المناهج الألمانية في دراسة الثقافة العربية تجربة خاصة أ.د. فالح شبيب العجمي *
|
قبل ربع قرن جلس بجانبي أستاذي القدير عبد العزيز المانع، وكان حينها رئيساً لقسم اللغة العربية في جامعة الرياض، وأسرّ إلي بعبارات ضمنها رغبة القسم في ابتعاث أحد معيديه إلى ألمانيا للتعرف على المناهج الألمانية في دراسة اللغات السامية والأدب العربي، والتفاعل مع ذلك التراث الألماني العريق الذي لا يمكن معرفة كنهه عن طريق الترجمات التي تنقل إلى لغات أخرى ومنها العربية. وقال - كعادته - في عباراته الودودة التي يرفع بها من معنويات طلابه: إن القسم لن يجد أفضل منك للقيام بهذه المهمة.
قفزت إلى ذهني بعد انتهاء المحادثة أسماء أولئك العظام، الذين قرأت مقتطفات من دراساتهم في بعض كتبنا الدراسية، مثل: كارل بروكلمان الذي ترك آثاراً جليلة في الدراسات السامية ومناهج التحقيق والتأليف البيبليوجرافي، غير أن ما عرف به في العالم العربي هو كتابه الموسوعي الذي ترجم إلى العربية بعنوان هو (تاريخ الأدب العربي)، مع أنها لم تكن ترجمة موفقة للمصطلح الألماني المزدوج الدلالة (Litteratur)، وقد تفاجأ العرب بقدرة المستشرقين على تتبع التراث العربي وتصنيفه على هذا الشكل الأخاذ، وربما تقترب هذه الصدمة العلمية من ناحية قيمتها في دفع البحث العلمي العربي من صدمة العرب الحضارية الناتجة عن حملة نابليون إلى مصر، ويمكننا هنا أن ننقل بعض الانطباعات العربية عن هذا الاتجاه:
(وضع كثير من علماء الإفرنج في لغاتهم تواريخ مخصوصة أفردوها بالتأليف، وبعضهم أفرد لأدب اللغة العربية تاريخاً خاصاً) (حفني ناصف: تاريخ الأدب وحياة اللغة العربية، ط 3، القاهرة، 1973، ص 4-5).
(فإن المستشرقين بدورهم خاضوا في دراسة اللغة العربية، معودين إياها على هذا الدرس، بفضل الكتب الكثيرة التي ألفوها حول تاريخ آداب اللغة العربية) (جورجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، القاهرة: الهلال، 1911، ص 3-8).
(ولم يزل تاريخ الأدب على تلك الحال من النقص في بعض وجوهه وانتشاره على غير شخصية قائمة في بطون الكتب، إلى أن هب المستشرقون يضعون أسسه، ويرفعون قواعده.. حتى أوصلوه إلى صورة متميزة قائمة، فإذا هو كما نراه الآن علم ذو نظام وترتيب وتقسيم وتبويب) (السباعي بيومي: تاريخ الأدب العربي، ط2. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1959، ص 12)، (ولعل أهم من أرخوا لأدبنا.. بروكلمان في كتابه (تاريخ الأدب العربي)، ونسج على منواله جورجي زيدان في كتابه المسمى (تاريخ آداب اللغة العربية)) (شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي. القاهرة: دار المعارف، 1960، ص 11).
(كان - حسن توفيق العدل - يدرس تاريخ آداب اللغة العربية على طريقة المستشرقين، في السنوات الأخيرة من القرن 19) (حمدي السكوت: أعلام الأدب المعاصر في مصر. القاهرة: الجامعة الأمريكية، 1975، ص 19) (1).
ومنهم أيضاً برجشتراسر الذي تخصص في نحو اللغات السامية، وانتشر صيته مؤلفاً لمختصرات في النحو السامي، وأستاذاً في جامعة فؤاد الأول (1931 - 1932) يحاضر في أصول نقد النصوص ونشر الكتب. وربما ننقل اعتراف أحد أبرز المحققين العرب وهو إحسان عباس بفضل ذلك الرجل بقوله: (وتظل الكراسة التي تضم محاضرات برجشتراسر أكثر ما كتب في الموضوع (التحقيق) فائدة وأشده اتساعا وعمقا وإثارة لاحتمالات جديدة، لأنها لا تكتفي بوضع القواعد المجردة...)(2).
كما تعمق نولدكه في دراسات القرآن والشعر العربي، وأسس منهجا يبين عن معرفة عميقة بأسرار العربية، وبالقواعد الكلية التي تحكم قول الشعر وتوصل إلى مقاصده، وله من الدراسات المتميزة المتعلقة بحقبة العربية الكلاسيكية ما يحتاج إلى إعادة جميع وتصنيف، وقد قام شبيتالر بجزء من هذه المهمة في تحقيقه لتعليقات نولدكه في كتاب القواعد الذي طبع سنة 1963م.
أما يوهان فك وفولرز وريكندورف فأعلام اهتموا بتاريخ العربية وجذورها ومراحلها ولهجاتها ومستوياتها، وكل ما له صلة بأطر الدراسات اللغوية المطبقة في ذلك الوقت. كما أولوا عناية كبيرة لخدمة قواعد اللغة العربية في أطرها الفعلية، وليست المتخيلة، والمبنية على نصوص اللغة نفسها، وليست الأقيسة المنطقية اليونانية التي سار عليها النحو العربي المعياري.
ولم يكن يدور بخلدي أني سأكون حفيداً روحياً للأول (بروكلمان)، أتصفح سفريه الخالدين في الدراسات اللغوية السامية - وهما مرجعان في كثير من حلقات الدرس المتعلقة باللغات السامية ولهجاتها - وأنظر إلى الفارق الزمني واشتباك الأجيال في قسمات وجه أستاذي ايفالد فاجذر الذي كان يجلس يناقشه ويستشيره، كما أتأسى به الآن وأظن ذلك هو ما أراده أستاذي عبد العزيز المانع.
كما لم أكن أعرف أن المعهد الذي التحقت به كان يديره إلى وقت وفاته العلامة الأخير ريكندورف، فخلفه بعد موته أستاذي فاجذر في إدارة المعهد، واستلام إرثه مع الإشراف على المجلة العريقة ZDMG التي أصبحت لاحقاً DMG.
ما الذي وجدته بعد ذلك؟
كان الجو العلمي والسياسي والاجتماعي قد بدأ بتغير وتبعاً لذلك شهدت ساحة الدراسات الشرقية أيضاً تغيرات كبيرة على مستوى البشر والتخصصات والاعتمادات المالية والتوجهات البحثية. ربما كنت محظوظا، لأن أستاذي كان من صناعة الجيل السابق، وقد ساعدني تنوع تكوينه العلمي في الاطلاع على مسارات يصعب أن يجدها المرء في مكان واحد، وأثر في تواضعه الجم، مما جعلني أُقبل على ما يقول بشغف، وأبحث عن مصدر تلك الرفعة التي تجمع العلم الغزير وسعة الاطلاع مع خلق رفيق وتواضع شديد.
غير أن مرحلة العلماء الموسوعيين كانت فعلاً قد ولت، وربما تكون التطورات العلمية قد اقتضت ذلك. حيث توسعت التخصصات، وتطلبت كثير من العلوم مهارات يتم اكتسابها بعيداً عن الحقول العلمية المجاورة، من أجل صقل الدارس استعدادا لمتطلبات الحياة العملية. كما واكب ذلك كله تغير في أمزجة الناس، وخاصة الشباب منهم في أوروبا - وألمانيا الغربية في تلك الحقبة على وجه الخصوص - فلم تعد روح المثابرة التي عرف بها الألمان تسيطر عليهم، بقيت تلك الصفات المميزة مثلا عليا في ثقافته من ولكنها لم تعد سمة إثنية لهم، كما كانت في جيل الحرب العالمية الثانية وما قبلها.
وكما ظهرت بوادر الأمركة أو العولمة في شرائح الشباب على وجه الخصوص، وبدت مؤثرة في توجهات المجتمع، فقد تأثرت أيضاً المناهج العلمية لدراسة الشرق بذلك الجو، فبدأت معاهد الاستشراق تتقلص واحدا بعد الآخر، وحلت بدلا منها أقسام تعنى بثقافات محددة، فبعضها ركز على ثقافة الشرق الأقصى (الصين واليابان وكوريا)، وبعضها اهتم بجنوب آسيا (الهند والجزر الإندونيسية)، أما ما كان منها يهتم بالثقافة العربية - الإسلامية فقد بدأ يتجزأ إلى مناطق اهتمام ببلدان محددة، وما كان يهتم بالإسلام أصبح محصورا في إيران والحركات الإسلامية الحديثة. أما مصطلح الاستشراق (بمعنى الاهتمام بالشرق العربي) فقد اختفى تقريباً، وحل مكانه مصطلح الاستعراب.
هذا لا يعني - بالطبع - أن العلماء الذين كانوا يتبوأون كراسي الأستاذية في تلك المعاهد قد تحولوا مع هذه السياسة إلى التسطيح وثقافة التفتيت. فمن بعض العلماء الذين يوصفون بأنهم مستعربون نجد اهتمامات واسعة بنواحٍ متعددة في الثقافة العربية، من مثل فيردر ديم الذي تنوع اهتمامه بين الدراسات الصرفية والتركيبية للعربية، والتعمق في بعض المقارنات بين اللغات السامية المشتركة في بعض الظواهر اللغوية، واستكناه خصائص الدلالة في نصوص العربية، وكذلك الاهتمام ببعض مستويات العربية المختلفة، بالإضافة إلى جهود في دراسة البرديات العربية ونشرها.
وفي حقبة الثمانينيات من القرن العشرين ظهرت موسوعة الدراسات الفيلولوجية في العربية، وقد أشرف على الجوانب اللغوية منها فولف ديتريش فيشر، وأشرف على تحرير الجوانب الأدبية هيلموت كيتيه H.Gatje وهي من الدراسات التي تذكر بدراسات العمالقة الذين جلبوا لألمانيا صيتاً لا يضاهى في دراسات الشرق، ويضاف إلى صيتهم العالمي في مجال الإنتاج الفلسفي.
يبقى سؤال لا بد من الإجابة عنه: كيف يجد الطالب نفسه في ظل تلك المناهج وفي تلك المعاهد؟ الحقيقة أن الإجابة عن مثل هذا السؤال تدعو المرء إلى أن يتحدث عن نفسه، وهو ما لا أحبذه، لكن الموضوع يمكن أن يتحول إلى نموذج للدراسة ضمن تلك المناهج، خاصة أن دعوة مركز الملك فيصل كانت تتضمن المشاركة بورقة عن (تجربتي في دراسة العربية في ألمانيا).
وفي الواقع أن الموقف له شقان أحدهما يتعلق بما وجدت نفسي فيه من اختلاف جذري في المناهج، وما لمسته من حاجة إلى إعادة التكوين، وتغيير أطر التفكير لكي أتماشى، ليس مع مواد المعهد ومناهجه في التخصص الرئيس فحسب، الذي يعرف القائمون عليه أطر التفكير الشرقي وإيقاعاته، بل أيضاً مع الزملاء والأساتذة في تخصصات فرعية أخرى يكون المرء فيها مجهولاً، ولا يشكل سوى عنصر واحد من عناصر كثيرة أتت من تخصصات مختلفة.
وفي هذا الشأن ربما يكون كتاب ريتشارد نيسبت The Geography of thought، وإبراز عولمة الثقافة الإنسانية. وهي أفكار وإن كانت ذات صبغة أنثروبولوجية قديمة تعود إلى نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، إلا أن لها ما يبررها في صراعات الفكر الحديث وتباين مناهجه.
أما الشق الآخر فيتعلق بطريقة الحياة التي كان يجب أن تتغير، من أجل أن يستدرك المرء ما ينقصه لفهم تلك المناهج، ومن أجل الاستمتاع - وأشدد على كلمة الاستمتاع - بما توفره البيئة العلمية هناك. فكل الهم محصور في مواصلة البحث عن كل ما يكمل جوانب الصورة في المشروع الذي يبحثه المرء في حينه، أو في الموضوعات التي تتعلق بالسيمينارات المكملة. يُصرف الوقت - جميع الوقت - في داخل الجو العلمي، ويعيش المرء أغلب وقته داخل المكتبة، يقلب أعداد الدوريات العلمية، ويتنفس غبار الكتب متكئاً على الجدار في أحد المسارات الطويلة الضيقة أو على أحد الرفوف بقرب مصدر إنارة يُرى من خلاله في زوايا المكتبة المظلمة، بمعنى أن المرء يبقى - فيما عدا وقت نومه وأكله - في جو يضطر مع الزمن إلى عشقه، ويصبح في ذلك العشق مماثلاً للمتصوفة في خلطهم بين العمل والمشاعر، أو العمل بمشاعر، وهو ما قد أكون ندمت عليه مع العودة إلى الجو القديم، وصعوبة بل استحالة الخلاص منه، كما يضحي الصوفي بحياته من أجل مبادئه.
* رئيس قسم اللغة العربية - جامعة الملك سعود
****
الهوامش
(1) انظر: سعيد علوش: مفهوم تاريخ الأدب في أعمال المستشرقين. مؤتمر النقد الأدبي الرابع في جامعة اليرموك بإربد، 6-8/7/1992. ص1.
(2) انظر: إحسان عباس: مناهج استشراقية في نقد النصوص وتحقيقها، ص11.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|