ضحوة - من ضحايا (العم الحسن) -2- نايف فلاح
|
كرّ يصوِّت على (الدرش) فلباه (بوبو الشنقيطي)، لينال ما ينبغي أن يكون نصيب الأول من النهر والزجر دون فرصة يعرض فيها دفاعاته عدا ردات فعل لا تتعدى بي هز كتفيه وغمغمة في كلمات يصعب فهمها محاولاً إيجاد صيغة ما يؤكد عبرها على أن ما لحقه كان جديراً بأن يلحق (بالدرش)، لكن العجوز يدمغه بطلب يلتمس فيه كتاباً أحمر (الإمتاع والمؤانسة).. إنه على الترابيزة، هيا عجّل..!
بارح (بوبو) المكان بينما (الدرش) في مقدمته نحو العجوز، انشزر (بوبو) من (الدرش) بطرف تتطاير منه النذر، وقاومه الأول بنظرة لا تنشد، إذا نشدت، إلا السلامة.. وصل (الدرش) إلى العجوز في سرعة مزعومة وتهدج وتشمير يناسب شخصاً انصرف عن عمل شاق وأهدر أمراً هاماً في سبيل المنادي.. وهذا ضرب من الدعاية يحوكها حول نفسه إذا ما رغب شيئاً من أحد، ويتخذ منها دريئة يتقي بها سخط العجوز وتوبيخه، وهو أسلوب (الدهن من قارورة فارغة) كما يروق (للدرش) أن يصفه لذلك وطّأ اللقاء بإجابات صوتية أرسلها من بعيد.. إيوه يا عم حسن.. أمرك.. واقفاً أمامه وقفة من ارتطم في جسم صلب ثم ارتد عنه قليلاً،.. إيوه يا عم حسن.. يمتط فم العجوز عن بسمة مرة، فهم (الدرش) دوافعها، فصمت مفاتشاً دهاءه عن مدخل آخر يتوسله، فيما كان (العم حسن) ينشر خياله في أهوية الشارع.. لهذا تحرّك أو أنه أوحى بهزة تدخل في باب (مكانك سر)، تؤذن بالذهاب ملتمساً من العجوز كلمة أو همسة يتخذها تعله ينساب منها إلى الرضا، غير أن سكون (العم حسن) كافٍ لتقهقره حيث تنحى في أدب ومكر شديدين طاوياً العزم على عود أحمد وكسب أرجح.. وما ان زايل موقعه حتى بعث له العجوز، من باب جبر الخواطر، كيفك (يا درش).. وعلى عكس اللياقة يبادهه الأخير، زفت والحمد لله.. سبيله سبيل من توافرت له فرصة أداء دور آخر أو غنيمة مرتقبة، لكن لم يظفر من (العم حسن) ولو بنزير بال، فهيهات أن ينساغ عليه مفهوم تلك الإجابة، وهيهات أيضاً أن يفوت (الدرش) فرصة كهذه..
خلة (الدرش) هذه هي التي أزلفته من بين خلال غيرها عند (العم حسن) وبالتالي أنزلته مكان الثقة منه، لكنها ثقة كالتي نظمها الراجز في قوله (مرسومة محددة، مشروطة مقيدة)، فهو حسب تصنيف (العم حسن) ثقة مزاجها من تشكيك، وهذا حكم قطعت به خلطة دامت قرب الثلاثة عقود، أمسيا فيه مع المطاولة والملاعبة يجسان حتى تداخلات الصمت أثناء الحديث.
ما حدث أنه لم يبال بإهمال (العجوز) ماضياً في الكلام، آه يا عم حسن، والله الزواج يتعب، مصاريف، وأطفال،.. وخليها على الله.. ويظل السكون عنوان وجه العجوز.. ومن مدخل قريب يقاول (الدرش)، والله ورطتني يا عم حسن في هذي الزواجة.. خلاص طلِّق!!.. والعيال يا عم حسن؟.. اقتلهم؟!!.. حرام يا عم حسن!!.. ومن غير مناسبة باعثة أو تمهيد معلن ينفجر ساكن العجوز عن غضبه! علا فيها الصوت (وهي في كلامه طريقة من طرائق الاستطراد) إذ قال، اسمع (يا واد) قالوا لجحا: حمارك رفاس.. قال اللي فوقه ابن (..).. نهايته ابلع لسانك وجهز لي (التعميرة).. وباختصار لا أراني اليوم منخدعاً لأحد أي أحد..
ينهزم (الدرش) وعزمه ما زال معقوداً على إعادة الجولة، لأنه يتيمّن بمغاضبة العجوز، ويصفها بالرعد الذي بالكاد يعقبه المطر..!!.
حدث كل هذا و(بوبو الشنقيطي) يتجسس على الحوار وفي مرجوه أن يجد الذي يشبع الشماتة فيه علّ ما يرد اعتباره.. ولم يكن..، فتقدم نحو العجوز بالكتاب، يا عم حسن، تفضل.. اجلس واقرأ.. عندي مشوار.. طب مع السلامة.. المعلوم يا عم حسن.. إيوه إيوه، يتعوَّذ من الشيطان الرجيم، حالما يدخل يده في ثوبه ويخرج معها حزمة (ريالات) من فئة الخمسة وبحذر مركز يسحب (خمسة) وينقلها له.. شكراً يا.. اقلب وجهك..
همَّ في قراءة الكتاب، والسلامات تستأنف إرسالاً دورتها.. يفتح الكتاب يضغط عينيه حتى تبلغ رؤيته الكتاب.. ويرفع رأسه راداً تحية ما،.. يعود ضاغطاً على عينيه مرة أخرى.. ومن سكوت يأتي الدرش (بالشيشة) ولا يهتز له العجوز متابعاً صلته من الكتاب يغيب فيه، ليفيق على صارخ بالسلام من وسط الشارع، يمط السلام والنداء، سلاااام يا عم حسن.
ويدني من (العجوز) وفمه يطرد شعراً حتى يقبّل رأس العجوز ويمناه، وللشعر ركض في فمه، حتى يصل إلى:
فأهب من عبثي وأوقد (لمبتي) وأظل أقرا
وأقلب الأوراق لم أقرأ من الصفحات سطراً
والله إنك شاعر (يا عم حسن)، وابن أمه ما قال الذي أنت تقوله.. يقاطعه العجوز والحق أنه يقطع عليه مديحه، فهو في لقاء المدائح يغدو طفلاً لا يتقن من الكلام سوى المسعف منه.. كيفك يا معاذ.. لا تسل (يا عم حسن) حالنا من حالك، كيفك أنت؟... الحمد لله، احتمال أكمل سنة!! ويردفها بضحكة هازئة.. يتأثر (معاذ) مستشعراً حال بثينة.
سواء علينا يا جميل بن معمر
إ |
ذا مت نعماء الحياة وبأساها
|
. أكرمك الله يا بني، هيا هات ما عندك، وما هذا بيمينك؟... ديوان شعر، لشاعر يمني، شاعر ابن (....) فلتة والله لو كان شوقي حياً لانتحى أي فن غير فن الشعر،... لا، لا، ما هكذا يا معاذ يؤتى الشعر، كل شاعر وله افتنانه، وله حسه، وله.. يقطع عليه معاذ.. كلامك حلو يا عم حسن، إلا أنني حيال هذا الشاعر لا أحسب كلامك، بل وكلام النقاد سوى ضرب من التنظير الخام.. يوافقه (العم حسن)، على رأيك، فالواحد منا ربما يتحذلق ويزعم أنه أبداً، لا يتبع أفعل التفضيل، وهو في الوقت ذاته يختزن جوانبه الأفضل بالنسبة إليه على أقل تقدير.. هيا يا (معاذ) هيا اسمعنا.. فصارت الأبيات تتعاقب، والقصيد يتتالى، حتى يتعكر الجو بمن يستلم رأس العجوز في مبادلة (للكفحلة) وقبل أن يأخذ مجلسه، آلياً تدخل اليد وتخرج (الخمسة) يضيق (معاذ) بهؤلاء، فهو يسمع منهم قالة السوء في (العم حسن) يسلقونه بها، وهم يستدرون نواله ثم ينعتونه بالبخل والتقتير!.. ففي خلوته أو في صمته ينفث التعجب منهم، ويبعثر الأسئلة.. كم سنة و(الخمسة) راتب يومي؟! هذا فضلاً عن قيامه في كل نائبة عليهم قياماً لا يقوم به الأوصياء!!
.. يطلب العجوز منه المواصلة، إيوه يا معاذ.. اكمل.. يعود معاذ إلى الصفحة يحملق بعينيه، يزم من وجهه شفة، تتقلص حتى تغدو وكأنها لقمة على أهبة الابتلاع، لكن العجوز يستطرد، مستعيداً وجه معاذ إلى حالته حيث ينبهه بقوله، اسمع يا ولدي تبقى الكلمة حال كتابتها خرساء ما لم تكن في عيالة الصوت وأنظمته، ولا مثل الكلمة الشاعرة بحاجة إلى صوت يكون كصوتك أنت يا (معاذ) صوت صميمي.. صوت صادق، صوت يعربد الكلام.. أنت تشرب يا (واد)؟!.. تصاعد من (معاذ) صفير نشاز يجرح الأذن، ضحك لا يشير إلى ضحك.
(معاذ فلاتة) هذا واحد من عشرات الأبناء الأولى يربطهم بالعم حسن رابط المحبة، تلك المحبة التي من شدة صدقها، تذكر كما تذكر الأكاذيب،.. بيد أن مزية يتفوق بها (معاذ) على إخوته، هو أنه كما يدّعي، شاعر سابق استقال عن الشعر عندما ما انخرط في دنيا العجوز، ويالها من مفارقة، فإنه وقتما جاء إليه إنما قصد أن ينمي موهبته، يصقلها، يضبط ميزان الشعر على يد (العم حسن) لكن حرمة الفن في نفسه أشارت إليه أن يدع الشعر ويستحيل مثله كمثل أي قارىء مبدع إلى جانب هذا الشاعر العجوز، ومن سوء حظه كما هو من حسنه رصده لشعر العجوز أثناء ولادته، يشعر أنه في حضرة الشيطان الحقيقي الذي طالما تسامع عنه، في حضرة شيطان الشعر، فقارن هذا الشيطان بشيطانه فألفى شيطانه مخترعاً من إيحاءات القراءة وأحاديث أهل الأدب، لهذا اعتزل الشعر وأكد على اعتزاله معرفته وقراءته (للبردوني) ذلك الشاعر اليمني الذي بروعة فنه نضد وضع الاعتزال.
.. يعود ركض الشعر في فم (معاذ) ويظهر ذلك الفناء مع القصيدي على وجهه حتى يخيل إليه أنه كاتبها فيعطيها بأدائه بعداً في الإشارة، وتنغيماً في الإيقاع، ولما كان للشعر عند الفرزدق سجدة كذلك كان للشعر عند (معاذ) قفزة بل ويتعدى الأمر القفز إلى تطوُّح في الشوارع لا يباعده تطوُّح السكارى.. يطلب منه العجوز، بلفظ كالرجاء، التوقف قليلاً ريثما تمر سيارة النظافة (البلدية)، فيأتي في السانحة (السمعة) مبدلاً الوضع من قراءة جادة إلى مزاح صاخب، الضرب والرفس أصل من أصوله، فهذا شأن (السمعة) الذي يصفه أحد أصدقائه بأنه صديق مراحل، في مقام يجعل لكل شخصية مرحلة إن لم تنته الصداقة فيها أو تتناقص معانيها فمن الشاذ، إذن، أن تتزايد ما عدا (السمعة) فإنه بحق صديق مراحل، صديق الصمود.. وجهه المحايد هو أبرز دفاعاته، إياك إياك تحاول يوماً استنفار مشاعره أو استظهار بواطنه، فإنك ان فعلت فلقد طلبت عسيراً.. أجل وجهه ليس مفتاحاً عليه إنما هو للاستخدام الشخصي، إن صح الوصف، لا ينحلك تعبيراً ولا يهديك محبة كلا ولا حتى كراهة، إنه كالفكرة المتنائية فيها غموض المستقبل.
مزاح (السمعة) ما انتهى إلا حينما امتلأت العتبة إلى حافتها، فهذا (البخاري) يتمنى (دوزنة العود) وهذا البناء (عنتر) يستوفي أجره، وهذا (البدوي) يسأله عن حكم نحوي، وهذا (اليحيوي) يشفع لغريب، وهذا يريد...، وهذا يستنقذ..، وهذا يطور...
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|