فراغات الظل ورقة رؤية حول (الأسطح والسراديب) المجموعة القصصية لعبدالواحد الأنصاري أحمد الدويحي
|
1 استهلال:
عبدالواحد الأنصاري:
(الأسطح والمنازل)
دار المفردات الرياض
عنوان يحمل أكثر من معنى، ويحيل إلى أكثر من اتجاه، فالأسطح عالية والسراديب واطنة على صعيد المكان، عنوان يحمل في ذات الوقت دلالة فهم سردي واع جداً، وقد يحيل إلى فهم إشاري غير مقتصد للواقع..
الإشكالية الأولى التي اختلف فيها مع كاتب هذا النص هو الفهم الدقيق لماهية جنس فن القصة القصيرة، فأنا أعرف أن فن القصة على سبيل الحصر، بأنه فن وامض حاسم مراوغ يوجز في إشارة إلى حالة أو واقع أو شخص، وقد تكون اللغة المكثفة، لكتابة بارزة كسمة في حد ذاتها بإشارة لأن كتاب هذا اللون من الكتابة السردية، يميزونها عن أنواع الفنون الأخرى التي تكتب بهذا التكثيف، كالشعر والرواية التي لها حدث سردي وللمتلقي حرية التأويل، وكاتب النص الأدبي في كل الأحوال، ليس طبيبا ليعالج مريضا، وليس مصلحا اجتماعياً في ذات الوقت، وليس واعظاً ولا سياسياً ولا تاريخياً ولا غيره، مهمته كاتب نص يشير إلى موقع الخلل بدقة وعلى الآخرين التأويل والمعالجة.
بنظرة أولية اختلف مع عبدالواحد الأنصاري في فهم ماهية هذا اللون الكتابي السردي، واشترك معه في الخطأ عند كتابة القصة أحياناً، وليس إلى هذا الحد، فقد جذبني فضاءه بتعددية العوالم والشخوص والأمكنة والأزمنة والحالات المتعددة التي تبدو طبيعة في الواقع، وتبدو غير ذلك فالنص القصصي القصير، لا يحتمل مثل هذه الإشكاليات، ومرد ذلك إلى زخم العوالم في ذاكرة الكاتب، وعجزه الأتيان بما يريد في الإطار الفني لجنس القصة القصيرة بالمفاهيم التي أشرت إلى فهمي لها، وأخرج من هذه الإشكالية بالنظر إلى جنس تصنيف لنصوص المجموعة الأربعة، المشكلة للمجموعة بغض النظر عن تصنيف جنس النص، وما قالوا بتداخل الأجناس الكتابية(!).
وبذات الواقعية متناسياً التصنيف، أستعيض عن ذلك ببيت شعر لعبدالله البردوني:
يا مصطفى يا كتابا
من قلب تألف
يصنفون المصنف
وهم من الجهل أعنف
متى سيأتي زمانا
يمحو الزمان المزيف؟
فالإشكالية الأهم لدي هي حركة الفوضى، وتناثر الفاسدين والمفسدين هنا وهناك على قارعة الصحف، وأروقة المؤسسات الثقافية العتيدة في ظل احتشاد عالم عوالم السرد، حد الاختناق الذي أصاب أصوات بعضهم، ليتساوى في ذلك حراس الغفلة المدجنين الموهومين بفصول من النفعية مع أولئك (المطفوقين) وراء سراب لمعان الضوء بأي السبل، ولنقل على الوعي الباعث فينا حق
الاختلاف، والحوار الحضاري في الحياة السلام، فلن تكافأ الأسماء بأضدادها..
قال عبدالواحد الأنصاري في محادثة مغرية:
(ليس من ذنب لأحدنا أن لا تحضر حواراً حول المجموعة بجمعية الثقافة والفنون؟)
كنت على وشك الحضور لولا تنغيص الفوضى، ولو كان هذا الشخص العالم السردي المحلي بكل رموزه في مواقع متعددة، أكاد أسميهم واحداً واحداً وأرجو ألا يفسر ما أرمي إليه مسقطاً بتسطيح ذاتي، دون تدليس وصولي كما يفعلون..
شربت كأسي اللبن (قليل الدسم) بلامبالاة بأمراض الضغط والقلب، ونمت قسرياً بالتخمة..
2 الحالة السردية
يضع الكاتب في النص الأول من المجموعة الذي سأختصر مداخلتي حوله، لكونه أولا يحمل اسم المجموعة كاملة، وثانيا بصفته أطول النصوص إذ يقع في 122 صفحة، وأخيراً للحالة السردية التي تنبئ عن عالم روائي متمكن، لا تخطئ معايشته منذ الصفحات الأولى، وأنت تجوس بين إيحاءات لواقعين لابد من التقاطها (الأسطح والسراديب)، النص والهامش، الواقع والمتخيل، ولعمري أن صفيه قد حضرت في صوت المؤذن الأسود منذ اللحظات الأولى، وقدماها تخوض في الدم، (أما في قلبك رحمة يا أنصاري؟)، ويمكن سؤال صديقنا ابن مكة محمود تراوري عن هذا العالم بعمقه التاريخي الذي غرف منه كاتباً واعدا بالبشارة، مراوحاً في المتحول ثابتاً إلى الثابت، ليعطي دلالة إلى محطات قادمة مع أن هذه الصلة التي نعمنا بها، وإن بدأت وثيقة من استمرار المراسلات ليست في الماضي الذي يستبد الشوق إليه، ويمد برجله لتعبر به الأحلام والهواجس، وحسه أن يظل كما هو حافلا بابتسامة الرضا كلما راود الفكر.
ويصح أن نقول إن حدس الكاتب في نص (الأسطح والسراديب) الذي يراوح في جسد الوطن، إنما هو ذاكرة راو موشومة بالحدث في الهامش، وقليل من التأويل المبين في المتن، بما تسمح له الحالة السردية المفرطة بدواع الاصطدام، وحالة الخوف وليسمح لي (الراوي) الذي كبل الخوف حواسه،
ليتبدى تصاعد الحدث الذي بكل تجرد، أنقذته ثقافة الكاتب بمقتضيات السرد، ووعيه بالممكن دون أن يتحول في صراخ خطابي إلى قالب مقيت، هذه الشعرة الفنية والخيط السري بين مستويات السرد، تمتد في إشارات وتنمو في تصاعد متوالية في اتجاه واحد من الثابت، وتتماهي في عوالم من الجدة بين (سراديب) غربة سؤال في الداخل والخارج، سؤال يلون الحالة السردية من الثابت (الحلم) مجازاً، لتوغل الذاكرة وليشرع أبواب الكشف والتعرية التي تحمد له، دون أ، يجف أو تنقطع الشعرة أو العرق الذي بيت في الدم كل (هذه) وتلك المغامرات.
ولو دون عمد، يأبى الكاتب لذات السبب (حالة جنس السرد) إلى تداخل مرتبك أحياناً ما بين الحالات والإحالات والإضافات، فتسيطر حالة (الراوي) المطوقة بلغة سردية رشيقة، تهبط بالباحث عن متعة السرد إلى حكاية مجتزأة في (سراديب) الحياة:
(كان شهما فلم يتحمل
وعلق المؤذن (أبوهدى) على الأمر قائلا:
لو كان هناك من يستحق الرحيل لشدة الخجل، لكان أولئك الرجال الذين لم يستطيعوا الحفاظ على حرمة جارهم، وخانتهم قواهم في المسافة القصيرة بين الباب والسيارة..) ص47
أهنئه إذ قدم نماذج عالمه الفني دون تعقد حرج نفسي أو لغوي، ومن ذاكرة تعود بنا إلى السراديب الأولى، لئلا
تخنق أسقطت الطفرة وصدماتها جيل المشهد السردي..
3 تضاد ثنائية الشخوص والأمكنة:
يستحوذ المشهد السردي على هالة من المكاشفات الممجوجة بكتابة ورموزه في غياب نقد حقيقي، وفرز حقيقي لركام السرد المحلي، فلا بأس كاتب (الأسطح السراديب) صاف، يعبر عن تجربته دون أن يدخلنا إلى مخافر التفتيش، ولا مصحات الأطباء النفسيين ودور الصحف، إنها كتابة جيل جديد يجوب العالم دون أن ينفك من هاجسه الأول (الوطن)، ويتراسل مع كل جهات الأرض في هذا الزمن لجيل التقنية وثورة المعلومات، ويذكرني بجيل كان منتهى أمله صحيفة وصحبة مشاغبين، ونغني مع شاعرنا:
يا سيدي
إن ضاق بي
وطرقت بابك
مولاي
لا تطلق كلابك.
ولتظل الشعرة مشدودة من غير فجاجة دعائية إلى المنارة الأولى، لا كما يفعل بعض كتاب هذا الاتجاه، حينما يحيلون الفن إلى خطب بلهاء، ف(الراوي) المتحرر بفعل الكتابة لم يقطع ثنائية التضاد، والثابت مؤذن المسجد الأسود في إشارة عميقة الدلالات المتعددة، موزعة بين دفتي النص، اسمي (الحرية) منها كواحدة من تلك الدلالات، تذكرني بنصوص روائية محلية، قبضت على هذه الشعرة في نصوصها، ولم تغرق في تفاصيل الطفرة وصدماتها، ودون أن نقع في تجريد المفرد من حمولتها المقصودة في هذا السياق، كمفردة وردت على سبيل المثال عنوان لرواية ك(شقة الحرية) لغازي القصيبي دون أن نستخلص معنى للحرية فيها، فالنصوص المعنية التي عزفت على أوتار ومكونات تفاصيل جسد الوطن، وتناولت شعرة (الحرية) والعبودية في كتابة روائية لكتاب هم:
1 نورة الغامدي
2 محمود تراوري
نصوص روائية من قبل في المشهد السردي على ضالة أعداد وتوزيع هذا المنجز، عمقت السؤال بهذه المفردة (الحرية) التي يكون بها الفن حقق سمو الإنسان من العبودية والقهر، وشكلت
ثنائية هذا (الرمز) الإنساني في نصوصها، وتشاء الصدف أن تلك النصوص تمثل
أطياف مختلفة ومتنوعة بيئاتها، ولا تتشابه إلا في هذا المشهد..
وحاول النصاري يعزف عليها، ولم يدعها تفوت عليه، فقال:
سبحان الله، كيف تمشي هذه الكتلة المتفحمة بجوار هذا الكيان المشرق.
فقلت له وفي نفسي سرور أحاول أن أكبته:
(وهل أنت عنصري؟)
فأجاب باستهتار:
لا، ولكن العقل يستدعي المقارنة بين الأضداد المجتمعة، كشدة البياض وشدة السواد ثم أردف متخابثا:
وكذلك شدة الطول وشدة القصر، ص39
ولنا أن نرى هذه الثنائية لخصوصية شعرة (الخوف الحرية) خوف الذاكرة، وتحرر الكاتب الحقيقي بفعل الكتابة من خوفه.
( كان أبي كلما حكى هذه الصفة لأقاربه ضحكوا واستحسنوا الخوف الصاعق الذي غذاني به الأهل فحصنني من آفات الشارع وظللت أسيراً لقلق مبهم جعل سمعي مرهفاً يستقطب كل ماله صلة بالعالم المهيب).
والآن أكف عن هذا البوح المؤجل للفرح، فأنا أحن إلى قرب السماء وأعالي الجبال، وهوى الطيور الحرة، فقد تعبت من الخوض في (السراديب)، وعدت بالذاكرة إلى الجنوب حيث لنا هناك إرث ثقافي اجتماعي قبلي، يفرغ أحد الأبناء ليعد نفسه عبدا للبلاد، أي يعني بتتبع فصول الحرث ومواسم المطر، كأولى بواكير المبدع عبدالعزيز مشري (الوسمية) الروائية، وتتبع هذا التوظيف الجميل في (رياح المواقع) ديوان علي الدميني، (أما أنا عودت زراع وأحب البلاد، اشتريت الغرب والثور، وأقريت العداد..)، أي عبدا للبلاد يغني مع صبايا الحقول والجبال، وكقول شاعرة ذات مساء، قالت شعراً عفوياً ليلة عرسها..
أنا أتمنى يكن
ذا النكح ما سنه
نقعد مع أهلي
وكيلة دائم الدمه
ليت من يقرأ شعرها، يصغي لجرس اللغة الشعبية التي تذهب إلى حرية (المرآة الشاعرة)، وليتني بقيت عبدا للبلاد المحدودة الموارد، حينما يسعى الرجال إلى الهجرة لطلب الرزق، بدء من زمن جدي ذلك الزمن الأول حتى ظهور زمن الطفرة ي (أنصاري)، فذلك خير لي من صحبة بعض من سمو في هذا الزمان، أصدقاء كتابة وحرف.
نقطة التلاشي:
حتما نص ممتع يستحق قراءة موسعة والنظر إليها من زوايا أخرى مختلفة متى كان ذلك ممكناً، فقد حافظت على شعرة (سر) دية نقلتنا إلى الأسطح و(السر) أديب، أما أنا يا صديقي عذرا، فقد تهت هذه المرة دون توبة يا عبدالواحد، فعرضت بالمنجز السردي شعراً..
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|