التناص (2-2) وضحاء بنت سعيد آل زعير
|
7- أبو هلال العسكري (395هـ): اهتم اهتماماً شديداً بالسرقات، فقد وضع لها فصلين أحدهما (حسن الأخذ)، والآخر في (قبح الأخذ)(23).
وإن عُدّ أبو هلال جامعاً ومرتِّباً لآراء سابقيه؛ إلا أنه توسّع واطّرد أكثر من غيره في هذا الباب، ومن آرائه:(24)
1-أن المعاني المشتركة ملك للعامة.
2- إيمانه بتوارد الخواطر.
3- أن لا مفرّ للمحدثين من الاستفادة من سابقيهم في المعاني.
4- تفريقه بين السرق، والسلخ؛ جاعلاً أساس التفرقة أخذ اللفظ مع المعنى أو تركه.
5- أن الأخذ القبيح (السرقة) يكون في أخذ المعنى بلفظه كاملاً، أو جزءاً منه، أو أن يأخذ المعنى جميلاً ثم يفسده.
8-ابن رشيق القيرواني (456هـ): من يقرأ كتاب العمدة لابن رشيق يلحظ أنه حاول الجمع بين آراء سابقيه، والاستشهاد بها، فهو في باب السرقات يبدأ بالحديث عن مصطلحاتها، وتقسيماتها، ثم يشرع في الحديث عن بعض النقاد، ونقل أقوالهم، كالقاضي الجرجاني صاحب الوساطة، وابن وكيع، وغيرهما(25).
كما ذكر بعض مواضع الأخذ الحسن، ومواضع الاتباع السيئ، وإن كان مختلفاً عن رأي النقاد الآخرين، فهو عنده ( أن يعمل الشاعر معنى ردياً ولفظاً ردياً مستهجناً ثم يأتي من بعده فيتبعه على رداءته)(26). بينما هي عند بعض المعاصرين له والسابقين، الأخذ الكامل للمعنى بلفظه، أو جزء منه.
9 - عبد القاهر الجرجاني(471هـ)، ونظرية النظم: قبل أن يشرع عبد القاهر في الحديث عن السرقات، قسّم المعاني لقسمين:(27)
1-معنى عقلي صحيح، يشهد له العقل بصحته، وهو ما تتفق العقول على الأخذ به.
2 معنى تخييلي، وهو الذي لا يمكن أن يقال: إنه صدق، وإن ما أثبته ثابت، وما نفاه منفيّ.
ويقصد بالعقلي ما سمّاه النقّاد بال(المشترك)، أما التخييلي فهو (الخاص) الذي تعدّ السرقة فيه.
إلا أن نظرية (النظم) التي بلورها كانت أحد المثبِّطات عن السرقة، مادام كل تغييرٍ في التركيب تغييرٌ في المعنى، ولو أن السابقين تنبّهوا لذلك، لكفّوا عن الاتهامات حول الشعراء، فهذه النظرية مخرجٌ لكل من أراد إنقاذ التراث الشعري من براثن السرقة والانتحال.
10- ابن الأثير (637هـ): فرّع السرقات لأقسام كثيرة مختلفة، وتوسّع في هذا الجانب، كما أن له نظرة فنية في السرقات تهدينا لما وصل إليه نقّاد العصر الحديث في (التناص)؛ فهو يعدّ استفادة اللاحق من السابق أمرا لا مناص منه، بشرط التجديد والإبداع(28).
11- الخطيب القزويني (739هـ): جعل القزويني للسرقات بابا في آخر كتابه الإيضاح بعد انتهائه من علم البديع.
وقد قسّم السرقات إلى ظاهرة وغير ظاهرة، تكون الأولى مذمومة في أغلبها بعكس الثانية التي فرّعها كذلك تفريعات تشبه ما قام به سابقوه، فلم يضف جديداً(29).
مفهوم التناص: بداية لا بد أن أوضح أن التناص تخريج لما أسماه السابقون بالسرقات)، وأنه كان موجودا لديهم، وإن لم يعرفوه بهذا الاسم، فهو مصطلح جديد لظاهرة أدبية ونقدية قديمة فظاهرة تداخل النصوص سمة جوهرية في التراث العربي، وأوضح دليل على ذلك اهتمام النقاد بالمعاني المتكررة بين الشعراء، والبحث عن الأصالة لدى الشاعر، جاعلين مقياس ذلك قوة الإبداع والخلق، فذلك أمر (ما تعرى منه متقدم ولا متأخر)(30).
فالتناص الأدبي هو تداخل نصوص أدبية مختارة قديمة أو حديثة شعراً أو نثراً مع نص القصيدة الأصلي بحيث تكون منسجمة وموظفة ودالة قدر الإمكان على الفكرة التي يطرحها الشاعر(31).
إذن مفهوم التناص يدل على وجود نص أصلي في مجال الأدب أو النقد على علاقة بنصوص أخرى، وأن هذه النصوص قد مارست تأثيراً مباشرا أو غير مباشر على النص الأصلي في وقت ما(32).
بداية مصطلح التناص: ظهر مصطلح التناص عند (جوليا كرستيفا) عام1966م، إلا أنه يرجع إلى أستاذها الروسي (ميخائيل باختين)، وإن لم يذكر هذا المصطلح صراحة و اكتفى ب(تعددية الأصوات)، (والحوارية)، وحلّلها في كتابه (فلسفة اللغة)، وكتاباته عن الروائي الروسي (دستوفيسكي)، وبعد أن تبعته جوليا وأجرت استعمالات إجرائية وتطبيقية للتناص في دراستها (ثورة اللغة الشعرية)(33)، عرفت فيها التناص بأنه (التفاعل النصي في نص بعينه)(34) ثم التقى حول هذا المصطلح عدد كبير من النقاد الغربيين وتوالت الدراسات حوله، وتوسع الباحثون في تناوله، وكلها لا تخرج عن هذا الأصل، وقد أضاف الناقد الفرنسي (جيرار جينيت) لذلك أن حدد أصنافاً للتناص.
وبعد ذلك اتسع مفهوم التناص، وأصبح بمثابة ظاهرة نقدية جديدة وجديرة بالدراسة والاهتمام، وشاعت في الأدب الغربي، ولاحقاً انتقل هذا الاهتمام بتقنية التناص إلى الأدب العربي مع جملة ما انتقل إلينا من ظواهر أدبية ونقدية غربية ضمن الاحتكاك الثقافي، إضافة إلى الترسبات التراثية الأصيلة.
أشكال التناص: إن العمل الأدبي يدخل في شجرة نسب عريقة وممتدة كالكائن البشري.
فهو بذرة خصبة تؤول إلى نصوص تنتج عنه، كما أنه نتاج لما سبقه حاملا معه بعض الصفات الوراثية ممن قبله.
وتختلف هذه الاستفادة إما بالكتابة عن النص ذاته، أو بتفجير نص آخر في نفوسنا ينشأ من تفاعلنا مع النصوص المقروءة(35).
يختلف تداخل نص مع نصوص سابقة، ويتنوع بحسب الاستفادة، فللتناص أشكال متعددة، منها:(36) التناص القرآني: بحث يقتبس الأديب نصاً قرآنياً، ويذكره مباشرة، أو يكون ممتداً بإيحاءاته وظله على النص الأدبي، لنلمح جزءاً من قصة قرآنية، أو عبارة قرآنية يدخلها في سياق نصه.
التناص الوثائقي: وهذا النوع في النثر أكثر منه في الشعر كالسرد والسيرة، فيحاكي النص نصوصاً رسمية كالخطابات، والوثائق، أو أوراق أخرى كالرسائل الشخصية والإخوانية؛ لتكون نصوصهم أكثر واقعية.
التناص والتراث الشعبي: وتكون المحاكاة فيه على مستوى اللغة الشعبية، وهذا مما يؤخذ على بعض الأدباء، إضافة إلى الاستفادة، وتوظيف القص الشعبي، والحكايات القديمة، والموروث الشعبي.
التناص والأسطورة: وهي تتشابه مع سابقها من ناحية الاستفادة من التراث، لكنها تختلف من ناحية أن الأسطورة غالباً ما هي موروث؛ لكنه يوناني، أو غربي، وإن كان هناك بعض الأساطير العربية، إلا أنها قلة مقارنة بالغرب.
أنواع التناص:
تناص مباشر(تناص التجلي) أو غير مباشر (تناص الخفاء).
أما التناص المباشر فيدخل تحته ما عُرف في النقد القديم بالسرقة و الاقتباس، والأخذ والاستشهاد والتضمين، فهو عملية واعية تقوم بامتصاص وتحويل نصوص متداخلة، ومتفاعلة إلى النص.
ويعمد الأديب فيه أحياناً إلى استحضار نصوص بلغتها التي وردت فيها، كالآيات القرآنية، والحديث النبوي، أو الشعر والقصة(37).
أما التناص غير المباشر فينضوي تحته التلميح والتلويح والإيماء، والمجاز والرمز، وهو عملية شعورية يستنتج الأديب من النص المتداخل معه أفكاراً معينة يومئ بها ويرمز إليها في نصه الجديد(38).
ويحلو للبعض تفريعه بإيجابي وآخر سلبي، ويقصد بالأول إنتاج أفكار قديمة بأسلوب جديد، أما السلبي فهو كالصدى المكرر للنص الذي سبقه(39).
إلا أن جميع هذه الأنواع تعتمد على فهم المتلقي، وتحليله للنص(40).
الاقتراض:(41) اشتق هذا المصطلح من الفعل: قرض.
(42) وتكون بمعنى مضاعفة المردود، كما في قوله عز وجل: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً)(43)؛ إذ يقترض النص الأدبي من النصوص الأخرى ليبرز جوانب جديدة، ويخلق نصاً له إسهاماته المضاعفة عما كان عليه المقترَض منه.
وقد تكون من (قرض) التي بسورة الكهف، في قوله تعالى:{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ } (17)سورة الكهف (44)، التي تأتي بمعنى التجاوز؛ فيتجاوز المقترِض المقترَض منه، ليأتي بقيم وعناصر جديدة لم توجد في الذي قبله.
ولقد تفرّد بهذا المصطلح الدكتور سعد أبو الرضا، استهواني أكثر مما يتداوله النقاد العرب مقتفين أثر نقاد الغرب (التناص)، فقد أتى (الاقتراض) كاشفاً ودالاً على هذه الفكرة، بلباسنا العربي وهويتنا الأصيلة.
wadha88@hotmail.com
*****
هوامش
(23) انظر: الصناعتين لأبي هلال العسكري، ت: علي البجاوي، محمد أبو الفضل/ دار الفكر العربي ط2 د.ت:1- 202-244 .
(24) للاستزادة: انظر مشكلة السرقات في النقد العربي: 111-112، وتاريخ النقد الأدبي عند العرب، د. عبدالعزيز عتيق/ دار النهضة العربية - بيروت ط3 1393م: 336-337، وأدبية النص د. صلاح رزق/ دار غريب - القاهرة د.ط 2002م: 118 .
(25) انظر: العمدة في نقد الشعر لابن رشيق القيرواني، ت. د. عفيف حاطوم/ دار صادر - بيروت ط1 1424هـ: 2- 531-532 .
(26) السابق: 2-541 .
(27) انظر: أسرار البلاغة لعبدالقاهر الجرجاني، ت: محمد شاكر دار المدني - جدة ط1 1424هـ: (263-265).
(28) انظر: المثل السائر لابن الأثير، ت: محمد محيي الدين عبدالحميد/ المكتبة العصرية - بيروت د.ط 1420هـ: 2-342-343، ومعالجة النص: 47، والسرقات الأدبية، د. بدوي طبانة دار الثقافة - بيروت د.ط 1986م: 146 - 147
(29) انظر: الإيضاح للخطيب القزويني ت: عبدالحميد هنداوي/ مؤسسة المختار - القاهرة ط11419هـ: (349-358).
(30) الموازنة للآمدي: 311 .
(31) انظر: التناص نظرياً وتطبيقياً، أحمد الزعبي/ مؤسسة عمون للنشر - الأردن ط2 2000م: 50 .
(32) انظر: قاموس مصطلحات النقد الأدبي المعاصر د. سمير حجازي/ دار الآفاق العربية ط1 1421هـ: 74، و مقال التناص في الشعر، محمد عزّام مجلة الموقف الأدبي - دمشق ع 368 س 31 رمضان 1422هـ: 31 .
(33) انظر: الخطيئة والتكفير، د. عبدالله الغذّامي/ الهيئة المصرية العامة للكتاب ط4 1998م: 325-326 .
والتناص: المفهوم والآفاق، باقر جاسم محمد/ مجلة الآداب - بيروت ع7-9 1990م: 65 .
(34) أحد كتبها غير المترجمة، من مقال التناص وإشاريات العمل الأدبي، صبري حافظ/ مجلة (ألِف) ع4 1984م: 23 .
(35) انظر: ثقافة الأسئلة: 111-113.
(36) للاستزادة: انظر: التناص والتلقي، د. محمد الجعافرة/ دار الكندي ط1 2003: 19، وآفاق الرؤيا وجماليات التشكيل د. محمد صالح الشنطي - من إصدارات نادي حائل الأدبي (نسخة إلكترونية).
(37) انظر: التناص والتلقي: 15، و مقال نظرية التناص حسين جمعة من مجلة اللغة العربية بدمشق مج 75 ج2 ذو الحجة 1420هـ: 356 - 357 .
(38) انظر: السابق.
(39) انظر: نظرية التناص: 366-367.
(40) انظر: منهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم القرطاجني: ت: محمد الحبيب خوجة/ دار الكتب الشرقية د.ط د.ت: 11-12، و دلائل الإعجاز: 292 - 293، ونظرية التناص: 357، وتحليل الخطاب الشعري، محمد مفتاح/ المركز الثقافي العربي - المغرب ط2 1986م: 131-132 .
(41) انظر: الأدب الإسلامي بين الشكل والمضمون، د. سعد أبو الرضا/ المجموعة المتحدة ط1 1421هـ: (82-103).
(42) انظر: القاموس المحيط: 840-841 .
(43) آية 245 من سورة: البقرة.
(44) آية 17 من سورة: الكهف.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|