في نظرية الرواية سلطان سعد القحطاني
|
تحدثنا عن عناية الخليفة، معاوية بن أبي سفيان، بالقصة التأريخية والسياسية، وهذا ما جعله يقرب الرواة، ممن ذكرنا في مجلسه ومسامرته، حيث كان مولعاً
بالقصص التي تروى عن الملوك والأمراء، وأحوال الناس، العامة والخاصة، حيث كان يوظف كلا منها، في صالحه وصالح الدولة العربية الاسلامية الحديثة،
ولم يجد أصدق من الرواية المنقولة عن السابقين. ومن شدة اهتمامه بالرواية المنقولة، ما ذكره المسعودي عنه، حيث يقول:«كان يستمر الى ثلث الليل في
أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها، وسياستها لرعيتها، وغير ذلك من أخبار الأمم السابقة، ثم تأتيه الطرف الغريبة من عند نسائه من الحلوى وغيرها
من المآكل اللطيفة، ثم يدخل فينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارهم، والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان مرتبون،
وقد وكلوا بحفظها وقراءتها، فتمر بسمعه كل ليلة جمل من الأخبار والسير والآثار، وأنواع السياسات». وكان من الرواة في مجلسه، دغفل البكري، وعبيد
بن شريه، وهذان الراويان من أكبر الرواة وأقدمهم، في تاريخ الرواية العربية النقلية، التي هي نواة الرواية، سواء كانت الرواية النقلية، ذات الحدث المتناقل
بالرواية الشفوية، في اطار مروي جاهز سلفاً، حتى وإن لعب فيه الخيال، أوقصد فيه التحريف، لمناسبة الحال، والظرف التأريخي المصاحب للحدث..
والظروف المحيطة بزمان ومكان الراوي، أو قصة حقيقة منقولة فإنها قد حققت انجازا مبكرا للرواية الشفوية، التي نقلت بالتدوين، فيما بعد.
وإذا خرجنا من هذا كله الى ان عبيد بن شريه الجرهمي، المتوفى سنة 70هـ، ووهب بن منبه اللذين دوَّنا الرواية في عهد معاوية، مما كتبه غلمانه، فإن دغفل
البكري يذكر قدوم أكبر راوية شفوي أدرك الجاهلية والاسلام، وحفظ القصة القديمة وحكم أصحاب الديانات القديمة، ذلك هو الجرهمي حيث يقول:
وكانت أفضل لذاته في آخر عمره المسامرة وأحاديث من مضى، فقال له عمرو بن العاص لو بعثت الى الجرهمي الذي بالرقة من بقايا من مضى فإنه أدرك
ملوك الجاهلية وهو أعلم من بقي اليوم في حديث العرب وأنسابها، وأوصف لما مر عليه من تصاريف الدهر.
فبعث اليه معاوية فأتى في محمل بعد أيام كثيرة وشدة شوق من معاوية اليه، فدخل عليه شيخ كبير السن صحيح البدن ثابت العقل منتبه ذرب اللسان كأنه
الجذع فسلَّم على معاوية بالخلافة فرحب به معاوية وقال له أردت اتخاذك مؤدباً لي وسميراً ومقوماً، وأنا باعث الى أهلك وأنقلهم الى جواري، وكن لي سميراً
في ليلي ووزيراً في أمري».
ويعتبر هذا الكتاب، الكتاب الأول في تصنيف الرواية الاخبارية، ذات الصياغة البلاغية وان كانت رواية منقولة، فإن الخيال قد لعب في الكثير من قصصه،
ويعود ذلك لأمر سياسي بحت، يرضي به سياسة الدولة الأموية، وان كانت الدولة الأموية عربية اعرابية يناسبها توجه أخبار الملوك وقصصهم أكثر من
غيرها. ويرى الدكتور حسين نصار في كتابه «نشأة التدوين التاريخي عند العرب» أن هذا الكتاب ملحمة من أجمل الملاحم العربية النثرية التي تتناول تاريخ
العرب الجنوبيين، ويلعب فيها الخيال دوراً كبيرا، ويحليها الشعر والقطع النثرية الأرجوانية والقصص الاسرائيلية. ويقارن الدكتور نصار هذا الكتاب بكتاب
«شاهنامة» للفردوسي. صاحب ملحمة الفرس قبل الاسلام. والحقيقة ان مقارنة الدكتور حسين نصار مقارنة صائبة. وبالقدر الذي شغف به العامة
والخاصة بسماع وقراءة الرواية المنقولة، ودخول بعض النسابين في هذا الميدان وبعض من المزورين في الرواية الشفوية، فإن الشعر لم يغب عن الانسان في
ذلك الزمن، حتى أنه صار بمثابة الوصي على الرواية الشفوية، فلم تجد رواية تخلو من بعض المقطوعات الشعرية على شكل تراتب فني يطابق هدف الرواية،
مما جعل النحل الشعري يدخل الى المعنى العام للرواية، فكانت الرواية تختم بمقطوعة شعرية أو قصيدة. فالشعر في عرف العرب يعني الذكاء والفروسية، وهي
صفات ملحمية متوارثة عند العرب بصفة عامة الى اليوم في الأدب الشعبي، والرواية الشفوية، وهي امتداد للرواية العربية القديمة، مثل ذات الهمة، والزير
سالم وعنترة والظاهر بيبرس، إلا ان الأخيرة ظهرت بأساليب شعبية ضعيفة.
وبما ان المقولة الشهيرة تقول ان عمر بن الخطاب قال:«الشعر ديوان العرب ليس لهم علم غيره» مقولة انعكست على الرواية الشفوية، حيث وجدنا الرواية
تجلب الشعر، فالقصة أساس القصيدة. فقصيدة الحطيئة، التي صور فيها حالة أسرة فقيرة، أساسها قصة، كما ان وصف شعراء المعلقات للطبيعة وما عليها
من الحيوانات والنبات والمواقع الجغرافية قصة في ذاتها، فضلا عن وصف الحالة الفردية في شعر شعراء الغزل والصعاليك.. لذا نقول بكل اطمئنان: ان القصة
أنبتت الشعر وليس العكس، وان كان القول «الشعر ديوان العرب» فإن ذلك قبل عصر التدوين، ولو أن بعض المصادر تؤكد على وجود التدوين قبل
الاسلام، ومنه كتبة الوحي أنفسهم. كان معاوية يلح على عبيد بن شريه الجرهمي بأن يذكر الشعر في ثنايا أو نهاية ما يقص عليه من روايات عن الملوك
والسابقين من أعلام بلاد عرب الجنوب. يقول:«سألتك ألا تمر بشعر تحفظه فيما قاله أحد إلا ذكرته» وكأن القصة لا تصح إلا بذكر الشعر، أو كأن الشعر
محرماً لا يصح السفر إلا بوجوده. يقول:«سألتك ألا شددت حديثك ببعض ما قالوا من الشعر، ولو ثلاثة أبيات» وإذا وثقنا بصحة ما يذكره ابن شريه،
وهو الذي عاصر الكثير من الشعراء وحفظ الكثير، فإن الزلل في بعض الأحيان وارد ولاشك في ذلك؛ لكن بعض الرواة استغل هذا فألف شعراً من عنده
لارضاء الخليفة، وهذا ما حدث في الكثير من روايات وهب بن منبَّه، وهو الأقدر على نظم الشعر. وقد لاحظ الدكتور حسين نصار ان هذا الشعر موضوع
بحق على من نسب اليهم لارضاء السامعين؛ كما ان هناك شعراً صحيحاً جاء على ألسنة شعراء حقيقيين وهو موجود فعلاً في دواوينهم المحققة. كما نلاحظ
ان هذا الشعر أو أغلبه وضع من أجل القصة نفسها، وليس من أجل غرض آخر. ومنه الشعر القصصي الذي نظم فيما بعد، أو من خلال السير الأدبية،
كسيرة سيف بن ذي يزن، بديل ضعف فنية الشعر نفسه، واتضاح الصنعة والنظم فيه. وهذا سبب من الأسباب التي دعت الدكتور طه حسين وبعض
المستشرقين يشكون في هذا الشعر، لأنه لم يحقق بالطريقة الفنية للتحقيق. وإذا كان ابن الكلبي غير موثوق به من الناحية العلمية، فإنه قد أخرج فناً روائياً،
وكان يتمتع بخيال واسع، وقدرة على البناء القصصي.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|