هل يموت البروفسور جوعاً..؟!
|
*قاسم حول
كنت لا أعتقد حتى وقت قريب أن الإنسان يمكن أن يموت بسبب الجوع، لكنه قد يموت بسبب الشبع أو بسبب التخمة، لكن هذا المعتقد لم يعد قائما عندما زرت شخصية مرموقة في تاريخ العراق الثقافي في مدينة الرباط بالمغرب. هذا الرجل هو فنان عراقي مرموق يحمل لقب درجة علمية.. بروفسور.. وقد كتب على بابه قطعة صغيرة على كرتون أبيض بالحبر الأسود (البروفيسور..) ضغطت على جرس الباب فخرج البروفسور.. سلمت عليه اشتياقا بعد أن مرت عشرات السنين على افتراقنا.
كان البيت الذي يسكنه عبارة عن غرفة بثلاثة أمتار مربعة داخلها سرير قديم وفراش بسيط، وإلى جانب السرير طاولة صغيرة ويقابل سريره الحمام وهو حمام ومرفق في الوقت نفسه وبدون باب! وإلى جانبه في زاوية بوتوغاز صغير.
البروفسور الفنان غادر بلاده العراق في منتصف التسعينات أي قبل ثماني سنوات من سقوط الدكتاتور العراقي خشية أن يسقط هو فيما لا يريده لذاته من المساومة والذل. وصار يلقي المحاضرات في معهد مسرحي في المغرب ويمثل في بعض الأعمال التلفزيونية مقابل مبلغ بسيط لا يعادل مائتي دولار، يدفع منه إيجار غرفته التي تسمى مجازا منزلا بمبلغ مائة دولار ويسد رمقه بالمتبقي ولأن ميزانيته لا تسمح بالذهاب لمعهد التمثيل بالباص فهو يذهب مشيا ويعتبر ذلك تمرينا رياضيا يساعد على حركة الدم ويطيل في عمره وقد تجاوز السبعين عاما.
سجلت معه حديثا صوتيا مؤثرا.. خرجنا نتجول في (زنقات) الرباط وأصوره قرب أبواب البيوت التراثية وكان دائم الابتسامة ساخرا.. وحكى لي حديثا مطولا عن علاقته بكبار مخرجي المسرح في أمريكا الذين يتلقى الدروس على يدهم يوم كان شابا. وحكى لي عن معاناته بعد أن عاد إلى بغداد وعن طبيعة العمل المسرحي والتلفزيوني الذي كان محكوما بإيديولوجية حزبية تقيد الفنان وتؤطر دماغه وفق مفاهيمها للقيم الاجتماعية والثقافية في الحياة وحتى القيم الجمالية فيها، الحياة التي لا تحدها إيديولوجيا ولا تؤطرها فكرة واحدة.. تحدث البروفسور معي بمرارة مؤلمة حقا. تطلعت إليه وتذكرته يوم كنت في معهد الفنون الجميلة، تذكرته ذلك الشاب الوسيم الذي عرفته نجما سينمائيا وتلفزيونيا ومسرحيا في العراق وقد صار اليوم كهلا متعبا وكأنه كبر قرونا من الزمان، وتذكرت الأفلام والمسرحيات التي أخرجها ومثلها التي من الصعب أن نحصي عددها. فمن هو هذا الرجل البروفسور؟
دون أن نذكر اسمه ونجرح مشاعره، كان من رواد الحركة المسرحية والسينمائية في العراق. بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة في بغداد أكمل تحصيله الدراسي في الولايات المتحدة الأمريكية وأخرج مسرحية في ستوديو الممثل الذي كان يشتغل فيه إيليا كازان وتنسي وليامز وتخرج منه مارلون براندو واليزابيث تايلور وكل نجوم السينما الأمريكية. درس هذا الفنان المسرح وتخرج بتفوق وحاز على درجة بروفسور، وعاد إلى وطنه ليحاضر في جامعة بغداد وأكاديمية الفنون ويمثل أدوارا مهمة في مسلسلات تلفزيونية، لكن قسوة الدكتاتورية وابتزازها للطاقات وخوفه من السقوط في مأساة التاريخ جعلته يهاجر إلى المغرب حفاظا على ذاته من المهانة. تردني رسالة إلى هولندا من أصدقائه في المغرب تقول ان صديقنا البروفسور.. لم يعد لديه ما يسد به رمقه ولا يملك قيمة إيجار الدار ولم يعد قادرا على الذهاب إلى معهد التمثيل مشيا ولم يعد المعهد قادرا على دفع مخصصاته الشهرية البالغة مائتي دولار.. وهو يرفض المعونة.. يرفض أن يأخذ لكثرة ما أعطى! وليس قادرا على العودة إلى بلده فليس ثمة من ينتظره هناك وأيادي الإرهاب تلاحق المبدعين والأكاديميين. ويسألونني أن أسهم في الحل! امسكت سماعة الهاتف وتحدثت مع وكيل وزير الثقافة العراقية وأرسلت إليه رسالة أشرح فيها حال شخصية مرموقة في تاريخ العراق الثقافي المسرحي والسينمائي والتلفزيوني، فجاءني الجواب نحن وزارة ثقافة بدون ميزانية وقد مر شهران لم نتمكن فيهما من دفع رواتب الموظفين. هذا كلام لوكيل وزير الثقافة وأنا مسؤول عن نشره.
يحصل هذا في بلد يمتلك أكبر احتياطي نفط في العالم ويقال ان آخر برميل نفط سوف يستخرج من العراق. وسألني وكيل الوزير عن المقترح فخبرته لأن الرجل يرفض أن يأخذ مالا دونما مقابل لكثر ما أعطى في حياته من ثقافة وخبرة وجهد، فإني أقترح أن يطلب من الفضائية العراقية إجراء مقابلة تلفزيونية مع الرجل مدعمة بمشاهد من أفلامه ومسرحياته ومسلسلاته فنؤرخه ونوثقه أولا ونمنحه مقابل حديثه هدية متواضعة قد تساعده في البقاء حتى تستتب الأمور في العراق فيعود إلى أحضان الوطن. وهو ليس فقط فنانا عراقيا بل رمز من رموز الثقافة العربية أمضى حياته كلها على المسرح وارتبط به تاريخ العراق المسرحي والسينمائي وعطاؤه تجاوز حدود الوطن وله تأريخ من السنوات الحافلة بالعمل مع كبار مسرحيي العالم في أرقى مدرسة للمسرح.. ستوديو الممثل.
ولم يأتني الجواب.. فقررت أن أنشر صورة الحال هذه أمام أصحاب الفضائيات العربية أن نعمل برنامجا وثائقيا عن هذا الفنان الكبير، مع أن حجم الغرفة لا يتسع للكاميرا التلفزيونية ولا للإضاءة بل سنصور غرفته ونجري معه حديثا في الهواء الطلق ونحفز ذاكرته على الحديث ونحاوره عن الثقافة المسرحية والتلفزيونية المعاصرة، أن نصوره قبل أن يترك في وجداننا الندم!
كنت حتى وقت قريب أعتقد أن الإنسان لا يمكن أن يموت من الجوع إنما قد يموت من الشبع أومن التخمة.. وأعتقد أني كنت على خطأ وعلى الآخرين أن يعيدوا لي ذلك الاعتقاد!
سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo. nl
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|