أعر اف ينابيع الذاكرة: سعدي الذي عرفت (3) محمد جبر الحربي
|
يمتلك سعدي يوسف عيناً مدربةً ذكيةً تلتقط أدق التفاصيل، وترسمها قصائد تعبرعن مواقفه وآرائه ونظرته للحياة كما هي، وكما يشتهيها.
أي أنه يمتلك إبداع المصور والفنان التشكيلي.
فهو يلتقط ويرسم قصائده..ثم وبلغة صافية عذبةً طيّعة، دافئة رقيقة، رغم حدة مضامينها أحياناً، تشبه البوح الهامس..يرتقي للغناء.
والذي يزور بعض الأماكن التي أوردها سعدي في قصائده كالمطارات والمقاهي سيجدها كما صورها تماماً. وهذا ما تحققت منه منتظراً لساعات في مطار أثينا.. عندما قلت بصوت سمعه من حولي ولم يعوه: يالك من شاعر فذ.
إنها القدرة الهائلة على التقاط التفاصيل، والعادي واليومي لصياغة المعاني الكبيرة، فسعدي المسكون بالشعر والغناء والحزن والغربة لا يمر على الأماكن مرور الشعراء الفوضويين الذين يجردون الأماكن من تفاصيلها الجميلة، وحتى من ناسها، ليضعوا تماثيلهم ومراياهم، ويلغوا موسيقاها بأصواتهم وضجيجهم... سعدي ينساب مع الأماكن ويذوب فيها، ويخرج منها بها. لكأنه يعوّض الغربة بالالتئام، وبالتشبث بالتفاصيل بجعلها جزءاً منه ومن قصيدته ومن استعاداته، بمحاكاتها بفضائه الأول، وسمائه الأولى.
ولعله ترجم (ريتسوس) على هذا الأساس. ففي ترجمة ريتسوس لا تفارقنا روح سعدي، وربما قلنا إنه يترجم لشاعر يعرفه جيداً حد الصداقة والتشابه..
والواضح أنها هي نفس حكاية سعدي مع الأماكن، إنه الشاعر الذي يعطي للأماكن والشخصيات من روحه ومن عينيه العارفتين القادرتين على اصطياد التفاصيل واللحظات أيضاً.
والمفارقة هنا أنه رغم الغربة والخيبات إلا أن سعدي كان يتآلف مع الأماكن والتفاصيل والوجوه.
والقارئ لشعره يلحظ أن سعدي يكتب كما لو كان مولوداً في تلك الأماكن، مسكوناً بشوارعها مبانيها ومقاهيها وأهلها.
فمن أين يأتي الغريب بكل هذا الحب والدفء والجمال؟! وكيف ينقل العابر ما لا يستطيع اقتناصه المقيم المستديم؟! فالمغرب العربي يتهادى في شعر سعدي من الجزائر وبلعباس إلى تونس إلى بنغازي، كذلك هو الحال مع عدن وبيروت ودمشق وبقية المدن التي ألِفَ وإن اختلفَ..
لكنه يظل وهو طليقٌ أسيرَ تلك المدينة الجنوبية..
البصرة: السماء الأولى.
وليس أبلغ من هذه الأبيات الحارقة لاختصار غربة سعدي: (حملتُ على رمالِ شمال إفريقيّةَ السعفا حملتُ الطلعَ من منفى إلى منفى وسبعاً كانت السنوات، سبعاً كانت الأرضونَ،...
...، والسماواتُ وأنتِ هنا، الرضيّةُ: سعفُك الشاحبْ سواقيكِ الصَّموتُ، وطينكِ الذائبْ وأنتِ هنا الصغيرةُ، يا أميرتيَ الجنوبيّةْ أتنسَيْنَ الأحبةَ هكذا؟ هل تقبلين تعفّن المنفى لمن قبِلَ الشهادةَ، دون وجهكِ، يا مدينتيَ الجنوبيّةْ).
واليوم، ومن لندن، يكتب سعدي بنفس الروح والحرقة وربما بمرارة أكبر في قصيدته رسالة أخيرة للأخضر بن يوسف: اليومَ حاولتُ أن أتبيّنَ ما كنتَ تكنِزَهُ آنذاك.. تُرى كنتَ تأملُ في أن ترى الموجتين وقد غدتا موجةً؟ ربّما! لستُ أدري.. وهاأنتذا تتلقّى الرسالةَ هاأنتذا تتقرّى الرسالةَ هاأنتذا....وهاأنذا
.................
.................
.................
نضربُ الصّنجَ، ثانيةً، في العراءْ.
ترى هل أغلق سعدي الباب، وأطفأ الضوء، أم أنه كعادته سيفتح في الغد كوة للنهار!!
mjharbi@hotmail.com
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|