حالات حصار الأدب والهوية والصراع العربي الإسرائيلي!«3 - 3» سعد البازعي
|
أوردت في الحلقة الماضية نصاً للشاعر الإسرائيلي يهودا أميخاي بعنوان «ينسون من أين جاؤوا» يتحدث فيه عن جانب من المأزق الذي يواجهه اليهود
العائدون من أوروبا إلى ما يعدونه إسرائيل وفي النص يريد أميخاي، كما يبدو، أن يبرز المأزق المشار إليه بتجريد المهاجرين من كل شيء ما عدا ذكريات
باهتة لأسماء وخلفية أوروبية، كما في إشارته إلى الأسماء اليهودية التي تدل على أصحابها وذكريات المدن الأوروبية التي استوطنها اليهود منذ العصور
الوسطى مما يجعل سؤال العودة أكثر حدة ومع ان الصحراء تبدو حلوة بأزهارها فإن أرواح القادمين يغلفها الضباب الأوروبي وسمات البيئة المغايرة. ومن هنا
تأتي الإشارة الختامية إلى الدم السريع، الدم القابل للإراقة بسرعة، لشاعر خاض حربين، الحرب العالمية الثانية وحرب 48 ضد العرب، فالدم يبدو الطريق
الوحيد، الملجأ الأخير، لغرس الهوية في فلسطين: «الدم المسفوك ليس جذوراً للأشجار لكنه الأقرب إليها بين مايملكه الإنسان».
إن موقف أميخاي الذي تختلط فيه الحماسة لتأسيس وطن لليهود والحفاظ عليه بشكوك واسعة من جدوى ذلك وإمكانية التأقلم معه على المدى الطويل
ذلك الموقف يعبر عن حساسية جديدة في إسرائيل في مرحلة مابعد 48 حسب غيلا رامراس راوخ فمن الواضح ان تلك الحرب التي يسميها الإسرائيليون
حرب الاستقلال خلقت أعداء واضحين وشرسين للدولة اليهودية إلى حد جعل تلك الدولة تحت حصار متصل على كل الجبهات تقريباً تقول رامراس
راوخ «إن حالة الحصار أدت إلى تحديد مساحات الاختيار والبدائل وأضفت على الوضع سمة الحتمية: بدا واضحا انه لايوجد حل سهل غير ان الوضع كان
أعقد مما قد يبدو هنا لأن الإسرائيليين الذين وجدوا أنفسهم تحت الحصار العربي كانوا بدورهم يفرضون حصاراً على الآخرين، على الفلسطينيين الذين
ينتمون إلى الشعوب العربية التي تحاصر إسرائيل هذا في الوقت الذي يقيم فيه عدد من أولئك الفلسطينيين داخل إسرائيل التي تفرض حصارها عليهم. غير ان
الفلسطينيين على الرغم من كونهم الأضعف وعلى الرغم من رزوحهم تحت حصار جسدي ونفسي (سياسياً، وعسكرياً، وثقافياً، إلى غير ذلك) فإن من
الممكن ان يقال إن الفلسطينيين بمواصلتهم العيش في إسرائيل يفرضون نوعاً من الحصار على أولئك المحيطين بهم مطالبتهم الشرعية بالأرض ظلت تفرض
ضغطاً ملموساً على النفسية الإسرائيلية وعلى التركيبة الأخلاقية لسكانها من اليهود وقد رأينا كيف عبر عاموس أوز عن ذلك ولكني أود هنا أن أضيف أمثلة
لاتقل أهمية من الأمريكية باربرا بارمينتر:
بالنسبة للصهاينة الشبان المنشغلين بالتعرف على الأرض، كان العرب يمثلون ايضاحات ميسورة للرباط البدائي بين الناس والمكان. إن العرب كما كتب
موشي شامير في استذكار طفولته في فلسطين إبان العشرينيات كانوا يعيشون في الضمير اليهودي بوصفهم رموزاً للوضع الطبيعي للتجذر.
هذه الصورة الطيبة كانت بطبيعة الحال أبعد ما تكون عن النمط السائد فتحت الضغط الذي يفرضه العداء المتصل كان المجال مفتوحاً لكل أنواع الصور
السلبية لتتطور في الذهنية الإسرائيلية وما تعبر عنه: العربي الإرهابي، العربي الفلاح المتخلف، العربي البدوي الرحال الرافض للتحضر، أو العربي الكيان الذي
لاوجود له، العربي الغائب، كما تقول غولدا مائير. وفي أحيان كثيرة كانت الصورة المضطربة بحد ذاتها مصدرا للاضطراب كما تشير إلى ذلك بارمينتر في
تعليقها على قصة للكاتب الإسرائيلي أ.ب.يوهوشوا. الصورة الرومانسية للعربي لدى موشي شامير تتحول لدى يوهوشوا إلى صورة «عربي يسبب
الاضطراب ويزيد من التشويش» بالنسبة للمستوطنين الإسرائيليين ففي قصة يوهوشوا في مواجهة الغابات يبدو الإسرائيليون وكأنهم أصحاب المشكلة:
البطل.. طالب إسرائيلي سادر بلا جذور ويكتب أطروحة حول الحروب الصليبية إنه يمثل المأزق الذي يحسه كثير من اليهود الإسرائيليين الذين ولدوا
وترعرعوا في دولة اسرائيل والذين يظلون مطاردين بأسئلة حول موقعهم في الأرض وفي العالم بشكل عام فهم أبعد مايكونون عن أهل البلد المحليين والواثقين
بأنفسهم والممتلئين أملا ومثالية إنهم سكان مدن مغتربون ومحبطون وغير قادرين على الارتفاع إلى مستوى الآمال والجهود التي بذلها آباؤهم الرواد.
الافتقار إلى الجذور، أو بالأحرى الاقتلاع من الجذور، هو ما واجهه الفلسطينيون كما نعرف نتيجة ايجاد اسرائيل أولاً، ثم تزايد أعداد المستوطنين اليهود
وعلى مدى الحربين المتواليتين حرب 48 وحرب 67 كان ذلك الاقتلاع يتزايد لكن حرب 67 أوجدت وضعاً جديداً فاحتلال إسرائيل للجزء الواقع تحت
الإدارة الأردنية والمصرية منذ 48 أعاد ربط أجزاء فلسطين بعضها ببعض ولكن تحت السلطة الإسرائيلية لينخلق من جراء ذلك مايعرف الآن ب «الأراضي
المحتلة» وتتطور نتيجته أوضاع إنسانية مغايرة للسابق.
الكاتب الفلسطيني المعروف غسان كلفاني كان أحد الذين استكشفوا وبتفرد إبداعي كبير دلالات الوضع الجديد وأعادوا صياغته إبداعياً في قصص واقعي
مازال يفيض بعاطفته المتقدة وتساؤلاته الفلسفية المؤرقة. أحد الأعمال التي تحمل ذلك الفيض هي قصته عائد إلى حيفا (1969) التي تصور وضعا بالغ
الدلالة يبدأ في التطور مع بداية حرب 67 وملخص الوضع هو أن زوجين فلسطينيين كانا يعيشان في حيفا عندما اندلعت حرب 48 يكتشفان نتيجة لحرب
67 أن بإمكانهما العودة إلى مدينتهما والبيت الذي تركاه قبل عشرين عاما لكن هذه العودة التي تبدو عادية إلى حد كبير تكتسب فجأة بعداً مأساوياً
شخصياً حين يتبين السبب الملح وراء عودة الزوجين، فهي ليست مشاهدة البيت السليب، وإنما هو البحث اليائس، أو شبه اليائس، عن ابن رضيع اضطر
الزوجان لتركه في البيت بعد ان حالت حشود النازحين بينهم وبين العودة إلى البيت لأخذه معهم.
غير ان عودتهم إلى حيفا ثم إلى بيتهم، أو شقتهم القديمة، تكشف لهم أن زوجين من اليهود المسنين يقيمون فيها بعد ان جاؤوا من شرق أوروبا ومنحتهم
السلطات الإسرائيلية المكان وكانت المفاجأة هي أن الزوجين لم يأخذا البيت فقط وإنما أضافوا إليه الابن الرضيع الذي وجدوه فيها فتعهدوه بالرعاية والتربية
حتى غدا شابا يهوديا يخدم في الاحتياط الإسرائيلي وفي النهاية يصر الابن على الاحتفاظ بهويته اليهودية الهوية الوحيدة التي يعرفها التي يرفض بمقتضاها
دعاوى والديه الطبيعيين بأنه ينتمي إليهما وإلى هوية أخرى، مما يثير أسئلة تبحث عن الإجابة: من المسؤول عما حدث للولد؟ هل هي، كما يقول الوالدان،
القوات البريطانية/اليهودية التي أرغمتهما على الفرار وترك الطفل وحيداً؟ أم هما الوالدان اللذان تخليا، كما يبدو، بسهولة عن ابنهما وبتصرف لايتوقع من
مثلهما؟ أم ان المسوول هي الظروف المأساوية بشكل عام؟ القصة لاتجيب عن الأسئلة بشكل واضح.
إن ترك الأسئلة المشار إليها مفتوحة هو من السمات اللافتة في قصة كنفاني.. وتبدو حالة الابن المفقود بمثابة مواجهة واضحة لقضايا الهوية والانتماء وما
تعنيانه وعلى نحو يذكر بالأسئلة التي يثيرها المنتمون إلى الفكر مابعد الحداثي ممن يشككون في إمكانية العثور على إجابة لمثل تلك الأسئلة من حيث ان الهوية
مسألة ضبابية يصعب تحديدها فكون الإنسان فلسطينياً أو يهودياً، يبدو من المنظور المشار إليه، وهو منظور راسخ في الطرح الفلسفي المعاصر، نتيجة للتربية
والبيئة وليست محاولة تحديده سوى محاولة تمليها متطلبات ايديولوجية لا أكثر والقارئ لقصة كنفاني سيتبين ان هذا المضمون الفلسفي ليس غائباً وقد سبق
لكنفاني نفسه ان أشار إلى أن تناوله يسمح بمثل ذلك التفكير:
في البداية كتبت عن فلسطين كقضية مستقلة.. وبعد ذلك اكتشفت ان فلسطين رمز للإنسانية.. عندما أصور الشقاء الفلسطيني، فإني في الواقع أقدم
الفلسطيني بوصفه رمزاً للشقاء في العالم.
في عائد إلى حيفا تبدو عملية التوسيع لأمداء الشقاء الفلسطيني أو عولمته من خلال المعاناة التي يعيشها ليس الفلسطينيون وحدهم، وإنما حتى اليهود. فاليهود
يبدون بوصفهم ضحايا للنازية، كشعب بسيط وإنساني جعلت معاناتهم حساسين لمعاناة غيرهم. وهم من هذه الزاوية بعيدين جداً عن الأيديولوجية
الصهيونية والمخططات الاستعمارية تقول رضوى عاشور الكاتبة والناقدة المصرية المعروفة في كتابها «الطريق إلى الخيمة الأخرى» ان عائد إلى حيفا تتميز
بتصويرها لليهودي بوصفه إنسانا بدلا من كونه عدوا تحكمه النظرة الكاريكاتورية كما هو الحال في الأدب العربي الحديث في تعامله مع اليهود (غير ان
المأساة بالطبع هي ان كنفاني الذي تبنى تلك النظرة إلى اليهود اغتاله الإجرام اليهودي/ الصهيوني من خلال الموساد، حين فخخوا سيارته في بيروت سنة
1972).
يثير تحديد الهوية اليهودية هنا، ومعها بالطبع الهوية الفلسطينية، على أساس من الانتماء الإنساني سؤالاً حول معنى الهوية نفسها: هل يريد كنفاني ان يقول إن
الهوية تستمد من البعد الإنساني العام وليس من الأبعاد الثقافية والعرقية؟ بمعنى أنه هل ينبغي النظر إلى الإنسان بوصفه إنساناً فحسب بغض النظر عن من أين
جاء وماذا يعتقد؟ إن حالة الولد الفلسطيني/ اليهودي تبدو وكأنها تقول إن الهوية تفرض فرضا واعتباطاً لايترك فرصة للاختيار: فالطفل الذي كان سيصير
فلسطينيا يتحول إلى يهودي، والآن يسعى والداه إلى استعادته إلى هوية لايعرفها ولايريد العودة إليها. غير ان تصوير كنفاني للزوجين اليهوديين يبدو كما لو
أنه يؤكد زاوية للرؤية أوسع وأكثر مرونة، مما يوحي بأن الكاتب أراد ان يدع النهايات مفتوحة إنه وضع يجسده الزوجان الفلسطينيان اللذان يعودان إلى
حيفا باحثين عن ابنهما وينتهيان بأسئلة مقلقة مثل ذلك الذي يثيره الأب الفلسطيني في بيته القديم:
سألت: ماهو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة أجل ماهو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟
ريش الطاووس؟ صورة القدس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ماهو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟
ماهو الوطن؟... إنني أسأل فقط.
ليس كل الفلسطينيين، ولا كل الإسرائيليين، سيتقبلون هذه النظرة المتشككة وقد رأينا من قبل كيف ان درويش والكاتب الإسرائيلي أوز يعبران عن نظرة
أكثر وثوقا حول هويتهم وأين ينتمون ومع ذلك فإنه حتى بالنسبة لأولئك الكتاب تظل الهوية مفهوماً غير قابل للتحديد دونما «آخر» وحين نتأمل في ذلك
الآخر سنتين اننا في معادلة تشبه تلك التي رسمها الشاعر الفرنسي بودلير في مقدمة مجموعته أزهار الشر حين خاطب قارئه المتهرب من مسؤولية الأوضاع
المؤلمة التي تصورها القصائد قائلاً: «ياشبيهي يا أخي».
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|