بين التمرد على اللغة والانصياع لها بناء الجملة الشعرية الحديثة والكلام ضد الكلام عبدالله السمطي
|
ينهض البناء الشعري في جوهره على جملة من الوحدات الدلالية المهيمنة التي تشكل عناصره وأنساقه، بحيث تتجلى في ميسمها المبدئي بوصفها شكلاً للنص، أو بالأحرى للخطاب الشعري. هذه الوحدات تتكون من أجزاء صغرى تتواتر ما بين سطرٍ وسطر، وبين فاصلة وفاصلة، أو مابين وقفةٍ ووقفة أخرى.. الأجزاء الصغرى هذه هي الجمل الشعرية المنتظمة أو غير المنتظمة في السياق النصي التي تتكون بدورها من كلمات تنحل في وحدات صغرى إلى حروف، في سلسلة خطية متراتبة، يحفظها التراتب النحوي، والتركيب الصرفي، والتناسق الدلالي.
ولما كانت وحدة البيت الشعري تبعاً للبعد الكمي المعين لتفعيلاته العروضية المنتظمة هي الأساس الذي تطل منه الجمل في صياغة عمود الشعر العربي التقليدي، بحيث تصبح القافية هي المرمى الأفقي النهائي للجمل المختلفة، وما ينجم عن ذلك من تواتر أو توتر في بنية البيت الشعري حذفاً وذكراً، إضافة واختزالاً، تقديماً وتأخيراً، فإن الأمر نفسه يحصل في السطر الشعري الذي هو عماد الشكل التفعيلي والنثري. ففي السطر الشعري تترى الكلمات في نسيجها الجملي، محققة نمطاً ما من الصياغة الشعرية، يتثبت عبر أسلوبية الخطاب الشعري ذاته، الذي يتحلى به هذا الشاعر أو ذاك، وتنبثق الجمل الشعرية من انبثاق الموضوع الشعري، ويضحى المستويان: النحوي (من جهة التركيب والتكوين)، والدلالي (من جهة القصد والتعيين) هما المستويان البارزان أو المكونان الرئيسيان لهذه الجمل. فالأول يشيرُ بقانونه الثابت إلى اللغة ونظامها، والثاني بتعديلاته وانحرافاته يومئ إلى الخطاب.. ويتبدى المستوى الخطي التركيبي بشكل ناتئ، باعتبار ان هذه الجمل بوصفها جملاً شعرية تنحرف عن قاعدية التراتب اللغوي/النحوي، لتدخل في قاعدية الشعر وقوانينه، وتسعى لأن تخرق الطرق الصياغية النثرية للكلام عرضياً وطولياً، أفقياً ورأسياً، خالقة بذلك طرقها الخاصة التي نجم عنها هذا الأسلوب اللغوي المميز الذي يتحلى به الأدب.
وفي شكل استعاري، يعبر رولان بارت عن هذه الجمل التي تخترق اللغة صوب انتاج الفعل الأدبي فيرى أن «اللغة البشرية لا خارج لها، إنها انغلاق ولا مجيد لنا عنها إلا عن طريق المستحيل: إما بفضل الوحدة الصوفية مثلما وصفها كييركغارد KierKegaard عندما حدد فداء إبراهيم كفعل لا مثيل له خالٍ من أي كلام، حتى ولو كان كلاماً باطنياً، يقوم ضد شمولية اللغة، وتبعيتها وطاعتها، أو بفعل (آمين) نيتشه Nietzsche الذي يشبه خلخلة مبتهجة موجهة ضد استعباد اللغة، وما يطلق عليه دولوز Deleuze رداءها الرجعي، ولكن نحن الذين فرسان الإيمان مثل إبراهيم والإنسان الأعلى الذي يتحدث عنه نتيشه، لايتبقى لنا إلا مراوغة اللغة وخيانتها. هذه الخيانة الملائمة، وهذا التلافي والهروب، هذه الخديعة العجيبة التي تسمح بإدراك اللغة خارج سلطتها، في عظمة ثورة دائمة للغة، هذا هو ما أطلق عليه أدباً».(1)
وهكذا تستل الجملة الشعرية من النظام اللغوي أقصى طاقاتها الايحائية والانشائية. إن وحدة البيت الشعري، تفرض على الشاعر بُعداً معيناً للجملة، من حيث طولها أو قصرها، ومن حيث حضور عناصرها النحوية واستتارها بحيث لا تتعدى هذه الجملة (الجمل) نطاق الحركات والسكنات والمقاطع التي يفرضها البحر الشعري، وعدد تفعيلاته المنتظمة، لكن هذا لايحدث بالضرورة في السطر الشعري الذي قد يطول ليحتضمن عدداً كبيراً جداً من الجمل الشعرية، بل إن النص كله قد يصبح جملة شعرية كبرى موصولة، وقد يقصر لتصبح الجملة عبارة عن كلمة واحدة.
هذا بالطبع هو ما يتحكم فيه الشكل الشعري، والمسألة هنا لا ترتبط بقيمة ما قدر ما تدل على أن السطر الشعري يُعطي نوعاً من الامتداد الخطي الأفقي في صياغة الجملة، وفي ترتيبها، وتراكبها تبعاً للنسق النصي المحدد.. هذا الامتداد يمنح الشاعر قدراً كبيراً من التحكم في المستويين: الكمي والكيفي لجمله الشعرية، وفي الهيمنة على المستوى الصياغي، والنسيج الكلامي لعباراته المزجاة في نصه الشعري، عبر استثمار الكلمات المنتقاة التي تصوغ عبر الممارسة الشعرية والانتاج الكثيف المتوالي نوعاً من المعجمية الشعرية التي تدل على شاعرها، وصائغها.
إن كل نص عظيم فيما يعبر د.مصطفى ناصف «يجعل اللغة ملكاً له، إن النشاط اللغوي مغزاه الحقيقي: ان فكرة الكلمات مقلوبة في أذهاننا، ويتضح الأمر على أبشع صورة حين نسمي الكلمات، كما سمعنا، مفردات، وحيث نجعل السياق مركباً يتألف من هذه المفردات، إن الكلمة سياق يدخلُ في سياق، ولو قد نظرنا إلى الكلمة باعتبارها بؤرة سياق لكان هذا أولى. إن النصوص تنشأ من أجل مواجهة كلمات».(2)
إن هذا السياق الذي هو الكلمة، يدخل في سياق آخر هو الجملة، التي تتشكل بدورها من مجموعة كلمات حاضرة مثبتة أو محذوفة مضمرة، في سلسلة متداخلة ومتوازية من الدوال والمدلولات المختلفة.. ولايتم هذا التشكل وينحسم وينسجم بشكل تلقائي حر على الإطلاق إذ «ليست الفونيمات والكلمات والعلاقات الصرفية هي التي تخضع وحدها لنظام حرية مضبوطة ما دمنا لا نستطيع التركيب بينهما كيفما اتفق، إن الخطاب في مجموعه هو الذي يخضع لشبكة من القواعد والإكراهات والضغوط التي تكون كثيفة ضبابية على المستوى البلاغي، دقيقة حادة على المستوى النحوي: فبين اللسان والخطاب مدٌّ وجزرٌ، حينئذ لا يبدو التمييز بين اللسان والخطاب إلا عملية انتقالية، وشيئاً ينبغي التنكر له».(3)
ويقول النحاة في تأملهم الجملة: «إن الجملة ثلاثة أنواع:
أ الجملة الأصلية، وهي التي تقتصر على ركني الاسناد (أي: على المبتدأ مع خبره، أو مايقوم مقام الخبر أو تقتصر على الفعل مع فاعله، أو ماينوب عن الفعل).
ب الجملة الكبرى، وهي ما تتركب من مبتدأ خبره جملة اسمية أو فعلية.
ج الجملة الصغرى: وهي الجملة الاسمية أو الفعلية إذا وقعت إحداهما خبراً لمبتدأ.(4)
واحتمالية وجود هذه الأنواع الثلاثة من الجمل في شعرية الحداثة مؤكدة، إذ تنوعت أنماط الجمل، وأنماط الصياغات في هذه الشعرية، وبلغت أقصى طاقاتها اللغوية والتركيبية، مما تنجم عنه بالضرورة أساليب شعرية مختلفة متعددة.. ولعل طبيعة الجملة الشعرية التي تذهب في انحرافها عن قانون الكلام النثري إلى أمداء بعيدة قصية، تفضي إلى ان يشكل الكلام الشعري بذاته سياقاً محدداً، أو أرضية لغوية معينة، ينبغي مع كل كتابة جديدة، أو ممارسة نوعية للخطاب الشعري ان ينحرف عنها، وكأنه يمارس تجلياته الجمالية باعتبار ان هذا الكلام الشعري هو بمثابة النظام اللغوي العام، وليس بمثابة الخطاب الفردي الخاص.
يقول جان كوهن: «يتحدد الشعر في علاقته بقانونين: هذه العلاقة تكون مع أحدهما سلبية، ومع الآخر تكون ايجابية، ولهذا كان للشعر نقيضان:
الأول: هو النثر الذي ينقاد لقانون المطابقة، والثاني، هو غير المعقول الذي يتمرد على الاثنين معاً الجملة الشعرية وحدها هي التي تستجيب للضرورة المزدوجة التي تحددها: التمرد على أحدهما، والانصياع للآخر».(5)
إذن، تتمرد الجملة الشعرية على قانون المطابقة النثري، وتنصاع لغير المعقول، تنصاع للمدهش وغير المألوف، لكي تخلق تراكيبها في جدة وابتكار تبعاً لسياق التجربة التي تطرحها قصيدة الحداثة، وتبعاً لاستقصاءات شاعرها.. ووفق هذا المعنى، فإن تكوين الجملة الشعرية يخضع لعدة تصورات يمكن صياغتها كالتالي:
تتشكل الجملة من مجموعة من الكلمات، وهي آنئذ تخضع لترتيب محدد، يرتبط بالأساس بصياغة المعنى وتكوينه من جهة، ويرتبط بالتوصيل والتواصل اللغوي الإنساني من جهة أخرى، ويتطلب هذا كشرط جوهري البيان والإفصاح، وترتيب الجملة أو (ترتيب الكلام) على نسق قسري، وقد أشار علماء البيان العربي إلى ذلك، إذ يتحدث عبدالقاهر الجرجاني عن فضيلة البيان من جهة التأليف لا اللفظ، إذ يقول: «ومن البين الجلي ان التباين في هذه الفضيلة، والتباعد عنها إلى ماينافيها من الرذيلة، ليس بمجرد اللفظ، كيف والألفاظ لاتفيد حتى تؤلف ضرباً خاصّاً من التأليف، ويعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والتعرتيب؟.
فلو أنك عمدت إلى بيت شعر أو فصل نثر، فعددت كلماته عداً كيف جاء واتفق، وأبطلت نضده، ونظامه الذي عليه بُني، وفيه أُفرع المعنى وأُجري، وغيرت ترتيبه الذي بخصوصيته أفاد، وبنسقه المخصوص أبان المراد نحو أن تقول في «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» «منزل قفا ذكرى من نبك حبيب» أخرجته من كمال البيان إلى محال الهذيان، نعم وأسقطت نسبته من صاحبه، وقطعت الرحم بينه وبين منشئه، بل أحلت أن يكون له إضافة إلى قائل، ونسب يختص بمتكلم».(6)
مغزى ذلك ان الشاعر عليه ان يراعي في صنع جمله الشعرية نسقاً ما لا يخرج عن الخط النحوي أو اللغوي سواء بالتقديم أم بالتأخير أم بالذكر أم الحذف.. وهو النسق الذي يؤكد عليه الجرجاني في صياغة الكلم بحيث يراعى «ترتيبها على طريقة معلومة، وحصولها على صورة من التأليف مخصوصة».(7)
إن هذه المراعاة للجانب النحوي ستفرض على الشاعر أسلوباً محدداً من قبل، خاصة في جمل تشيع فيها الصفات، أو النعوت أو الإضافات مثلاً حيث الصفة تتبع الموصوف، والمضاف يجاوره المضاف إليه، وهي اعتبارات نحوية لا دخل للشاعر في ترتيبها، إلا بقدر ما تعطيه اللغة، أو التركيبة النحوية من مساحة أفقية ممتدة داخل جمل النص فصلا أو وصلاً.
إن تكوين الجملة الشعرية وصياغتها يرتبط ببعد بلاغي لكي تتحقق شعريتها، ويبدأ هذا البعد باختيار الكلمة وانتقائها، وبالمواءمة بين حروف هذه الكلمة صوتياً، ولا ينتهي بمجرد انتظام الكلمات في نسق معين.
ويرتبط تكوين الجملة الشعرية أيضاً بالسياق الشعري الفردي والعام من زاويتين:
الأولى: تتعلق بالنسيج الأسلوبي الخاص بالشاعر، وبظواهره التعبيرية المألوفة.
الثانية: تتعلق بالفترة الزمنية التي أنتجت فيها هذه الجملة (الجمل).. هل هي فترة كلاسيكية، أم رومانتيكية، أم حداثية؟.(8)
مغزى ذلك أن تكوين الجملة الشعرية يرتبط بمستويين، لغوي: صوت/دلالي وبمستوى بلاغي (جمالي)، وعلى هدى هذين المستويين، تتخلق الجمل الشعرية، وتتحدد قسماتها.
ثمة إذن علاقة بديهية وطيدة مابين الشعر من جهة، وبين اللغة والبلاغة من جهة ثانية، هذه العلاقة على قسط كبير من التوتر والمتعة في آن.. حيث ينجم عنها هذا التعبير الشعري الخلاق الذي «يضطلع بإبراز ذات هي في نفس الوقت حاضرة حضوراً ملحاً، ولايمكن رصدها مع ذلك، ذات مجهولة ويتعرف عليها مع ذلك بنوع من القلق: فلا تعود الكلمات تدرك، وهماً، كمجرد أدوات، وإنما تصبح قذائف موجهة، وانفجارات ورجَّة وآليات ونكهة.. إن الكتابة الأدبية تجعل من المعرفة احتفالاً».(9)
إنه «كلام ضد الكلام» حسب ما يشير ادونيس «حيث الكلمة تتجاوز مفلتة من حدود حروفها، وحيث الشيء يأخذ صورة جديدة، ومعنى آخر»..(10) وفي الشعر الحديث نعثر على هذه الانفجارات، والآليات، حيث يتحقق الكلام ضد الكلام، في جمل شعرية لها صياغتها المتميزة، ولها أبعادها التعبيرية المختلفة.
إشارات
1رولان بارت: درس السيميولوجيا ترجمة: عبدالسلام بن عبدالعالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية 1986م ص، ص13:14.
2 د.مصطفى ناصف: اللغة والتفسير والتواصل سلسلة عالم المعرفة الكويت يناير 1995م ص 76.
3 رولان بارت: درس السيميولوجيا ص21.
4 عباس حسن: النحو الوافي (الجزء الأول) دار المعارف بمصر الطبعة الخامسة د.ت ص16.
5 جان كوهن: بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الولي، ومحمد العمري دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 1986م ص 204.
6 عبدالقاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، تحقيق: د.محمد عبدالمنعم خفاجى، د.عبدالعزيز شرف دار الجيل بيروت الطبعة الأولى 1991م ص 22.
7 السابق ص23.
8 المعنَّى بالفترة الكلاسيكية أو الرومانتيكية أو الحداثية، فترات ظهور هذه المذاهب الأدبية والشعرية عربياً، وشيوع نمط ما من الأداء الشعري، ينضبط وفقاً لمفاهيم هذه المذاهب ورؤيتها للفن الشعري، وطبيعة الخطاب ومحتواه الجمالي مع ملاحظة! (الحداثة) في حد ذاتها قد تكون سمة للأدب وليست مذهباً أدبياً بالضرورة.
9 رولان بارت درس السيميولوجيا ص16.
10 ادونيس (على أحمد سعيد): الشعرية العبرية، دار الآداب، بيروت، الطبعة الثانية 1989م ص78.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|