قصة قصيرة الحفلة فاطمة الرومي
|
كان حضوري هذه الليلة لحفلة زفاف ابنتي الكبرى مختلفاً عن حضور أي أم لليلة كهذه.. اذ جاء تواجدي كأي مدعوة أخرى، خالجني شعور بأنني لم أكن
سوى ضيفة شرف تحمل لقب أم العروس.
أصطحب معي إلى هذه المناسبة ابنتي الصغرى سارة، فهي التي لا تفارقني، بل إنها تمنحني في هذا المساء شعوراً لا بأس به من السعادة.. هذا الإحساس الذي
سلبت إياه لا لذنب اقترفته سوى أنني أصبحت مطلقة.
وسط هذا المكان العابق بالفرح والزغاريد داهمتني هواجس الماضي: لم أكن وحدي المسؤولة عما حدث لكنني أنا من حملت هذه الوصمة التي تتيح لمن
حولنا أن يمارس على سلطته الجائرة إذ لا يتوانى عن نعتي بكل لقب يحملني مسؤولية انهيار صرح أسرة كانت في طور التكوين.. حتى اتخذ زوجي وأسرته
من ذلك سبيلا إلى حرماني من أبسط حقوقي دون شفقة أو رأفة بحال ابنتي الصغيرتين.
كان عتب من حولي ماردا، وصوتهم واحدا: كان عليك أن تصبري..
هذه الليلة فقط تمنيت لو أنني صبرت واحتملت كل ما أصابني في سبيل بقائي إلى جوار ابنتي.. ففرحة سارة بوجودي معها في حفل زواج أختها هذه الليلة
تعادل سعادة الدنيا وتضمد بعض جراحات السنين.
فيما الحاضرات يرتشفن كؤوس الفرح والعروس ترفل بالبياض والعذوبة، لتستدير نحو باب الجناح الخاص بها، اقتربت منها، ضممتها إلى صدري بشيء من
الحرص حتى لا أفسد شيئا من زينتها، متأملة جسدها الغض الذي نما بعيداً عني حتى أصبحت عروسا رائعة. دقات قلبها، وبريق عينيها يشيان بسعادة غامرة
أن تدوم، لكنها لم تظل سوى للحظات لتغادر نحو عوالم جديدة.
بينما كانت سارة تلتصق بي من الخلف التفت إليها باسمة وهي تنظر إلى صويحباتها وتمسك يدي بزهو وتتراقص مشاعر الفرح في عينيها.
خلت أنه لم يكن هنا أحد أكثر سعادة منها، تماديت في تخيلاتي ولم أنتبه الا وهي تهز يدي:
ماما.. ماما.. الجوال.
رددت فورا: نعم.. ليأتيني الصوت من الطرف الآخر:
هيا.. ألم تنته بعد؟.. لقد تأخرنا يا امرأة.
أجبته وأنا أتأمل وجه سارة: بلى.. بلى سأخرج حالا.
ما إن نطقت بهذه العبارة حتى شعرت بكفها الصغيرة تقبض على كفي بقوة، غاضت أنهار الفرح في عينيها، لتنهمر شلالات حزن مالحة شعرت بملوحتها
تنسكب على جراحات قلبي فتدميها.
جثوت على ركبتي لأصبح على مستوى وقفتها، احتضنتها بحنان، خيل لي في أثناء عناقنا أن دقات قلبينا طغت على صوت طبول الفرح. خلت أن النسوة
يرقصن على أوجاعنا.
بدا لي أن هذا الأمر ضرب من السخف.. كيف لهن أن يرقصن بهذا الانتشاء؟!. ترى.. هل رمت كل واحدة منهن بحزنها بعيداً هناك قبل أن تدخل هذه
القاعة؟!.
رفعت رأسي إلى وجه سارة وغمرته بالقبلات المخضبة بالدموع ثم همست لها: حبيبتي سأغادر الآن.. خالك في الخارج ينتظرني، ودون أن تقول أي شيء
ضمتني وهي تنشج حتى هممت بالوقوف وهي ممسكة بكفي تسير بجواري.. قبلتها ومسحت دموعي.
عندما وافيت بوابة الخروج قبلتها وضممتها ثانية بينما اكتفت هي بطبع قبلة على كفي وهي تضغط عليها بدفء تود لو يدوم.. سحبت كفي ببطء من بين
كفيها وعيون من حولنا ترقب المشهد، ارتديت عباءتي، وناولتني ابنتي حقيبتي وهي تودعني: مع السلامة يا ماما، ثم استدارت إلى الداخل.
فيما تلفعت بالسواد عابرة صوب بوابة الخروج حانت مني التفاتة خاطفة نحو القاعة السابحة في أضواء الفرح ونثار الورود، وصوت المغنية السمراء وهي
تردد: الليلة ليلة فرح.. كانت سارة في هذه الأثناء تمسح دموعها وتغيب وسط الزحام، ربما تغرق في بكاء صامت.
أحسست بها طائراً كسيراً، وهي ترقب الصغيرات يركضن في أذيال أمهاتهن، لينغرز السؤال في قلبي كنصل حاد: ترى من أشعل حرائق الحزن في قلب ابنتي
سارة؟!.
أشحت بوجهي خارجة والمغنية السمراء ما تزال تردد: الليلة ليلة فرح.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|