غناء الجرح محمد العيد الخطراوي
|
*سعد البواردي
وتر الجرح حين يغني يأتي شجياً.. لحونه باكية.. وأوتاره شاكية.. شاعرنا آثر أن يعزف لنا لحناً بكائياً عبر قصده وقصيده.. الحب لديه صب.. والحلم لديه وجع يسترجعه.. ربما انتظاراً لانتصار في داخله يلملم شتات شوارده التي تحلم بأمل غائب في ضبابيات المجهول.. عن قافلة الصباح المتجهة قال:
وأربد وجه سمائنا
فعيوننا لن تستبينه
لم تبق غير نجيمة
في الأفق تائهة حزينة
يجتاز ضوء بريقها
أكفان غيمات مهينة..
حتى النجوم في عينيه مشهد جنائزي ملفوف بالكفن.. باستثناء غيمته الوحيدة الشريدة: إنها أمله المتبقي:
أشعاع نجمتنا الذي
تقتات منه عيوننا
وتعيش تحت سنائه
آمالنا ونفوسنا
لا تبتعد عن دربنا
إن الظلام يميتنا
النجمة اليتيمة جذّرت في دواخله الأمل.. إنه لا ييأس.. إنه لا يأس من رحمة الله..
سنسير رغم مغيبها
حتى تضيء شموعنا
الظلام الموحش الذي توسَّد مشاعره لم يستكن له.. والجرح الذي يئن في أعماق لم يستسلم لآهاته.. إنه يحب عن دواء وشفاء.
بُحّ صوت النداء يا قلبي الدامي
وغاض الموجود في ناظريا
وتلاشى الضياء من حول روحي
وكؤوسي تحطّمت في يديا
ليس بعد تحطّم الكؤوس من فرحة لنفوس البائسين اليائسين.. إلا أن شاعرنا طرح اليأس جانباً رغم بؤسه
رغم كل الأشواك سار حثيثاً
نحو آماله يسوق المطيا
هازئاً بالظلام غير مبال
يرقب الفجر والصباح الوضيا
وعلى جثة الصباح يوالي
سيره لا يريد صبحاً شقيا
هكذا ثقافة الحي.. إنها لا تستسلم للضعف.. وإنما تقاوم كي تقوى..
(غناء الجرح) معزوفة إيقاعها نغم ممزوج بالألم:
لهفة الشوق تبعث الحلم حيا
يتهادى على ذراع الثريا
يطأ الحاضر الذليل ويلقي
بنشاراته مكاناً قصيا
ثم يلوي به الطموح إلى أن
يجعل الشهب مركبا ونجيا
أي لوم على السجين إذا ما
حنَّ للفجر مشرقاً ووضيا؟!
اللوم يا شاعرنا أن يستسلم سجين الإرادة.. فالحياة إرادة لا تقبل الظلام ولا الظلم.. بهذا التحدي كان يخاطب إخوة له يقضون حياتهم داخل زنازين عذاباتهم داخل فلسطين المحتلة:
يا أخا الجرح قد مللت الفيافي
وسئمت الأشواك تنخز فيا
فاطرح كل مركب ليس يجدي
وإلى الموت يا رفيقي هيا
ثم أولم لموكب الجوع واملأ
دنَّه بالشراب نهلاً وريا
والتزم دوحة الحياة وناد
يا فلسطين ها أنا عدت حيَّا
لعل وعسى أن نحيا بفلسطين. وأن تحيا بنا..
شاعرنا الخطراوي قدَّم اعتذاره.. لمن؟ وعلى ماذا اعتذر؟
اختاه يا من نورت
دربي بمعترك الظلم
بحديثها المعسول في
أذني كأشذاء النغم
هل تغفرين خطيئتي؟
فالصفح عنوان الكرم
الأشاعر قد هزَّه
ألق الشباب فما التزم
أنا ظامئ والماء في
بئر بلا دلو يُزم
رفقاً بقلبي إنه
من لحمه مزجت بدم
كل هذا الاعتذار عن حب بريء لم يطله.. ولم يطفئ به أوار قلبه لأن بئره العميقة دون دلو.. لم يسلم من العتب واللوم:
صفعات لومِك زلزلت
أساس نفسي بالألم
حسناً لو أن شاعرنا أبدل مفردة أساس بأركان.. أحسبها أنسب.. ومع اللوم ما برحت قيثارة حبه تنطق:
اختاه ما جدوى الأسى
والجرح في الصدر انكتم؟!
ماذا عليك لو أنني
أشبعت زهر الروض شم؟!
لعل شم روضها لغيرك دون أن تدري..من حقها أن تختار نصيبها, وحبيبها حتى ولو كان غير شاعر.. الحب نصيب حتى ولو كان الحبيب مصيبة تنفجر في وجه الحب بعد شهر عسل لا يطول..
نتجاوز معاً ضياع شاعرنا فقد اهتدى من جديد من ضياع شكه ليحصد حصاد شوكه..
حطم العاصف نايي
وحثا في الحلق رمله
وسرى الموت بلحني
جافياً ينفث غله
كل ما سرت بدرب
عثرت رجلي بقبر
هازئ من خطواتي
فاغر فاه لضري
حقل أشواكه أغرق مسالك أشواقه بروق لا تبرق بعد أن اطفأتها الريح.. جامل حظه ورغم تودده إليه تجاهله حظه.. فرحته بالحلم تلاشت.. عاش دنيا غريبة.. وحياة قاسية كئيبة هكذا جاء نصيبه.. وقدره
أنا لم أذنب ولكن
قسمة الحظ العجيب
آه من ظلم الليالي
لم يطب منها نصيب
لا تنس أيضاً ظلم الوجه الآخر.. النهار إنه كثيراً ما ينهر.. وينخر العظام رغم وضوحه..
في ديوان شاعرنا (غناء الجرح) ألف شكوى وشكوى.. الجرح بترجيعه الحزين.. لا أقدر على استجماع أنغامه.. وإنما سأمر على بعضها مرور الكرام.. وكل خواطر شاعرنا الخطراوي كريمة.. (نشار النعش) و (أمسية في العيد)، و(إلى مسافرة) ومع (اليأس) إطلالة سريعة:
لا توقد الشمع ما نفسي براضية
ولا فؤادي يهوى النور والألقا
لقد أغضبت يا صديقي (كونفشيوس) فيلسوف الصين العظيم القائل: (لا تلعنوا الظلام ولكن أوقدوا الشموع)..
دعني لأحلامي السوداء عارية
كما السعالى إذا ما جابت الآفقا
مسعورة بمحيا الموت طاعمة
دم الضحايا ولم تترك بها رمقا
يأس ضارب في آفاقه.. وفي أعماقه إلى درجة القنوط القاتل: أليس هو القائل؟!
فظلمة الليل ما عادت تؤرقني
بما لها من قتام راح منطبقا
بصيص من أمل باهت بات يلوح في أفق شاعرنا على خجل ووجل:
ما أبشع العجز في عيني فمنظره
يثير في نفسي الأدواء والحرقا
كم قدرة انطقت بالبطل صاحبها
وأغرس العجز ذا حق فما نطقا
الاعتراف بالعجز بداية البداية لصحوة قد تأتي..
بين (رحلة الضباب) و(عيون الفجر) جاء الاختيار للفجر وعيونه:
في ربا يافا وفي سفح الجليل
أشرق الفجر على دق الطبول
يزرع النور بأحشاء الدجى
ويرد العزم في نفس العليل
صوت المقاومة وهي تزرع الذعر.. وتنشر الخوف لدى الدخلاء الذين استعمروا.. واستبطئوا الشر والمكيدة لأصحاب الأرض:
من أزيز المدفع الرشاش من
لغم ينسف مسعور الصليل
من صواريخ ارتمت شاهقة
فوق أرض اللد في ساح الخليل..
الصورة يا شاعرنا باهتة.. ما تبقى من الأرض السليبة في قبضة الجلاَّدين.. هم الذين يزرعون ألغامهم, ويدكون بصواريخهم وقنابلهم بيوت الآمنين ويهدمونها على رؤوس سكانها.. هم الذين يجرفون حقول الزيتون, ويحرقون الأرض واليابس.. ما كنا بالأمس نبكي منه لسوئه.. أصبحنا اليوم نبكي عليه.. ومع هذا لا يأس.. الحرية أقوى مضاء من الحربة مهما استشرى جنونها.
(نداء المجد) صوت صدق للقضية قتله الشعراء والكتّاب بكاء وعويلا دون أن يحرِّك للنيام جفونا.. نتركه (للأنشودة المبحوحة)..
كليلة كابية النجوم
وزهرة في مفرق الهشيم
أو بسمة مخنوقة الأصداء
بدمعة محمومة خرساء
مقدمة شعرية لا تحمل على الفأل..
يا لعنة من غابر الزمان
حلت بنا مجنونة العنان
أية لعنة يعني شاعرنا؟!
أغنية في البداية أيقظت الربيع في الجفون، وزرعت الصباح في بيادر الشجون، فاختصرت الأرض بمخزونها الأخضر.. وطابت بها الأنفاس.. ومن ربيع الأرض إلى مربع الأرض، حيث الدم يسيل على مفرق الأقصى وخاصرة (المسيح) في بيت لحم.. مشهد حفظناه عن ظهر غيب..
المشهد الآخر في رحم الغيب.. الأغنيات في ديوان شاعرنا المجيد متلاحقة يصعب اللحاق بها، واحدة تلو الأخرى.. منها أغنيات تائهة يصعب الوصول إليها نتركها للزمن.. وأخرى متواجدة يسهل الحصول عليها مثل (أحزانه)
أيها العيد ما لفجرك يبدد
قاتم الوجه باخل الأنداء
وعيون الورود في كل روض
تتحاشى بشاعة الأضواء
سؤال لا يحتاج إلى سؤال.. إجابته فيه! الفجر يكره القتامة.. والورد يأبى البشاعة.. الضدان لا يلتقيان حتى ولو اجتمعا في نقطة درب.. أو لقطة شعر..
يفرح الشامتون والحر يبكي
موئل الرسل مهبط الأنبياء
نحن نحيا على فتات قديم
حافل بالفخار والعلياء
غير إنا نعيش شر حياة
دنستها ضراوة الأرزاء
إشكالية حلها ميسور.. أن نصنع.. أن نضيف إلى تاريخنا الموروث تاريخاً مكتسباً جديداً نصنعه بأيدينا.. لعلنا نعمل، الأمل قائم متى خلصت النوايا ومن عيون الأحزان.. إلى ألحان الخريف.. الأول حكاية يتم لا إرادي القهر عنوانها.. والثانية ألحان خريف عارية من أوراق نغمها الربيعي..
ها نحن نعقد للخريف مواسما
محروقة الألحان والأصداء
ومراجل البغي الأثيم تؤزنا
أزا كحلم فراشة رعناء
تمضي مواكب حشودنا في سخفها
مخدوعة بصفاقة الخطباء
والقدس في كف العدو سبية
مهتوكة الحرمات والأفناء
يا قدس هبت للكفاح جموعنا
ما فتح إلا رائد الأبناء
كان هذا يوم العاشر من رمضان يوم أن كان لفتح فتح.. ويوم أن كان للعروبة نخوة.. وقوة.. لم يبق من ذكريات رمضان إلا مرضان كامب ديفيد. وأوسلو.. ومدريد ووادي عربة.. والقناعة بالفتات والشتات..
ومن البلوي القائمة إلى النجوى الحالمة. نقلة لذيذة الطعم علها تسلينا ولو باب العزاء
أي نجوى ترددت في كياني
كرفيف الندى على الأقحوان؟
كالضياء الطروب في ليل عرس
عبقري الأنغام والألحان
راحت الغانيات في جانبيه
تنشر الحب للربيع الحاني
يا لها جنة تدخلت إليها
تهت في سحرها، وذاب كياني
بعد حنين الحب يتأتى حنين مجدافه الأشبه بسراب يوم قائظ بعيد الخيال.. نتجاوزه، فمساحة الرحلة تأخذنا خلسة.. النزيف إحدى محطاتها التي تجاوزناها نحو تل ينبت الزعتر:
القلب يصفق منبهرا
بصمودك يا تل الزعتر
بشموخك يسخر في ثقة
بسعار البغي وما سخر
بعد تل الزعتر الذي بهرنا شموخه جاءت كارثة (صبر وشاتيلا).. على يد السفاح شارون وعملائه.. ومجزرة قانا بصواريخ بيريز.. حجبت عن أنوفنا شم (تل الزعتر) الذي هو بدوره تحول إلى مقبرة موتى لا زعتر فيها ولا رائحة إلا رائحة الأجساد الممدة.. والأحلام المبددة.. (س)، و(جيم) خطاب محاكمة حب.. أو عتب.. لا أدري:
وتسألين عن كآبتي
وسرها الدفين
عن مهجتي التي تلفها
الغيوم بجوها المحموم
ليس هذا فحسب هو ما سألت عنه..عن نظرته الشاردة.. عن قلبه الملتهب الأوار، وسحنته المصفرة المضطربة مثل غابة محترقة.
وتسألينني ما الذي يجعلني أثور من غير ما سبب!
إذا التقى الرفاق، واعشوشبت بهم خرائب النفاق!
وتسأل.. وتسأل.. وتسأل.. وفي نهاية المطاف
أواه يا حبيبتي لو نكتفي بالحب والهيام
والعيش في الأوهام وعالم الأحلام!
شاعرنا العاشق لأمته طوَّف بحبيبته يطالبها أن تسأل فينيقيا في صور والجولان وحنبعل. وقرطاجنة. والشهباء, وحطين. وقطز، وبيبرس وجالوت.
هل تركا تاريخنا يموت؟
فهل يفيد يا حبيبتي معرفة الجواب.. ونحن في اللحود؟!
وكأني بها ترد على تساؤلاته الكثيرة.. والمثيرة قائلة:
لقد اسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
أخيراً مع (الوداع الدامي) في خطاب حواري بين أم وابنها: الأم تناشد وحيدها:
ابني الوحيد، ويا منار حياتي
لا تتركني قد يحين حماتي
أقضي بلا ولد يؤنس وحشتي
وبدون من يبكي ليوم وفاتي
وحيدها يرد. وقد طفرت الدموع الساخنة من عينيه:
كفى النواح فقد دعاني الداعي
وتجلدي أماه يوم وداعي
وطني دعاني للجهاد وإنني
نحو المكارم والجهاد لساع
المقدس يا أماه في أيدي العدا
كالشاة غابت عن عيون الراعي
أنا إن أمت أماه أفدي موطني
وأعيد دين الله للأصقاع
آثر الشباب أمه الحرية، أمه الوطن، أمه التاريخ على أمه التي أنجبته.. واحتضنته لأن الذود عن وطنه وأهله ذود عنها:
إني أحبك والبلاد أحبها
ومحبة الإسلام في أضلاعي
من أجلكم أماه أبذل مهجتي
كونوا معي بالقلب والأسماع
ولأنها كما هو أيضاً تحب الوطن، والعقيدة قبَّلته.. وودّعته وهو يحمل رشاشه إلى ساحة الكرامة والفداء.. كلاهما فدائي.
وبعد أقول لشاعرنا محمد العيد الخطراوي كانت رحلتنا معك متوهجة ومبهجة رغم جراحها.. وأتراحها.. إنها صوت يقظة ضمير نحن في أمس الحاجة إلى ترجيعه كي لا ننسى.. ويجرفنا الطوفان على حين غفلة..
الرياض - ص. ب 231185
الرمز: 11321 - فاكس: 2053338
| | |
|