أعراف في حضرة المتنبي 2 محمد جبر الحربي
|
يعترف الناس بعظمة شعر المتنبي، شاعر كل زمان، وهم الذين يسهدون جرّاه ويختصمون. ولكنهم أو بعضهم يستكثرون عليه جموحه وطموحه، ورغباته الموازية لشعره، ومنها الجاه والسلطة.
وأتساءل: ألا يستحق من ملك بيوت الشعر أن يملك بيتاً، ومن حكم اللغة والقصيد، أن يحكم قضاءً.. أو فضاءً؟!
وهم يعيبون على المتنبي أناه العالية، أو نرجسيته الفائضة. وأنا أرى فيها عظَمَةً ترفع مقام الشعر لديه، وتوصل القصيدة إلى أعلى مدىً يمكن أن تصل إليه، وتصبو له النفس البشرية المغامرة المقبلة على الرفعة، المتطلعة إلى البعيد البعيد...
ألا يجرفنا هذا البيت معه كل قراءة:
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي
أنا الثريا، وذان الشيبُ والهرمُ
إن جلّ ما نراه عيباً في المتنبي، هو في داخلنا بشكل أو بآخر ولعل مشكلة المتنبي أنه صرّح بهذا السهد، وتلك النرجسية، بينما بطّنها الآخرون.
هذه النرجسية، وهذا السعي للكمال، وهذا البحث عن الجنة هو هو في كل الشعراء الكبار، والكبار في كل فرعٍ من فروع الإبداع والعطاء.
وإذا ما وضعنا روح المتنبي المغامرة، مع روح سيف الدولة المقاتلة أمكننا فهم نشوة الانتصار الأولى عندما كان معه، ثم ردة الانكسار عندما فارقهُ مُجْبراً، ورحل ميمّماً مصر، معزياً نفسه بأن الراحل هو الأمير:
إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا
أن لا تفارقهم فالراحلون همُ
ومن بخل الحمداني وكافور كما يرى يخرج كرم المتنبي، ويجود علينا بشعرٍ باقٍ وجديد، قاسٍ وموحش وشفاف في آن.
فيه من النرجسية، ما فيه من الانكسار..
وفيه من عظمة الشعر وصعوبته، ما فيه من سلاسته وانشيالاته:
وأعلم أن البين بشكيك بعده
فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا
فإن دموع العين غدرٌ بربِّها
إذا كنّ إثْر الغادرين جواريا
إذا الجود لم يُرزَقْ خلاصاً من الأذى
فلا الحمد مكسوباً ولا المالُ باقيا
وللنفس أخلاقٌ تدلُّ على الفتى
أكان سخاءً ما أتى أمْ تساخيا
أقلّ اشتياقاً أيها القلبُ إنني
رأيتك تصفي الودّ من ليس صافيا
خُلِقْتُ ألوفاً لو رجعت إلى الصبى
لفارقتُ شيبي موجَعَ القلب باكيا
وعبدالمجيد مجذوب ينطقها: إذا الجود لم يَرزُق خلاصاً...
ومن سخاء المتنبي وجوده حينما بخل أو تساخى غيره، هذا الجود الشعري على الجياد:
وجُرْداً مددنا بين آذانها القنا
فبتْنَ خفافاً يتْبعن العواليا
تماشى بأيدٍ كلما وافت الصفا
نقشن به صدر البزاةِ حوافيا
وتنظر من سودٍ صوادِقَ في الدّجى
يرينَ بعيداتِ الشخوصِ كما هيا
وتنِصب للجرسِ الخفيِّ سوامعاً
يخلْنَ مناجاةَ الضميرِ تنادِينا
تُجاذبُ فرسان الصباحِ أعنةً
كأنّ على الأعناقِ منها أفاعيا
بعزمٍ يسيرُ الجسم في السرج راكباً
بهِ ويَسيرُ القلبُ في الجسم ماشيا
ولو كان كافور بكرم المتنبي لكفاه هذا البيت:
يبيدُ عداوات البغاةِ بلطفِهِ
فإن لم تَبِدْ منهم أبادَ الأعاديا
ولو تركت لي حرية التخيل، وهي كذلك، لرأيته متواضعاً مع الناس، متعالياً بشعره، ومع الكبار، والبخلاء.. كريماً مع الخيل واللغة، والسيوف والرماح.
وقبل ذلك شجاعاً وجريئاً في إبداء مكنوناته، وتقلباته النفسية.. واحتياجاته الجموحة...
عظيماً في شعره... وعظيماً في إثارة النزعات والأسئلة.. ومثله أمنحه نهراً، وصفحة ماء لينظر إلى نفسه متى شاء، كيفما شاء!!
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|