بانوراما شاعر الصهيل الحزين عبدالعزيز خوجه: أسئلة تمزق اللهفة وتكثف الملائكية في شعره عبدالله الجفري
|
*أتعرفين؟!
سؤال طرحه هذا الشارع الذي وصفْتُه ب: (شاعر الصهيل الحزين)، الشادي دائماً بمزامير الوجد، والمتبتل أبداً في محراب الروح التي تتجلَّى فترتقي إلى عظمة الله عزَّ وجل، تحاول الاستئناس النفسي!
سؤال.. فاجأني بطرحه خلال أيام قصيرة عشتها بجانبه في بيروت، وفي كنف شجونه وشَجْوه.. وهو يطرح السؤال في (مسائهما) الحزين: أتعرفين؟!
هذا الرومانسي الشاعر.. الواقف كان بمحاذاة الأطلسي يطرد وراء رقصته سنوات، أثرى خلالها وجداننا بقصائد فاضت حنيناً وشجناً.. حتى ثمالة رقصة الأطلسي في وجدانه، وحتى يوم ودَّعه وهو يفيض حَزَناً:
(مرَّ يوم، ثم دهر، ثم أكثر
رحلَتْ عني عصافير اندهاشي
لم يعُد في النهر ما يغري، ويُبْهر
لم يعد في النبع حلم للعِطاشِ
والمنى كالوهم في ليليَ، كانت)!!
***
* ومن نهر إلى نهر يتنقَّل هذا الشاعر بصهيله الحزين، يقف بمحاذاة الماء، لا يدري: هل يرتقب العطش مزيداً، أم أن (الحلم) في ركضه وتأملاته هو: العطشان؟!
* قلت له في لحظة الاطمئنان عليه: من يوجع شاعر أشجان في عمق الإنسان؟!
ضحك الشاعر عبدالعزيز خوجه، إلا من مسحة حزن جللَّت الصوت العابر من أبعاد الوديان!
قال وهو يتخطى الاجترار في حياة الناس اليوم: دعني أولاً أُوجِّه التفاتة للشجون التي بتنا نعاني من وجعها، ونقترب ما أمكن من ثروة النفس: إيماناً بيقين، وتوهُّجاً بخفقة قلب صادقة لا تخون.. لا يُقيِّدنا عصر الانكسار، بل يشدنا (الحب) لنمحي به ليل الخوف والحسد، ونُطلع به نهار الحقيقة وجمال الحرية... فتَنْعتق أرواحنا من الظل إلى شمس الحب.
في شعر عبدالعزيز خوجه: نجد (التراث) متجدداً، أو متعاطفاً مع الوجهة نحو التجديد، بإضفاء إنساني يُشكِّل جمال الصورة الشعرية، ويرسي تركيبة الشعر وهو يُصوِّر (معنى) قد خلَّصه من الاستغراق الذاتي منطلقاً به إلى فصاحة اللغة التي يصور بها: تجربة إنسانية!
الكون كله في شعر عبدالعزيز خوجه: لغة جديدة متجددة، لكن (الحزن) يصبغ هذه اللغة حتى يفزع قارئه أحياناً... وحين كنت أقرأ بعض قصائده التي اختتم بها (مرحلة) رقصة الأطلسي في تجربته افنسانية: بادرت بالاتصال به هناك في (الرباط) وهو يحزم حقائبه متجها إلى بيروت سفيراً لوطنه.. وسألته قلقاً: هل أنت بخير؟!
حرص أن يجيب على سؤالي من شعره، مردداً:
(من أين بدأنا؟!
لا ندري.. وكأنا ذرات في فُلْك تجري
وكأنَّا تيار في تيار يسيري)!!
كانت (التجربة) في شعره بحجم صدر الإنسان فيه، وكان الصدق في تصويرها: لم يكن نوعاً من الاستسلام للحزن الذي يكاد يصبغ قصائده، بل كأنه في كل تجربة يتفوق على (الحالة) برغم كل صدقها ويبلورها: صورة شعرية بحاسة مبهرة: يحياها حتى الثمالة ولا يُهرِّبها خارج الإنسان فيه!
هناك إذن جمال يرفض التواضع في الانكسار الذي يصيب اللحم أحياناً.
وهذا الجمال.. يرنو إليه الشاعر وكأنه (نجمة) رغم ما يفصح عنه وميض هذه النجمة:
(نجمة لاحت على أفقي وغابت
تركتني في المدى وحدي شريد
بعدها.. لابعدها شيء جديد
لم يعد في الحسن ما يغوي ارتعاشي)!!
* ألا تُفزع هذه الكلمات صديقاً على صديقه؟!
لا أدري... ربما كانت وسادة من حرير أراد الشاعر أن يهدهد فوقها قصيدة.
لكن فزعي: كان خوفاً على هذا (الصديق) الذي تنغل محبته في وجداني، وأعرف عمق رقته، ورهافة مشاعره.. وقد جمعتنا معانٍ أصيلة من ندرة الصداقة (الثابتة) الوفية غير المتأرجحة بترمومتر المصالح، الصامدة في وجه هذا العصر الطباشيري المادي.. وقد تشبث كلانا بهذه المعاني التي أحسب أن (عشاق) الصداقة اليوم: لابد أن يعضّضوا عليها بالنواجذ!
فكيف لا أفزع على صديقي بعد استغراقي في إبعاد صورته الشعرية التي أبدعها بكل هذه الشجون فيه، وبهذا النبض الحزين؟!
في ختام حواري الهاتفي الاطمئناني مع صديقي الشاعر، قلت له ضاحكاً:
حقا يا صديقي... ما أقوى ذاكرة العشق، حتى وإن نضحت الوردة دماً!!
***
* وفي بيروت: يفاجئني شاعر الصهيل الحزين عبدالعزيز خوجه بنسخة من (ديوانه) الجديد الذي صدر عن دار (بيسان للنشر والتوزيع والإعلام)، وقد افتتحه الشاعر بنشيده الوجداني المدخل إلى قصائد الديوان، فكتب:
(لا شيء لدي... لا شيء
أو في الجُبَّة شيء
أو تحت القُبَّة شيء
تُقلقني الشمس، ويحرقني الفيء)!!
فهل تحول الشاعر في ديوانه الجديد هذا إلى: (درويش متقاعد انقطع الشارد والوارد) كما صوَّر؟!
قال عنه (الدرويش المتجول قبله) في بيروت: الشاعر الكبير محمد الفيتوري:
(إن الشاعر عبدالعزيزمحي الدين خوجه، ولربما انضم إليه عدد ضئيل من معاصريه: من شعراء اليوم الذين هم أشبه بتلك الكائنات البشرية الملائكية التي نشاهدها في أحلامنا)!!
أما الأديب المغربي أحمد الطريسي، فيعتبر أن الشاعر خوجه: (يلتقي في عنصر الحب المطلق الذي يغمر فضاء الرؤية، وفي الحلم الذي لا ضفاف له والذي تشغله ملكة الخيال، وفي اللغة التي تكشف عن المكنونات والمخبوءات)!
* في سفر الخلاص، يصوِّر الشاعر في ندائه على الخالق الأعظم قلق نفسه:
(الله، يا الله
لو تدنو إذن مني يداه
لتفجَّرت روحي من
الصوَّان سهلا من مياه)!!
هذا هو (الحلم) الذي لا ضفاف له... حلم لا يفسد ولا ينكسر كلما تعمق إيماننا بالله عزَّ وجل.. كأن الشاعر يطوي الزمن عودة إلى: التنويريين المصلحين مترسِّما صواهم، وهو يبحث في شعره المتبتل عن (المبدأ) الذي يفوق كل (نظرية)!!
***
* وفي مساء بيروت المضمَّخ بنسمة ربيعية هاربة من الطقس الصيفي القادم: قرأ علينا الشاعر قصيدته الجديدة التي ترافق ميلادها مع. هروب الندى إلى سرابه)، وقد سمَّاها: (مساؤنا الحزين)... ومع أصداء صوته الذي يترنَّم بأبيات القصيدة، كنتُ أركض متأملاً ما بين (الصوت) الذي يكتب الذاكرة في تجربة الشاعر، وبين هذه الشجون الجديدة التي أفصح عن أبعادها سؤال عريض وربما صارخ بالشجون والحنين: (أتعرفين)؟!
وقلت: إذا ما كانت (الرباط) قد طرَّز سماءها شعر هذا المترنم المكِّي، فازهرت حياته قصائد من ضوء الوجدان، ودواوين من أصداء شجونه وحزنه... فإن (بيروت): تمنح عبدالعزيز خوجه كل مساء: هذا الشجو الذي ينسجه شعراً من أحزانه الطوباوية.
لذلك.. يجيء شعر عبدالعزيز خوجه: مزمار عشق تارة، ويأتي: ربابة حزن على واقع أمته العربية، ويأتي: روحاً تتشكل في مناخات البحور الشعرية بهذا الإبداع التوأم مع إحساسه... فيفتتح أحدث قصائده:
(مساؤنا جداً حزين
أتعرفين؟!
ويهرب الندى إلى سرابه
على مفاوز الظنون)!!
ها هو يدقُّ على الثواني في المساء الحزين، كأنه يطارد المسافة ما بين الندى وسرابه، وكأنه يرسم (ذاكرة) تكاد تتفجَّر شوقاً في معاناة النفس مع الحزن الشامل حتى تتناقل ذلك الشعور العفوي الذي بلوره في سؤال غير مباشر: أتعرفين؟!
يأتي الشاعر في هذا الابتداء للمساء الحزين، والسؤال الشفاف: ملائكياً بكل أبعاد اللذة في الألم.
إن (عبدالعزيز خوجه) يكتب شعره كالحقيقة ملائكياً بكل هذا البياض في عالمه الشفاف.
ويصور الحقيقة في قصائده: إحاطة بهذا الواقع، وتكثيفاً لبوح الفؤاد في أكثر الشعور بالحب احتراقاً:
(وأطفا السماء ضوءه في ضبابه
وأشعل الظلام لوعة الحنينْ
أتعرفين لوعة الحنين)؟!
إنه (يصبُّ) أسئلته الملتاعة هنا كأنها تتناسل من مجالات تتسدَّد إليها أسئلة معاناة الإنسان حتى يخيَّل لقارئ أسئلته هذه: أنه يمزق اللهفة ويُغرِّب شدّوها، وأنه شاعر يعاني من اللوعة في المحصلة الإنسانية بعد التجربة العاطفية!
لكن هذه (العفوية) في استطراد طرح الأسئلة، تعيد للشاعر طفولة تتضح:
(أتعرفين كم مضى
على ارتشاف قبلة
وبعدها تركتني
أموت ظامئاً على الضفاف)؟!
صورة أخرى لشهيد الارتفاق على الانتظار، والجوارح تسترجع ال(كم مضى) الذي لا يتكرر، فيتمدد العطش على الضفاف... وفي هذه الصورة يتخذ الشاعر (لغة) تفوق تصوير الإحساس باللحظة لترتقي إلى محاولة تجسيد هذا الظمأ (كالعيس يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول).
وهي (لغة) للبعد الإنساني في كل ما هو (بشري) يصوره الشاعر بإيقاع يحشد فراغ الانتظار!
(وقهوة المساء قصة الألم
سكبتها، وعدت حائر القدم
فحبنا خرافة، ووجدنا خرافة
ودربنا إلى ندم)!!
***
* هكذا وضع الشاعر (تراجيديا) التجربة، بعد أن تعالت أسئلته التي ألمح فيها وكأنه ذلك (السومري) وهو يواجه الشاطئ والرمال معاً!!
وهكذا يصنع الشاعر من الندم استراحة للأسلة التي ركض بها: (أتعرفين... أتعرفين)، وقد أراد أن يبلغ مشارف الحزن، ويبرد الشغف... ليبقى في الجوارح: حنايا من حناياه.
إن الشاعر عبدالعزيز خوجه: يتفاعل دائماً مع اللحظة التي يحولها إلى كون، فيكتب ويصور الحب المطلق الذي يجعل من الرؤى: تجربة، ومن الرؤية: ضفافاً!!
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|