لإنهاك الجسد ضريبته.. ولإنهاك الفكر حصاده.. الإنهاك محصلة جهد شاق لا تتحمل قدرات الإنسان على احتماله.. أحياناً يتوقف عند حدود إنهاكه.. وأحياناً يتجاوزه إلى حدود هلاكه.. بين العمل والكسل مساحة هي الأفضل أن لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم..
ما كلف الله نفساً فوق طاقتها
ولا تجود يد إلا بما تجد
الاستطاعة محطة وسطية لا إفراط فيها ولا تفريط.. إنها الخيار الأسلم..
(مأساة المسجد الإبراهيمي) طرحها بشكل ساخر.. وبتهكمية عاقلة تأخذ بالطرف الآخر من باب النكتة التراجيدية:
مجبر أيها العربي أن ترى الشمس بالليل..
رأيناها يا شاعرنا.. رأينا الليل في وضح النهار.. ألسنا نعيش في عالم معكوس ومنكوس في مقاييسه..؟ بلى..!
إنه يعري عالمه.. ويعزي عالمه المسكون بالوجيعة وفقدان الذاكرة:
أو ما تدري أن لنا بيت لحم
|
ويافا وحيفا ومجدل والقدس والناصرة؟
|
بيت لحم أمست دون لحم.. مجرد بيت تسكنه الأشباح.. وترصده رماح المفسدين في الأرض.. أما البقية فعلينا وعليها السلام في ظل ذل الاستسلام وقهره.
(سؤال فلسطيني) اجتزئ منه زبدته.. وادع اللبن للشاربين
أيه يا عاشق الرمل.. ماذا ترى؟
هل تخلّى مضاهدة الناس..؟
حتى يخف عن الناس ضهد الموقوت
وددت لو أن شاعرنا استعان بمفردات أقرب منها إلى ذهن القارئ.. أعني مفردة (مضاهدة) ومفردة (الموقوت).
هل من العدل أن تصلب العدل في عالم
يستوي فيه أن عشت محترماً أو لهوت
ويسترسل في نغمة إنهاك واضحة:
إن من أسوأ السيئات
أن يقطع الفقر في المرء شأواً
فيندثر الخير في نفسه
الخير من حين هو خير.. كالفضيلة من حيث هي فضيلة لا تندثر.. نحن الذين نندثر وقد تخلينا عن الخير لغيرنا وتمسكنا بالجانب الأسوأ..
(ماذا يقول الكون)..
خمسون عاماً والدماء تسيل في الأحياء
في البيداء.. في الأجواء
في الطرقات .. وفي كل الجهات
يعني النكبة.. وما تلاها.. أخشى أن تطول وتطول أعوام الانتقام.. لأن ملامح الانتصار ما زالت غائبة وغائمة.. يتساءل القرني:
من ذا يسمي الخوف إقداماً؟
ويدعو الوهن إيماناً.. وينشط في السبات؟
ما حال مسرى المصطفى إن لم تتم به الصلاة؟
حالته مصابة بالإنهاك.. والانتهاك..
شاعرنا مهموم بالقضية.. السلام المزعوم بالنسبة إليه وهم نجتره مخدوع به.. في وشمه على كف السلام يقول:
يحيى التعنت أعتى من الموت
لو صب في جبل لانصدع
بخطاب مباشر:
فيصفعنا الخصم شلت يداه
بكف نراه إذا مدها
وننهض من بعد وعثائها
نسائل حولنا (من صفع)؟
القصيدة في خطابها الشعري متداخلة.. لا هي بالنثر.. ولا هي بالشعر.. حلقاتها محتاجة إلى ربط.. وإلى وضوح أكثر رغم إجماليات أهدافها..
وعن السلام يتحدث شاعرنا:
سلامنا يمشي على أربع
معلومة أسرارها لو نعي
فربعها الأول في قرحة
يمضي لفوز الفارس الألمعي
وربعها الثاني يراد به
لستر وجه الخطة الأبشع
وربعها الثالث يبكي على
ضياع تلك الخطة الموجع
وربعها الرابع مستنفر
لكسب صوت مخلص أو دعي
هكذا يرى القضية بلا قضية:
ضاعت أمانينا سدى كلها
فأين ما نبغي وما ندعي؟
إخالها في مهب الريح تعصف بها كيف تشاء.. وفي رحمة الرعود الغاضبة تقصف بها حيث تريد.. ويبقى الأمل مصلوباً ومعلقاً إلى أن يأذن الله بصلاح دين آخر.. أو معتصم آخر يهزه صوت امرأة صار في فيستجيب له..
يرسم لنا بعض ملامح التراجيدية محمد الدرة وهو يتلقى في صدره رصاصات الغدر (من أن تقدر كلمات التوسل. ولا أحضان والده وقف الإجهاز عليه واغتيل دون ذنب ولا جريرة لأنه طفل ما زال يحلم بحرية وطنه.. وتحرير حريته:
من رأى الطفل وقد أرهبه الوغد الكريه؟!
من رآه يوم يبكي..
ويشد اليد.. والخدّ على صدر أبيه؟!
يا ترى لو أن حضنك يا أحمد لعبة
أخذت شكل رصاصة؟
ولدى والدك المقهور جعبة
ملؤها زاد القناصة..
أتراهم يرحلون..
على هذا المشهد الجنائزي يسترسل:
أرأيتم كيف أن الموت لم يقو على فصل صغير من أبيه؟
الأب الصامت ما زال كما كان حجاباً
لكنه حجاب اخترقته الرصاصات وهو يلوح بيديه صارخاً.. أبدا لم يصمت أمام هول مجزرة الجناة..
العروبة تجري دماؤها مهراقة في روحه.. يطرحها جروحاً نازفة.. ورياحا قاصفة.. إلا أنها بالنهاية تموت وسط فمه وعلى فمه:
لقد اسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
فمن السلام الكاذب إلى المسجد الأقصى. إلى سؤال فلسطيني. إلى وشم على كفن السلام. إلى مأساة الحرم الإبراهيمي. إلى السلام إلى المغدور محمد الدرة.. يتحرك قلمه.. ويحول.. هذه المرة (القدس وغزة).
يرفض الشعب الفلسطيني أن يفقد عزه
ان هذا الغاصب الممقوت قد أنس عجزه
أيها القدس الشريف يا حمى البيت النظيف
سوف نأتي ما أتى الفاروق من قبل.. وحمزة
أيها الشعب الفلسطيني يا رمز الإباء
أنت إن لم تحفظ القدس فلن تحفظ غزة
للحق.. شعب فلسطين بنضاله ومقاومته لم يتراجع.. استشهاده حياته.. ونضاله حرية مشروعة لا يخاصمها عليه أحد..
مساحة استشعاره بالوضع في عالمه العربي واسعة.. عرج على لبنان بعد حربه الطائفية. وعلى الشيشان في كفاحها من نير الاحتلال الروسي. إلى إغاثة المنكوبين.. والمعذبين تحت الخيام وفي العراء وطاؤهم الأرض.. وغطاؤهم السماء.
ألا إن الإغاثة يا رفيقي
لدى من ليس تفريق الحداثة
حداثة ماذا..؟ لا أدري!
عجيب حال أمتنا عجيب
فما من صاغر الا وعاثه
اذا ما طاب جرح في نواح
شهدنا في نواحينا انبعاثه
بين إغاثته وحداثته التي يناؤها الكثير من الخلط إلى درجة فقدان الصورة. الحداثة أخذت حيزها الأكبر.. ما دخل الحداثة في الإغاثة.. لا أفهم..!
(حلم لم تقطعه اليقظة).. عنوان رومانسي فلسفي اختاره لمقطوعته.. لعل عنوانه ينم عن بيانه.. ماذا قال؟
كان الوجود كما أراه بلا مكان أو زمن
وبه من الأشياء ما لا أستطيع لمن أحدث وصفها
ماذا رآها وبنى عليها حكمه؟!
لكنها فيما تراءت لي إذا صدق الهوى
فتن تحرضها الفتن
القبح فيها لم يدع شيئاً لمنتزع حن
فيها من الإحن العظيمة ما يذوب له البدن
هل يستقيم بموضع ردح الحنان مع الإحن
إني رأيت به الغبن
بعض مشاهده دون عنوانه.. الوجود يا عزيزي جود وسلب.. تجمد وانفتاح.. قبح وجمال.. نحن الذين نشكل بممارسات على واقع أرضه، كثير أن نجرده من كل خصائصه حتى ولو كان قاسياً في الكثير من حالاته.. ثم ماذ بين الموجود؟ الذنب ذنب المتواجدين على ساحته.. نحن!
ومرئيات أخرى لوجوده دلل بها على حكمه.. عملاق كلامه لم ولن ممنوع من الصرف.. رضيع جاء يهدي لأمه علبة حليب جرى قتله.. دواء فاسد قاتل يجلبه أصحاب الضمائر الفاسدة يحصدون أرواح مرضاهم.. قاعات سوداء عملاقة في وزنها ليس لها وزن.. بلاد أمان لا أمان فيها.. آثام تشوه بياض الأكفان. طيوراً بيضاء تستحم في الوحول.. تراب صلد يبكي ويمتص الشجن.. دماء تسفك دون ثمن .. خيول بلا رسن. ورأى أخيراً وطناً يتوسده النائمون بلا وطن.. بعض حقائق إلا أنها لا تستلب الوجود من جانبه الأبيض الطيب.
(النمو المطرد) وجه آخر من واقع وجوده الذي قسى عليه لأنه هو بعض وجوده وجوده..
اني تراثي الملامح
عن كل جوهرة أنافح
لكنني متوثب
أبغي الجديد بهمة
وبكل مرحلة مصالح
ويخلص إلى الحقيقة الغائبة:
وأعيش في شرك المشقة
والأسى إن لم أكافح
متحفز أبغي الجميل
يقابل شهم الجوارح
همسة حب لشاعرنا كن جميلاً ترى الوجود جميلاً.. نحن الذين نصنع وجودنا جمالاً أو قبحاً.. في مقطوعته تحت عنوان (أمة نائمة) يقول:
بعد أن مهد لها بمقدمة تراثية إيمانية جهادية تحث على النصرة للقيم والأخلاق
ان نحن لم نسع لتحقيقها
حافت بنا أو هامنا الوارمه
وصارت الدنيا بلا منهج
وأصبحت أهدافنا عائمه
وأمة لم تسق أعداءها
مما سقوها أمة نائمه
(الموت جزء من الحياة) هكذا يحسب ويرى.. ويرى غيره أن الموت موت. والحياة حياة.. أسميت الحياة لأنها حية دون موات.. أما الموت فلا حياة يه إلا أن يشاء الله.. ويسترسل مخاطباً طفله في مهده:
لم يزل في المهد.. من يهدي عيني للحقيقة؟
أن لا أقوى على تبيين ما خطت يميني من وثيقة
سوف آتيه بأخبار عن الشرق وأخبار عن المغرب
لن أطيق الصبر والإفصاح عن تلك الدقيقة
ربما أتيت يوماً قائلاً وبحلقي غصة
أن هذي المدار ابني لهي المدار المحيقة
أزرع الأمل في أعماق صغير كي يكبر وتكبر معه آماله.. اعط له جرعة اليقين.. ودعه بسلاح يقينه يواجه قدره ومصيره..
(نواميس في هجعة فكره) أفرج عنها شاعرنا القرني:
من هنا من منحنى الفقر أغني وأهني
للمرة الأولى غنيت. وهنيت.. وفرحنا بك فهل تبقي عليها حتى ولو كانت أمنية؟
أتمنى أن أرى حراً يقول الحق ويسكت عني
أتمنى مرة العمر في العمر لو في من ألا في خاب ظني
لماذا الخيبة.. هل كان صائباً وتمنيت صوابه.. أجمل من الخيبة أن تلقاه وقد طاب ظنك..
غير أني مغرق بالحزن.. والحيف يوافيني
وفي أحشائه من كل فن
تلك قضيتك.. ونظرتك ونظارتك التي أطمع أن تكون شفافة تمهد وتعبد الطريق الصعب.. ويعدك من جني يوحش إلى إنسان مستأنس كما تمنيت
كيف لا أصبح مثل الأنس في الشكل؟!
وفي الأفعال جنّي
بعد أن تصحو من هجعة فكرك سترى نفسك إنساناً إنسانياً يعيش هموم أناسه وأنت كذلك.
في ديوان قصائد كثيرة جديرة بالتأمل: (جزء من قصيدة حياة)، (الشعوذة)، (التفاني)، وأخواتهن كثير ولكن الدرب قصير والمحطات كثيرة.. الكارثة أن لا نقرأ الكارثة التي يخافها على بني قومه واليهود يغتالون إخوتهم ويفقأون عيونهم ويكسرون عظامهم.
ونحن الصامدون على كلام
إذا ما ناوش العلياء عيقا
عجيب حالنا فيما اجترحنا
وما نرجو به العهد الوثيقا
أحلنا الصافآت إلى الملاهي
وحولنا الجهاد إلى موسيقى
وإلى أناشيد تستنهض الهمم.. وما لبثنا أن أفرغنا تلك الأناشيد من محتواها وأبدلناها أغاني هابطة لأغنيات الطشت قال لي:
(السّح اندح أحبو) و(التفاحة)، و(البرتقالة)، و(الرمانة)، (والليمونة).. غبنا عن الوعي وغابت معنا أناشيد اليقظة.
ومن قصيدته الجميلة شعراء قتلوا المتنبي وأورد بعض شواهدها:
اندثرنا فكل صف بسيف
يطعن الآخرين وهو خواء
ما طلبنا إلا رماح عوال
وسهام، وطعنة نجلاء
في صدور الأعداء إلا درة
في صدور الذين هم أصدقاء
زاحمتنا المنون من كل فج
وتناءت بسهمنا الأنواء
نعم.. حرابنا توجهت لخراب بيوتنا.. نسينا عددنا الرابض عند الباب وانشغلنا عنه بحرب لا تهدأ مع بعضنا البعض.. لهذا انهزمنا..
وأخيراً نختتم الرحلة مع شاعرنا ظافر القرني وهو يدافع عن هويته:
أخصبت صحراؤنا
وانفتحت من الشهية
فتنافسنا عليها
وايادينا قوية..
إلى هذا الحد والأمر جيد:
وغفلنا غفلة
كادت تكون الأبدية
وخسرنا رحمة الطا
غي فطالتنا الأذية
وأخذنا نملأ الأر
ض دروساً شفوية
وكسبناها قضايانا
سوى تلك القضية
هل نسميها؟ ومن
يقوى على فقد الهوية؟
أخشى طوفان العولمة الذي يطوقنا بأمواجه الجارفة ما لم نتهيأ له بسد ثوابتنا ومقوماتنا ومقدراتنا.. الهوية بالنسبة لنا وجود لا يعفينا أن ننغلق عن عالمنا.. أن نستمد أجمل ما فيه عطاءً وأخذاً.. وأن تهتز شخصيتنا وتذوب في مجرى المحاكاة والتغريب لأن لنا تاريخاً يجب أن لا نخسره.. وإلا خسرنا أنفسنا.. ومعاذ الله أن نقدم على خطوة لا ثمن لها إلا الخطأ..
* الرياض ص ب 231185
الرمز 11321 فاكس 2053338
|