تأملات في كتاب (حكاية الحداثة) للغذامي الطفرة.. وأزمة الإنسان الحديث «4» سهام القحطاني
|
الفعل الأول للبطل إنما هو الانسحاب من مسرح الظاهرات والتأثيرات القائمة في العلن، والتوجه نحو المناطق الفاعلة في الروح حيث تكمن الصعوبات الحقيقية. مهمته تقوم على ادراك الكوابح والتغلب على ذاته عن طريق منازلة شياطين الرضاعة في ثقافته الخاصة كي ينفذ في النهاية إلى تجربته المباشرة وغير المشوهة وإلى تملك ذاته أي إلى ما دعاه يونغ (النماذج البدائية)
جوزيف كامبل
*هل مثّل أستاذنا الغذامي دور البطولة المطلقة في مسرح المشروع الحداثوي؟ ولو كان الأمر كذلك (وأحسبه).. فأي نوع من الأبطال هو؟ إنه يذكرك بقصة المثقف الكونفوشيوسي الذي جاء إلى الكاهن بودهيدارما لكي يأتي بالسكينة إلى نفسه، قال الكاهن للمثقف: اعرضها علينا وأنا سأعيد لها السكينة، أجاب المثقف، هذه هي الصعوبة أنا لا أستطيع أن أجدها، عندها قال الكاهن، لقد تحققت لك أمنيتك، المثقف فهم ذلك جيداً ومضى في سلام، فنفس المثقف تظل هائمة تندمج مع ذوات الأشياء، وتفتت مجاهيلها، إنه الإدراك من خلال قانون (يوغي فيّ أنا) أي (يشاهد ذاته الخاصة في كل شيء، ويشاهد الكائنات كافة في ذاته الخاصة، مانحاً نفسه بذاته باليوغا يشاهد في كل مكان الكائن ذاته، في أي موقع يمكن أن يكون باستمرار، إنه يوغي، إنه فيّ أنا) كما تقول نظرية اليوغا . التي تتيح للمثقف تأمل الذوات واكتشافها وتفكيكها.
إن موقفي من كتاب (حكاية الحداثة) يختلف عن موقف من قدم له قراءات سابقة، وليس لأني أفهم أكثر منهم، بل لأن كل الذين ناقشوا الكتاب قبلي كانوا شهود عيان لهذه المرحلة، فجاءت قراءاتهم تفنيداً أو توضيحاً، لكن الأمر معي مختلف، لأني لم أشهد صراع هذه المرحلة ولم أكن أمثل طرفاً فيها، لذا تأتي تأملاتي، من داخل الكتاب وارتباطاته بقضايا مختلفة استطاع أستاذنا الغذامي تشريحها بصورة دقيقة، وهذا ما لم ينتبه إليه الذين قرؤا الكتاب، لأن هدف محاكمة الكتاب وصاحبه كان هو الحاضر في ذهنهم، وهو الذي جعلهم يتملون الارهاصات السوسيولوجي المهمة للمجتمع السعودي التي تطرق لها الكتاب، (أحسب ذلك).
*يضعنا كتاب (حكاية الحداثة) أمام خمسة احتمالات اختيارية لتشخيص أسباب فشل المشروع الحداثوي في المملكة.. وفشل أي مشروع مستقبلي، إن ظلت ذات المؤثرات حاضرة في التصور الجمعي، احتمال متعلق بتحولات الواقع الاجتماعي، أو احتمال متعلق بنوع الخطاب الثقافي.. أو احتمال متعلق بالمثقفين (بعضهم كان جليل القدر وأغلبهم كانوا دجالين) كما قال روبيسبير .. أو احتمال متعلق بالقنوات الثقافية.. والاحتمال الاخير، أن يكونوا (جميعاً معاً) قد تكاتفوا لإجهاض حمل الحداثة، بأمر من الأنسقة الاجتماعية لدينا أولاً، ولعجز الحداثة من إنجاز خطاب ثقافي يستثير عطف وتشجيع الثقافة الشعبية له، والكتاب انتهج في تحليله
وفق الاحتمال الأخيرة (جميعهم معاً) بادئاً من التأسيس (خصوصية النسق) متدرجاً نحو الشخصية المثقفة بنوعيها، التي قصدها انطونيو غرامشي (إن جميع البشر مثقفون.. مع الاستدراك بأن جميع البشر لا يمارسون وظيفة المثقفين في المجتمع، وان كنا نستطيع التحدث عن مثقفين فالحديث عن غير المثقفين لا معنى له) واحتمال القنوات الثقافية، ثم ناتج الخطاب الثقافي لهذه المرحلة.
أولاً نحن لا ننكر أن متغيرات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عادة ما تتدخل في تشكيل بعض مسارات البنى الثقافية للمجتمع، وخاصة إذا مثلت تلك المتغيرات مقام السلطة، وكل متغير ناتج لمتحول اجتماعي هو (سلطة) فاستيعاب نوع التفاعلات الحاصلة بين العلاقات الاجتماعية وبين أفكار الفعلة الثقافية أمر مهم لتفسير أسباب الأزمات الفكرية التي يتعرض لها المجتمع، أو كما أسماه أستاذنا الغذامي (النقد الثقافي) القائم على اكتشاف (عيوب هذه الحداثة الزائفة إلا عبر نوع من النقد الذاتي المتعمق في قراءة الأنساق وأساليب حركتها) ص 168 فالطفرة أنتجت فردها، وأنتجت معه ثقافته الاجتماعية والفكرية والاقتصادية واللغوية، وهي ثقافة تعددت تحولاتها وبدت (آثارها في وسائل المعاش وفي آليات التفكير وفي الخطاب اللغوي، ومصطلحات هذا الخطاب، وكذا في درجة الوعي وفي دخول نوع من ثقافة الأسئلة) ص 167
يمثل الخطاب اللغوي الناتج عن الامتزاج مع حركة اجتماعية معينة أهم آثار الحركة الاجتماعية، لأن استخدام الوسائل المعايشة الحديثة، هو أمر مشترك بين الحركات الاجتماعية، لا يمثل ضبطاً مميزاً لجسم التجربة، لكن الخطاب اللغوي، يظل المصدر الغنائي لتفسير وتحليل الأبعاد الفكرية للحركة الاجتماعية، الذي أهم صفاته الانتقال من (لغة الواقع إلى لغة المجاز) وخلق تجربة أهم خصائصها انها (يقوم على فصل بين القول والفعل وبين الحقيقة والواقع، فيه كذب مسوق ومتوقع وفيه مبالغة مزيفة وفيه اتكال مطلق) وأفراد ذو سمات حداثية (ولكنها حداثية مجازية، وغير واقعية وغير عقلانية) ص 164 فماذا يقصد بلغة مجازية؟ المجاز هو فن بلاغي، يقصد به استخدام الكلمة في غير موقعها، لتحقيق إزاحة معنوية خاصة، لا تتوفر في اللغة الواقعية، نوع من الحيلة اللفظية، وهناك مجاز مبني على المفردة لقرينة مانعة من أراد المعنى الأصلي وآخر مبني على التشبيه، ولغة المجاز عادة هي ناتج الدهشة او الحدث الاستثنائي، الذي يتيح للمعنى خاصية الانزياح مع الاحتفاظ بجوهر المعنى، فاللغة كما نعلم لا يمكن فصلها عن النشاط الذهني للجماعة، وهي بذلك ترتبط بالكينونة الاجتماعية للإنسان،
والكينونة (هي اللا مقال واللا محكي حيث تتغذى كلماتنا، أما اللغة فهي قدرة الإنسان على التعبير عن جوهر الكينونة وفي الوقت ذاته عن كيان الإنسان) كما يقول بشارة صارجي لذلك لا نستطيع الفصل بين اللغة وأفكار الفرد الكينونة لأنها تظل (نظام من الإشارات تعبر عن الأفكار) كما يقول دوسوسور وهذا يفسر لنا مشكل (اللغة المجازية)، التي اتخذت جانبين من المعنى، المعنى الحقيقي الذي يعبر عن جوهر الكينونة والمستقر الساكن داخل التصور الجمعي، والمعنى الآخر الذي يتلون من خلال الأشكال الحداثية والذي يمثل سمة من سمات (الذات الحداثية والفرد الحداثي إلا ان الواقعة الاجتماعية شيء آخر) ص 168، علينا هنا ان نفرق بين الصورة البنائية والبناء الواقعي ويميز راد كليف براون بين (الصورة البنائية) و(البناء الواقعي) (فالصورة البنائية هي الصورة العامة أو السوية لعلاقة من العلاقات بعد تجريدها من مختلف الأحداث الجزئية رغم ادخال هذه التغيرات في الاعتبار.
أما البناء الواقعي فهو البناء من حيث هو حقيقة شخصية وموجودة بالفعل ويمكن ملاحظتها مباشرة، والبناء الواقعي يتغير بسرعة واستمرار بعكس الصورة البنائية التي تحتفظ بخصائصها وملامحها الأساسية بدون تغير لفترات طويلة من الزمن وتتمتع بدرجة من الاستقرار والثبات)، فما الذي يحدث لو كان هناك تناقض في الموجود ما بين الواقعة الاجتماعية والصورة البنائية، ما يحدث ان سلطة الصورة البنائية (المقاومة غير الملفوظة) كما يذهب الغذامي، تحتال على الموجود في الواقع الاجتماعي لتحويله إليها وتشكيله من خلال أطرها، و(تحويل معالم التحديث وتعديلها لمصلحة النسق التقليدي) ص 186 واللغة هي
وسيلة الاحتيال، في الانتقال إلى الحداثة المجازية عبر (اللغة ذاتها) وتتعدد أنواع الاحتيال اللغوي الذي يدخل الفرد دائرة الحداثة المجازية مثل استخدام (كاتب رجعي يستعمل لغة حداثية، ويزين قوله بالمصطلح الحديث، وهذه حيلة نسقية، تجعل الكاتب يتماها تماهياً شكلياً مع الخطاب الحداثي، فيوهم نفسه بأنه مثلهم) هذه الحيلة تعالج نفسياً عقدة النقص الذي يشعر فيها المثقف التقليدي، وهي توفر له في ذات الوقت توازناً فكرياً، ما بين الثقافة الحداثية والثقافة التقليدية، وهو جانب حسبما اعتقده لا مضرة منه، إلا في حالة إذا مارست الثقافة النسقية على حيثيات التحديث تحولها إلى (مظهر تزييني تزين بها رجعيتها، وتنقلب قيم التحول من تحول نوعي إلى تحويل شكلي، ويبدو الوضع تقدمياً وأصالياً في حين انه غارق في رجعيته)، وهنا تحفر منطقة بعد بين الحداثة والتحديث والنسقية، وهو بعد عبر عنه صلاح فضل بقوله: (الحركة الحداثية الشعرية العربية سبقت مجتمعاتها بآماد طويلة تفصلها عنها في بعض المناطق سنوات ضوئية، كما حدث في الجزيرة العربية).
مقدار الخطوط الفاصلة ما بين الحداثة الفكرية والنسق الاجتماعي، هي ناتج غير واعٍ إنما (حيلة ثقافية عميقة جداً، وهذا ما يجعل عناصر التحديث الاجتماعي عندنا على مستوى شكلي وسطحي، ولا يلامس العمق النسقي) ص 168 وهذا أمر لا يمكن التحكم في تعديله إلا من خلال تعديل البنية التحتية للنسق ذاته، وهذا يحتاج العودة إلى مرحلة التنشئة، العاكسة لقابلية تعديل السلوك الإنساني، والقابلية هنا مضبوطة بمقاييس بيولوجية وحضارية، فسلوك الإنسان سلسلة منتظمة من المثيرات والاستجابات التي يحصدها من خلال الأنظمة المتعددة التي تحيط به وهي التي تكون تمسكه بمرجعيات الجماعة المختلفة الناتجة عن نموذج الاستدخال، وهنا يصبح الإنسان نتاج حضارته، التي تحولت إلى جزء من ذاته، فهو نتاج العلاقات الاجتماعية التي تنشأ من خلال أنظمة الجماعة، ووعيه بأهمية الامتثال لهذه الأنظمة هي وظيفته العليا، وهكذا تصبح الحداثة ناتج (وعي) يتجاوز بنية النسق، (الوظيفة العليا) للفرد، أقول يتجاوز ولا أقول يهدم، ويظل هذا الوعي (فئوياً محدداً، أو هي شكل محول تحويلاً نسقياً ماكراً وخادعاً، وهذا يشمل المجتمع العربي كله).
يذكر أستاذنا الغذامي، أن من سمات الشخصية الحداثية المجازية انها (غير واقعية وغير عقلانية)، أي في المقابل ان الحداثة لم تستطع ان تنتج فرداً (واقعياً أو عقلانياً)، وهذا يوقفنا أمام مصطلح آخر وهو التحديث، فالبعض يرى ان التحديث مرادف للنزعة الغربية، وقد ينظر البعض على انه تطور المجتمع صناعياً وعلمياً وتقنياً، لكن اعتبار الإنسان حديثاً وفق وسائل المعايشة الحديثة مثل السيارة والثلاجة والحاسوب،، لا تعطيه صفة (الإنسان الحديث) (Modern Man)، فالتحديث هو (خصوصية سلوكية بالنسبة للإنسان، وصفة لأعماله... وهي التي توصلنا إلى المصدر والمعيار الأساسي في اعمال الفرد الإرادية والتي هي (المعقولية) بذاتها. و(كلما كان الأمر معقولاً أكثر، كان أكثر حداثة) د. محمد جواد لاريجاني (فالإنسان الحديث يسعى إلى تفسير تصرفاته على أساس أكثر عقلانية، وليس على أساس مجرد العقائد الدينية والآداب والتقاليد). وهذا ما يجعل البعض يربط التحديث بالليبرالية، ومن مظاهر العقلانية، الواقعية والعلم والعمل والإبداع، لذا ربط شيخنا الغذامي بين الإنجاز والعقل السعودي عندما اعتبر (التنمية هي مشروع للتحديث)، أي (فاعلية سياسية واجتماعية، تروم تطوير بنى المجتمع والسياسة والاقتصاد. بحيث توائم مستوى التحولات الطارئة على صعيد الزمان والمكان والعلاقات الاجتماعية والحاجات. وهنا يتعلق الأمر بسياسات وإجراءات مخطط لها تحقها الدولة) عبدالإله المقريزي وسوّغ الغذامي فشل التنمية في الاستعانة بالغير من أجل خلق الإنجاز وتفعيله، وبذلك حرمنا فرد الحداثة من ممارسة الواقع العلم والعمل والإبداع (ولو اننا عمدنا إلى اسناد مهمة انجاز التطوير إلى أيدٍ عاملة منا لكنا حققنا التنمية وتجنبنا الطفرة، وصارت العمالة السعودية، هي الرديف الموازي للعقل السعودي المخطط، ولنمت قيم العمل متصاحبة مع قيم التغيير والتحديث) ص 171 ويقصد بالتنمية (عملية إحداث مجموعة من التغيرات الجذرية في مجتمع معين، بهدف اكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية الحياة لكل أفراده) وانعدام التطور الذاتي هو ما اخفق مشروع التنمية في المجتمع السعودي، إذ فصل بين الفرد وقيمة العمل المساهمة في تطوير نوعية العمل وحدث ذلك (حينما تركنا العمل اليدوي والمهني الانجازي لأيد مستجلبة من الخارج) وهكذا لم تستطع التنمية من خلق إنسان حديث، تتلخص عقلانيته في واقعيته لتقييم صحيح لبيئة، (فعقلانية سلوكيات العامل، تساوي محاسباته) كما تذهب النظرية الليبرالية.
إن اخفاق المجتمع في الاندماج الصحيح مع التنمية الخالقة للانسان الحديث، انتجت بدورها عجز فرد الحداثة على التكيف مع التنمية الثقافية، والتي تعتمد على عدم أحادية مصدر معرفي مستقبل عن المصدر البشري، ان المجتمعات تتحرك وفق خط متصاعد متتابع لكل مرحلة تمثل علوا عن الأخرى، وفي ظل غياب منتوجات التنمية البشر غاب النظام الحداثي والمجتمع الحداثي وقد أدركنا أستاذنا الغذامي سبب هذا الاخفاق للتنمية البشرية في المجتمع التي لم توفرها الطفرة (ومن هنا لم تتحول الطفرة إلى عنصر تحديثي ايجابي ولم ينتج عنها مجتمع حداثي، وصارت حداثة ظاهرية، وحداثة الوسائل لم تتحول إلى حداثة في الانساق الذهنية والتصورات الإنسانية) ص172
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|