وعشت في حياتهم محمد العجيان.. التوحد مع الذات عبد الله الماجد
|
تنطوي شخصية «محمد العجيان» على عدة نوازع متآلفة، ومتناسقة فيما بينها، وسوف لن تجد مشقة في التعامل معه، وبقدر ما يفتح أمامك من أبواب،
تلج منها إلى مستويات تكوينه الإنساني والعملي، فإن هناك أبواباً تستحكم أمامك، ويصعب عليك الدخول منها، ومن ثم معرفة دهاليزها وساحاتها.
وكل ذلك لا يشكل لك أي عائق في أن تعمل معه، أو تصطفيه صديقاً، لأن الوهج الإنساني وتلقائية التواصل مع غيره، وروح الدعاية المطبوعة في ذاته،
التي تصل في أحيان أن يصنع لك «مقلباً» ثقيلاً، ومع ذلك تشربه بسماحة نفس.
من خصوصيات «محمد العجيان» التي يعرفها معظم زملائه في الوسط الصحفي، أنه أحد القلائل، الذين لا يحبون السفر بالطائرة؛ وهذه الظاهرة بالنسبة،
لصحفي، ورئيس تحرير، كانت إحدى الظواهر المحيرة، ولكنه تعامل معها في مهماته الصحفية الداخلية، حيث كان يستقبل السيارة، وأما في رحلاته
الخارجية فقد كان يعتذر عنها.
وفي إحدى رحلاتنا الصحفية، وكانت إلى السودان، أثناء زيارة الملك خالد رحمه الله فوجئنا جميعاً أن «محمد العجيان» في السودان، وبالطائرة. ولم أعرف
تفاصيل هذا الحدث الصحفي، حيث كنت في القاهرة أثناء مؤتمر للقمة الإسلامي، ومن بعدها سافرت مباشرة إلى الخرطوم لأنضم إلى الوفد الصحفي هناك
وحينما وصلت إلى الخرطوم لم ألتق به ولم أشاهده، فأين كان، وهل كان ذلك مجرد «مقلب» من مقالب محمد العجيان. لقد غادر السودان على عجل،
وعن طريق البحر عبر ميناء «بورت سودان» على أول «باخرة» كانت محملة بالمواشي إلى جدة، حتى يضمن عدم العودة بالطائرة!
وفيما يبدو أنه وقع أسيراً، لإحبولة من المقالب التي كان يحكيها لزملائه، فقد أُخذ على غرة، وبضغط من «السيد أحمد عبدالوهاب» ر ئيس المراسم الملكية
آنذاك.
ولم تقف «ظاهرة العجيان» عند هذا الحد، بل لقد كان لها مفاجآتها الأخرى. فلقد ذكر لي بعض الزملاء وأكدها لي شخصياً فيما بعد وهو أنه حينما
استقل الطائرة من جدة، وبعد ربع ساعة من تحليقها في الجو، طلب من الركاب إعادة «ربط الأحزمة» وإعادة الكراسي إلى وضعها. وعادت الطائرة إلى
مطار جدة مرة أخرى، ويبدو أن خللاً ما أصابها، ويستدعي إصلاحه. ولا أعلم ما هي الطريقة التي تم بعد ذلك إقناع «العجيان» بها لمواصلة الرحلة، ولا
كيف تم إقناعه. ويبدو لي أنه كان يحاول التغلب على كسر الحاجز النفسي، ذلك القابع في أعماق ذاته، أو كما لو كان يريد أن يشهد الجميع على صدق
حدسه، ومبرر اقتناعه عن عدم السفر بالطائرة. وحينما سألته عن كل ما حدث، وهو يروي الحادثة، قال بتلقائية ماكرة «شفت إني على حق». وهذا هو
أحد الأبواب التي تستحكم أمامك، مفاتيحه في جيب صاحبه، بل في قلبه. كان الموسيقار «محمد عبدالوهاب» لا يسافر بالطائرة، ويعلن خوفه من ذلك،
وحينما تقدم العمر به، تنازل عن «عناده» وركب الطائرة. فهل ننتظر من «محمد العجيان» بعد طول عمر، أن يتغلب على عادة خوفه ويسافر
«بالكونكورد»؟!
على المستوى الصحفي والمهني، «محمد العجيان» أحد البارزين في جيله. كان حسه الصحفي حاضراً، غير أن الظروف المهنية المحيطة به، وظروفه الشخصية،
لم تتح لهذه المهنية المتميزة أن تستمر إلى أبعد مدى مما حققته في وقتها، وقد استمر هذا الحس الصحفي وهذه المهنية بارزة في عمله الخاص، ا بتداء من
إصداره لنشرة صحفية أسماها «نبراس» ومن ثم في مؤسسته الصحفية الإعلامية التي يديرها الآن. لكن هذا التوجه كان يحمل في طياته وهواجسه، نوازع
الاستقلال التي كانت تنطوي عليها شخصيته، وهو ما حرم تلاميذه وجيله من استمرار تأثيره المباشر فيهم. وأنا واحد من أولئك الذين تعلموا من العجيان
فنون العمل الصحفي. وبما أنه أحد المتميزين في كتابة العمود الصحفي «الزاوية» فما زلت أتذكر وهو يقول لي في يوم من الأيام: إن بداية الموضوع مهمة
في كتابة «الزاوية» الصحفية. وهي ما يعرف بالاستهلال في القصيدة مثلاً، وكان يقول ابحث عن كتب أهم الكتاب الصحفيين الذين أصدروا مقالاتهم في
كتب، أمثال «كمال الملاخ» و«جلال الحمامصي» و«أنيس منصور» و«التابعي» و«مصطفى أمين»، وتمعن في قراءتها. وفي مجالات العمل الصحفي
الأخرى، وبحسه الصحفي المتنامي، كان يخطط للتحقيقات الصحفية، ويستخلص من الأخبار الصحفية موضوعات لتحقيقات صحفية يطلب تغطيتها.
قد يستغرب «محمد العجيان» كيف استخلصت هذه الرؤى عنه، لانه ربما يتذكر أنه لم يكن يتعمد أن يكون ذلك المسؤول المباشر عن التحرير، الذي
يمارس سلطته الآمرة والناهية أو المتسلطة، كل من كان يعمل معه وهو مدير التحرير، كان يشعر أنه زميل كمثل باقي الزملاء.
حتى في توجيهاته لم يكن يشعرك بأي نوع من التعالي، كان يغلف كل ذلك بأساليب مختلفة من فنون الدعابة والمرح. ولم يمارس استاذية مباشرة متعالية.
وهكذا كنت أرصد أسلوبه في العمل بطريقة التلقي مع أي نص، واستشف ما يمكن أن أتعلمه منه، دون أن يتذكر أو يشعر أنه كان يمارس نوعاً من التعليم
والتدريب.
ولم يكن شخصاً تصادمياً، ولا ميالاً إلى صناعة «المحاور» وإقامتها من أجل أن يحقق منصباً، ولم يترصد. لذلك. ولذلك حينما شغر منصب رئيس التحرير
الذي كان يشغله «أحمد الهوشان» الذي كان منشغلاً بعمل إدارة المؤسسة، حتى مجيء «عبدالله القرعاوي» كمدير عام للمؤسسة. كانت المفاجأة لجميع
الزملاء، أن «محمد العجيان» آثر الانسحاب ولم يقفز إلى المنصب، وربما كانت له حساباته الخاصة، التي تتفق ونوازعه الشخصية متصالحا ومخلصاً لها. وما
لم أستطع تفسيره وربما غيري من زملائه، انه بعد سنوات أصبح رئيس تحرير جريدة «اليوم» وكانت له بصماته الملحوظة في تطويرها. ولم تكن سوى محطة
عابرة. آل بعدها إلى التوحد مع ذاته ونوازع شخصيته التي أخلص لها وأجاد فن التعامل من خلالها مع الحياة والناس.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|