجمة: زهير الكرمي (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، 10 11
5 وانظر مثلا: مانهايم، كارل، (1968)، الأيديولوجية والطوباوية: مقدمة في علم اجتماع المعرفة، ترجمة عبدالجليل الطاهر (بغداد: مطبعة الإرشاد)، 165 166
7 سنن أبي داود، الملاحم 1 17؛ مسند أحمد بن حنبل، 2 88، انظر: ونسنك، أ. ي. 2 197
7 قارن: مانهايم، 163
aalfaify@hotmail.com
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|