سوق الديرة قصة قصيرة بقلم: علوي طه الصافي
|
الشمس اليوم في حالة استنفار.. هي اليوم في حالة غضب.. تلهب أشعتها الحارة ظَهْر الرياض..وهامات سكان الرياض.. الغُتر البيضاء على الرؤوس لم
تخفف من لهيبها.. كأن صحراء الربع الخالي قد انتقلت إلى داخل المدينة!!
أوف.. أوف!!
قالها، وهو يقف في الطابور أمام مكتب أمين الصندوق لتسلم راتبه.. موظفون من كل الفئات والدرجات في السلم الوظيفي يقفون في انتظار صرف
رواتبهم الشهرية.. لكن مدير عام المديرية التي يعمل بها يحمل أمين الصندوق راتبه ليسلمه له في غرفته المكيَّفة!!
جاء دوره وهو يفِّكر.. لم ينتبه إلى صوت أمين الصندوق، وهو يناديه باسمه إلا في المرة الثانية:
مالك.. فيم تفكر؟
سأله
* أنا لا أفكر.. أنا سرحان!!
وفيما أنت سرحان.. الدنيا لا تساوي جناحي بعوضة؟!
* كلامك صحيح.. لكن عمر الشقي بقي!!
شقا إيه يا راجل.. أنت لا تزال في عز الشباب.. والدنيا لا تدوم لأحد.
* الحمد لله على كل حال.. لكن العمر قصير!!
زملاؤه الذين ينتظرون خلفه ضاقوا بإطالة حديثه مع صديقه أمين الصندوق.. سارع في خجل إلى إفساح الطريق أمامهم بعد أن تسلم راتبه في إضمامة..
انتحى جانباً ليعد الراتب فوجده ناقصاً نصفه.. أعاد العد مرة أخرى فوجد أنه لم يخطئ في المرة الأولى.. قرر أن يعود إلى أمين الصندوق لمعرفة أسباب هذا
النقص.. لم يستطع لحظتها لأن الطابور المنتظر من زملائه الموظفين لا يزال ممتداً كأفعى مقصوصة الذنب.. والشمس حرارتها لا تطاق!!
عاد إلى مكتبه.. في صباح اليوم التالي مرَّ على مكتب صديقه أمين الصندوق فلم يجده، لكنه وجد حرارة الشمس تمنعه من الانتظار.. سارع في الذهاب
للتوقيع على دفتر دوام الحضور والانصراف.
آه.. من هذا الدفتر.. إنه المقياس الرئيس والأساس لتقييم الموظف النشيط المنتج.. والموظف غير النشيط والكسول الذي لا يهمه إلا شرب الشاي، ومطالعة
الصحف.. أما الإنتاجية ونوعيتها، فهي مسألة آخر ما يفكر فيها المسؤولون.. والنظام هو النظام.. ألم يقل يوماً أحد المظلومين عن النظام إنه حمار أحياناً!!
لماذا لا يفكرون في وسيلة أخرى، أو مقياس عادل منصف غير هذا الدفتر السقيم؟ بودي لو أعرف أول من اخترع فكرة الدفتر.. لو قابلته لذبحته!!
ذبحته؟.. إنها جناية عقابها الموت.. ما أسخف تفكيري!!
قالها هامساً لنفسه بصوت شبه مرتفع.
انهمك في عمله ناسياً من حوله، على الرغم من أنه كان مشغولاً بمشاكله العائلية، وهمومه.
حين اتصل بصديقه أمين الصندوق هاتفياً بعد مرور ثلاث ساعات على بداية العمل لمعرفة أسباب نقص نصف الراتب.. حين عرف السبب فضرب يداً
على يد.. واتكأ بجبهته عليهما كمن أصابته كارثة!!
سأله أحد زملائه عن سبب تصرفه، ولماذا يبدو مهموماً؟
أجابه: لا شيء.. لا شيء.. يبدو أنني لم أنم جيداً البارحة!!
ألح زميله في إصرار لمعرفة ما يشغله، ويجله مهموماً؟
أمام إلحاح هذا الزميل الذي يثق به، وأمام إصراره اضطر أن يكشف عما في نفسه، على الرغم من أنه أمر خاص.
قال له: إنني أحتاج لمائتي ريال لأن راتبي لهذا الشهر لا يكفي متطلبات وحاجات أسرته، بعد أن حسم أمين الصندوق مبلغاً سبق أن اقترضته منذ شهرين.
هون زميله عليه الأمر.. اتفق معه على اللقاء بعد صلاة العصر في ميدان «الصفاة» حيث سوق «الديرة»، وبجوار برج الساعة الذي ينتصف ميدان الصفاة.
التقيا في الموعد والمكان المحددين.. سار خلف زميله دون أن يعلم شيئاً مما يفكر فيه.. توقف أمام أحد حوانيت سوق الديرة الذي كان يقف داخله رجل
ملتح طاعن السن مرتدياً ثوباً مرت عليه أيام غير قصيرة دون أن يغسل.. يضع على رأسه شماغاً ليس أحسن حالاً من الثوب.. كانت تجاعيد وجه صاحب
الحانوت ترسم ما حفرته السنون.. والحانوت كان ضيقاً بكثرة ما يوجد به من سلع متنوعة تحيط بالرجل المسن.. هذه حياة حوانيت أسواق الديرة بصعوبة
وجد زميله طريقه إلى حيث يجلس صاحب الحانوت.
تهامسا بكلام لم يفهمه.. كل الذي فهمه أن صاحب الحانوت بد أنه يعرف زميله معرفة جيدة.. وكان الاثنان في أخذ ورد في الكلام كأنهما يتساومان على
شيء لا يعرف كنهه وماهيته!!
بعد فترة نهض صاحب الحانوت بصعوبة، وهو يدس إحدى يديه في جيب ثوبه ليخرج مجموعة من المفاتيح قربها إلى عينيه بحثاً عن مفتاح محدد.. وحين
وجده مد يده المرتجفة إلى صندوق حديدي عتيق حين فتحه أخرج منه «رزمة» من الريالات.
في الوقت الذي كان صاحب الحانوت يعد أوراق الريالات ويداه ترتعشان كان زميله مشغولاً بالكتابة في ورقة بيضاء.. بعد أن انتهى صاحب الحانوت من
العد أعاد بقية «الرزمة» من الريالات إلى الصندوق، وأغلقه في حرص كأنه لا يود أن يراه أحد!!
بعد أن انتهى زميله من الكتابة ناول الورقة إلى صاحب الحانوت الذي قرأها بعينين كليلتين، ويداه ترتجفان.. بعد قراءتها فتح الصندوق مرة ثانية، ووضعها
داخله بعد أن طواها بكل عناية، وأعاد إغلاق الصندوق، ثم جلس في مكانه، وناول زميله الفلوس التي أخرجها من الصندوق.. ثم ودَّعاً بعضهما.
جاءه صديقه إلى حيث كان يقف خارج الحانوت.. انتحى به جانباً ليشرح له الاتفاق الذي تم بينه، وبين صاحب الحانوت وهو يدس الفلوس في يده..
لكنه تراجع إلى الخلف قليلاً مبتعداً عن زميله كمن لدغته أفعى.. رافعاً صوته:
ولكن، هذا ظلم.. كيف يبيع السلعة، ثم يشتريها منه بمبلغ أقل أقل؟ إنهم يتلاعبون بالمحتاجين.. هذا ظلم مكشوف!!
حاول زميله أن يهدئ من روعه، ويقنعه بأن ما حدث هو بيع وشراء بالتراضي.. و هي طريقة يتبعها كل أصحاب حوانيت سوق الديرة.
لكن هذه الطريقة فيها تحايل.. ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب!!.. قال لزميله محتجاً.
لكنك لن تحصل على المبلغ بغير هذه الطريقة، فإذا رفضت فليس أمامنا طريقاً آخر.. وما زلت على البَر بإمكاننا إعادة الفلوس لصاحب الحانوت، واستعادة
ورقة الكفالة التي كتبتها له كما لاحظت ذلك بعينيك.. ويا دار ما دخلك شر!!
فكر ملياً في كلام زميله الذي أراد أن أن يحل أزمته المالية، ثم قال:
أمري لله.. وما حيلة المضطر إلا ركوبها.. وصاحب الحاجة دائماً أعمى!! يا حي يا قيوم أستغفرك وأتوب إليك.
لم ينس أن يشكر زميله على جميله.. ودعه ووضع الفلوس داخل جيب ثوبه العلوي، وتوارى بين زحام السيارات والناس!!
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|