حوار.. مع (غراب) الشؤم! عبدالرحمن السدحان
|
* عرفتُه منذ زمن بعيد (غرابَ) شؤمٍ لا يرى في إشراقة الفجر ابتسامةً للفرح، ولا في إطلالةِ الليل سكناً للنفس، ولا في قطرات المطر غيثاً للبلاد، ولا في خُضْرة الحقول رزقاً للعباد.. يومه كأمسه، وغده نسخة مكررة من هذا أو ذاك!.
* *
* حاورته مرة علّي انتشله من زنزانة شؤمه، أو أنزع عنه (قناع نقمته) على الحياة والأحياء يشوّه بها كل معنى جميل!.
وكان لي معه هذا الحوار:
* قلت له: حلَّ القرن الحادي والعشرون قبل حين، وبتنا اليوم ننسب كلَّ حدث في الأمس القريب إلى (القرن السالف)، وقد تغيّرتْ منذ رحيل ذلك القرن أشياء واستجدت أشياء، إلا أنت، بقيت نزيل خيمة شؤمك! فأين أنت من كل هذا؟.
* *
قال لي مقاطعاً: ولماذا تسألني؟ أم حسبت أن لي وزنا أو معنى في هذا الكون المتدثِّر بالمصائب والخطوب؟!.
قلت له: ما من إنسان إلا وله (وزن) من نوع وثقل ما، يصنعه بفعله وخلقه وإنجازه، أمَّا من يعاني (الفراغ) عقلا وروحا ووجودا فذاك لا وزن له ولا معنى! ثم إن حلول هذا القرن يمثل نقلة ثقيلة وخطيرة تعبرها البشرية على صراط الزمن نحو غد جديد بخيره وشره! وأنت وأنا، والثالث والرابع حتى آخر رقم في تعداد أهل هذا الكوكب معنيُّون بقدوم هذا القرن، فهو إضافة إلى (روزنامة) أعمارنا ومصائرنا جميعاً!.
* *
* قال: هذا الأمر يعنيك يا صديقي وحدك.. وآخرين معك، أما أنا فلا يعنيني في شيء.. بل لا يعني لي شيئاً!.
قلت: ولِمَ كلُّ هذا الغضب ولِمَ الهجمة على دنيا أنت جزء منها؟!
قال: ماذا عساني أن أقول لك عدا ذلك! لستُ معنيَّاً بهذا القرن ولا بسواه، وحتى لو تجاوز عمري مائة سنة، فكلُّ الأيام وكل الشهور وكلّ الأعوام عندي باتت سواء!
* أمسُها كيومِها كغدها عندي سواء!
* والهموم والأحلام والآمال عندي سواء!
* وأنا، كما أحلامي وهمومي وآلامي، معها وبها سواء!
* *
* قلت: أنت بهذا الموقف المريع تكرّس غيبوبة إحساسك، وتغلو في تشاؤمك غلوّا ينْأى بك عن جادة اليقين. إنك بهذا تعلن حالة (إعسار روحي وإفلاس معنوي) و.. و..!
* قال: صِفني بما ترى.. وصنّفني بما تشاء، واسخر مني كما تريد، لكن دعني أسألك أنت سؤالاً:
* كيف تحلم بغدٍ.. لا تدري إن كنت ستبلغه، أم ستسبقه إلى النهاية المكتوبة لكل البشر؟!
* كيف تأسى على أمس فاتك ركبُه ورحل، وسلمك مفاتيح الريح تقبضُها، فلا تلقفُ منها شيئاً!
* كيف تفرحُ بغدٍ.. لا تعلمُ له سرّاً، ولا مَوْعداً! وإذا كان أمسُك ضائعا، وغدُك غامضا، فهل يستحق يومك الراهن ومضة عين.. أو رعشة إحساس، أو خفقة أمل؟!
* *
قلت: قولك هذا لا يزيدني إلا يقينا بأنك مسرف في تشاؤمك، متطرف في إحساسك، مبالغ في الاستشهاد بملحمة الألم في حياتك! وأزعم أن لو كان التشاؤم رجلا لفر منك (تشاؤماً)!
قال: فأنت إذن متفائل بقدر تشاؤمي؟
قلت: أولاً، أنا مؤمن بالله، وبالقدر خيره وشره، وفي الوقت نفسه، لست متطرفاً في تفاؤلي.. ولا مسرفا في ظنّي السيّئ أو الحسَنَ، مثلما أنني لست مبالغا في منادمة الفرح، لكنني أعشق (الوسطية) في أمور العقل والنفس وتكاليف الحياة! الله خلقني لأعبُده لا أشرِك به شيئا، والله أمرني بلسان رسوله المصطفى عليه الصلاة والسلام أن أعمل لحياتي كأنني أعيش أبداً، وأن أعمل لآخرتي.. كأنني أموت غداً، والحياة.. درب رحب للأمل.. والحلم.. والعمل المبدع، رغم غموض نهايتها، ورغم أشواك من الألم تدمي أيدي وأقدام أحيائها! وما دام في جسدي نبضٌ.. وفي عقلي وقود من حياة.. فسأحيي يومي بالعبادة والعمل، وأرقب قدوم الغد لأعيد الكرة حتى يختار الله لي ما يريد!.
* *
قال: أفبهذا تستقبل قرنَك الحادي والعشرين؟!
قلت: نعم.. وإذا قُدر لي أن أبلغ من هذا القرن ما شاء الله لي، فسأكون فيه مثقلاً بالمشروع من أحلامي وآمالي وطموحاتي، موقناً بأن لي وللإنسانية مع الله وعداً.. ووعده الحق بألا يُحبط لي.. ولا للبشرية المؤمنة حلماً ولا رجاء ولا أملاً، وأن يستجيب لدعائي بأن يكون هذا القرن أكثر أمناً، وأندى رغداً، وأقوى حرية من عبودية الجهل، وذل الفقر، وشأفة المرض!.
* *
قال وهو يُودّعني بابتسامةٍ مقتضبة كشمسِ الشتاء: أتمنى لو (استنسختُ) من فؤادك فؤاداً، ومن وجدانك وجداناً، ومن تفاؤلك تفاؤلاً، فلا أرى في الحياة.. إلا الجميل!
قلت: مشوارُ الحياة يا صديق الشؤم وإنْ طال، قصير.. فلماذا نفسده بفتنةِ التشَاؤم؟ لماذا نَدَعُ جرحَ الظنّ يفسدُ علينا متعةَ العيش والتعايش مع الآخر، ويُطفئُ إشراقة الحب والعطاء في أعماقنا؟!.
* *
* هنا، مددتُ يدي إليه مودّعاً فيما كنت ألمح في عينيه مشروع دمعة!!.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|