مطالعات محمد فرج العطوي يغني رغم الشعر: «أغني رغم أني» ديوان خطابي يحصي أمواج السراب أغاني الطفولة.. مرافئ يركن الشاعر إليها
|
عبدالحفيظ الشمري
الديوان الثاني للشاعر محمد فرج العطوي جاء موسوماً بعنوان جدلي «أغني.. رغم أني» ففي هذا الديوان دلالات وإيحاءات متعددة تشيع عالماً من المكايدة
الإنسانية الواضحة.. تلك التي لا تظهر إلا على هيئة بيان معاند يأتي في ظل نبرة التحدي: سأغني رغم كل المشاق.. فالغناء الذي يطالعه القارئ أو يسمعه
في هذا الديوان يأتي متهادياً في سياق قراءات أليمة للواقع؛ تنطلق من هذه المرارة التي تسكن أدنى ذاكرة الشاعر العطوي:
«ولما وقفت أغني هناك
على شرفة حالمة..
رأيت بقاياي ثكلى
تقول: تعال.. تعال
فليس لنا يا...
سواك».
إذن القصيدة لدى الشاعر العطوي خطاب يحاور فيه الذات ليصنع منها بعداً تأثيرياً يسهم في حياكة هذه الألوان الزاهية من اللغة الشعرية المباشرة.
أغاني الطفولة.. مرافئ الشاعر..
يستبطن الشاعر العطوي في ديوانه قضية الإنسان العربي.. هذا المخلوق الذي يتشكل وفق معطيات ثقافية وفكرية غرائبية متباينة.. فأغاني «الطفولة» في
الديوان شهادة قوية وواضحة تحدد معالم الطفولة العربية:
قصيدة «قد تراني» جاءت شهادة تغني للطفولة المنكوبة في عالمنا العربي.. حتى وإن حاول الشاعر العطوي أن يجعل منها مرفأ يركن إليه حتى يحين وقت
الإبحار:
يتبادلون على الفرات عتابهم
ويطير بي خلف السراب جناح
بيني وبين مرافئي جنح الدجى
والموج والبحار والألواح
الديوان ص23
الشاعر يغني للهزيمة على الأرض.. وللغيب والمجهول في تلك النوايا المبحرة في متاهات السراب المعاندة.. ليل الشاعر في هذا الديوان شجن مفرط لا يمنح إلا
مزيداً من الوجد اللاعج في وقت لا يأبه فيه «العطوي» بخطاب العقل الذي يسجل مواقف تناهض العاطفة؛ إذ ليس من الضرورة أن تكون المعجزة الشعرية
هي رهن هذا الهلع الأليم للشاعر.
حتى الطفولة مشهد الشاعر الوفي أضحت في عداد الشائخ والمنهك لفرط لواعجه حينما يرى هذا الهم المتسامق في أفق تجربة الشاعر الإنسان:
أيها الطفل الذي يجري ورائي
عد؛ فقد ضيعت في الصحراء
دربك.
منذ خمسين سراباً عربياً
والمنى تخدع صحبك..
أنت ماضٍ في سبيل
ستلاقي فيه حتفك..»
تقطيع شعري مكثف الدلالات..
في منتصف الديوان يقيم الشاعر العطوي منبراً للخطاب الإفصاحي المباشر؛ إذ نراه يشرع في بناء مفردات شعرية قصيدة تنفذ إلى المعنى بأقصر السبل.. فلا
تتعدى هذه المقطوعات خمس عشرة كلمة يصوغ فيها الشاعر مقولاته التي لا تخرج عن هموم الإنسان العادي ذلك الذي يتلمس طريقه نحو السعادة.. ليتوق
تارة إلى الهروب من منغصاته.. وتارة أخرى نراه وقد وظفها كجزء من رسالته في هذه الحياة التي تقبل دائماً هذا الغناء الفطري بالمعاناة حتى يصبح الخطاب
الإنساني مفهوماً شاملاً يقبل التأويل والحدس والمقاربة مع هموم العالم بشكل عام.
هاكم قصيدة «سفر»:
لأني حزيناً هجرت الدُّنا
وسافرت عبر اندياح المدى
إليك فلا زلت أحبو
هنا..
نعم نحن أمام مقطوعة شعرية غاية في الاقتضاب، فعنوان القصيدة إيحائياً يعكس دلالة القلق الإنساني ورغبة معلنة للهرب من منغصات كثيرة.. فهو إفصاح
واضح يسيل هلعاً من حالة الحزن العصية.. لكن هذا الرجل أو السفر غير محدد المعالم طالما أنه ارتبط بحالة إنسانية أخلص لها الشاعر بحق هي حالة الحزن..
فالهنائية التي ختم فيها الشاعر مقطوعته هذه جاءت إثباتاً لفشل المحاولة الدائبة للهروب من هذا الواقع الإنساني المر.. هذا الذي يجعل الحديث فيه قابلاً
للاختصار والتكثيف.. حتى تأتي هذه المقاطع على نحو يبعث على حاجة الإنسان في الإيجاز حينما يصف معاناته وأحزانه.. تلك التي لا يمكن أن يبرحها أو
يسجل موقفه منها لتأخذ قصائد الديوان هذا الطابع الرامز لبعض القضايا بما لدى الشاعر من كلمات محددة.
وجدانيات الشاعر.. قضاياه الدائمة..
ينتهج الشاعر محمد العطوي لغة شعرية وجدانية تفتش في ذاكرة الكلمات عن موقف معبر لحالة الإنسان لنرى الشاعر وقد أسبغ على نصوصه العديد من
الرؤى الوجدانية الحالمة.. تلك التي لا تقف في مكان الضد دائماً؛ لنراه وقد إنحاز تماماً إلى رؤية العاطفة التي تنهل من معين شعرية مفرطة في عاطفيتها،
ودهشتها من الأشياء.
تراوح وجدانيات الشاعر العطوي بين القصائد ليمنح الفكرة العامة في كل قصيدة حالة من الوجد الإنساني فلا تخلو أي قصيدة من وصفيات عناء الإنسان
ومكابدته البائنة، لنراه وقد وظف قضية الإنسان البسيط وجعلها منطلقاً يسترشد منه الشاعر المعنى العام لطروحاته حيث اشتملت قصيدة «تجارة» مثلاً على
بعد تفسيري لحالة الشاعر وفنه تحديداً؛ فلم يجد غضاضة أن يقول معاناته التي تنبعث دائماً من روح مهزومة لا تجد فيها أي ملمح للإبداع والتطور؛
فالقصيدة دخلت عالم «التجارة» أو ما كان يسميه الشاعر سميح القاسم «قصائد البزنس».. تلك التي لا يعنيك أن تكون شعراً حراً أو منثوراً طالما أنها
مطلية ببهرجة القول الزائف.
تتقاطع تجربة الشاعر محمد العطوي في هذا النظم الشعري مع تجربة للشاعر الفلسطيني «أحمد مطر»؛ فحينما يكتب هذا الشاعر في ديوانه مفردة الهم اليومي
يجعل منها صورة شعرية معبرة تتسم بالقصر والتكثيف.. لتجد أن النص يأتي على هيئة سؤال تتبعه إجابة قصيرة قد لا تتجاوز كلمتين لتترك المقطوعة في
ذات القارئ فرصة التأمل فيها وتسجيلها.
«الديوان» كتب بلغة جمالية مناسبة.. بل إنه تمتع بإيجاز أكثر مناسبة للأفكار التي طرحها الشاعر.. فالفكرة في كل قصيدة يقدمها الشاعر تكون مدروسة
بعناية، وفيها من الدلالات ما يكفي لأن تكون شهادة إنسانية خالصة على مأساته وعنائه.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|