Culture Magazine Monday  03/09/2007 G Issue 214
فضاءات
الأثنين 21 ,شعبان 1428   العدد  214
 
في الخلود الشعري والسيرورة
د. أسامة عثمان

 

 

سؤال قد يُظلم بزجه في مقالة عجلى، لكنه، إن لم يُنصَف، فقد أثير، أو قورب، ذاك هو: كيف يخلد الشعر؟ أو تكتب له الحياة؟ هل من سبب يعينه؟ أم تتعدد الأسباب؟

إذا كان الشعر جنساً أدبياً فإن فيه ضروباً وأطيافاً، وكما لا يستغني الجسم عن أنواع الغذاء وعناصره، فكذا المتلقي والشعر، فإن النفس لا تغنى، بأبعادها، عن شعر يتقوى بالحكمة والرؤية، دون الوصول إلى القصيدة المثقلة بالأيديولوجيا خلافاً لبعض الاتجاهات النقدية التي ترى ما يرى الشاعر والناقد الأمريكي إزرا باوند أن (الأدب العظيم ببساطة، لغة مشحونة بالمعنى، إلى أعلى درجة ممكنة).

والنفس كذلك تحتاج وقت العناء والكلال إلى شعر العاطفة والوجدان، في الوقت الذي لا تستطيع تلك النفس الإنسانية المفطورة على حب الجمال أن تزهد بجمالية الشعر وأناقته، بما هو فن منظَّم، ومنظِّم، ومنسوج من خيوط اللغة، ومموسق بالنغمات والإيقاعات التي قد تعيد للنفس انتظامها، واتساقها - بالشعر - مع الوجود من حولها. وقد تكون تلك الموسيقى الشعرية تكيفاً مع حركات النفس وتقلباتها.

وبعد، فإن ألصق السمات بالشعر هي الموسيقى، والتصوير الذي تقاربه - في الاصطلاح الأرسطي - (المحاكاة) فالصدق ثم الدهشة، والابتكار.

وبعد ذلك أسباب أخرى، وظروف قد لا تنحصر في العمل الشعري نفسه. فابن سينا كما أرسطو من قبل، يرد نشأة الشعر إلى سببين في طبائع الناس، أحدهما: الالتذاذ بالمحاكاة، والثاني: حب الألحان والأنغام. وقد بلغ من احتفاء بعض الشعراء بالناحية التصويرية في الشعر حداً جعلهم يفضلونها على الموسيقى، كما ذهب أحمد زكي أبو شادي الذي رأى أن ذوي الثقافة الواسعة من المتزنين تكفي لاستهوائهم تلك القوة التصويرية الرائعة.

لكننا لا نستطيع إلا أن نحتفظ بتلك العلاقة الوجودية العضوية بين الشعر والموسيقى وفيما يتعلق بالشعر العربي تحديداً فقد ثبت ارتباط نشوئه بالغناء، قال حسان:

تغنَّ في كل شعر أنت قائله

إن الغناء لهذا الشعر مضمار

وفي (العقد الفريد) لابن عبد ربه أن عمر بن الخطاب قال للنابغة الجعدي: أسمعني بعض ما عفا الله عنه من غنائك (يريد شعرك). فأسمعه كلمة له قال: وإنك لقائلها؟ قال نعم قال: لطالما غنيت بها خلف جمال الخطاب. ما يدل على العلاقة الوثيقة بين نظم الشعر وغنائه، أو إنشاده. وثمة متطلبات للشعر لكنه، قد يكون، ولا تكون، ومن ذلك القدرة على الإدهاش، الذي يتولد - بحسب قسم من الأسلوبيين - من الانزياح، أو خرق اللغة المعيارية، وذلك، ولا ريب، من خصوصية اللغة الشعرية حتى ترتفع عن اللغة العادية، لكن أبياتاً أو قصائد قد لا تحفل كثيراً بهذه السمة، وتنجح أو تسير، ذلك حين تستعيض بعناصر أخرى شديدة القوة، كالصدق العاطفي، أو التجربة الإنسانية الفريدة، وقد خلد الأدب العربي عديداً من القصائد لا تعوزها الخطابية والمباشرة، ومن ذلك قصيدة الجاهلي عبد يغوث الحارثي التي مطلعها:

ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا

فما لكما في اللوم خير ولا ليا

والشاعر كان وقع في الأسر، فقال هذه القصيدة الفريدة، تعرض فيها لأصحابه

ولقاتليه حتى النساء منهم.

ومثلها في شهرتها وأسلوبها قصيدة مالك بن الريب الإسلامي الذي قالها لما حضرته الوفاة وهو جريح مغترب أيام الفتح في سمرقند، فنظمها يرثي بها نفسه:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا

ومثلهما في الصدق العاطفي قصيدة ابن زريق البغدادي الشهيرة التي مطلعها:

لا تعذليه فإن العذل يولعه

قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه

ومما يعلو به الشعر، ولكنه قد يفارقه، ويبقى: الفكرة العميقة، فثمة شعر لا يحمل فكراً عميقاً، ومع ذلك فقد استطاع لفت الأنظار والاستقرار في الوجدان، ومن ذلك ما يسوقه الناقد محمد مندور في كتابه (النقد المنهجي عند العرب) عن بيتي ذي الرمة:

عشية مالي حيلة غير أنني

بلقط الحصى والخط في الترب مولع

أخط وأمحو الخط ثم أعيد

بكفي والغربان في الدار وقّع

يسوقهما دليلاً على أن مادة الشعر ليست المعاني الأخلاقية، كما أنها ليست الأفكار، وأن أجوده ما يمكن أن يكون مجرد تصوير فني، وأن منه ما لا يعدو الرمز لحالة نفسية رمزاً بالغ الأثر قوي الإيحاء؛ لأنه عميق الصدق على سذاجته.

هذا مع الإقرار بالفضل للشعر الرؤيوي الذي يعبر عن أعماق الكينونة البشرية، لا الفردية فحسب، والذي يستشرف المستقبل إذ في الإنسان ميل راسخ إلى تحصيل المعرفة، وهو يستشعر متعة حين يعرف طبائع الأشياء فيغدو الشاعر حينها رائياً، كما هي صفة الشاعر في الأدب اللاتيني، ويمكن أن يمثل هذا النوع الشعري من شعرائنا القدامى أبو العلاء المعري، وكذلك المتنبي وأبو تمام.

وباستقراء تلك النماذج الشعرية العربية التي ما زالت تنبض وتتوهج، فإننا لا نلفيها من نمط واحد من أنماط الشعر، فمن يجادل في سيرورة شعر المتنبي، مثلاً، مالئ الدنيا وشاغل الناس؟! بالرغم من شهادته على شعره التي أقر فيها بغلبة الحكمة عليه، حين قال: (أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري) هذه مقولة شبه صريحة عن تعدد ألوان الشعر، وكلها خلدات وسارت. أما الشعرية التي حظي بها أبو الطيب فتبقى مبعث حيرة النقاد، وإن استشفوا فيها امتلاء بالحكمة التي تكتسب - بحسب أرسطو - منزلة أسمى من منزلة التاريخ، بما هي أقوال شعرية أقرب في طبيعتها إلى طبيعة الأحكام الكلية.

ومع ذلك فقد كان أبو الطيب يتمتع بقدرة لغوية باهرة، وأسلوب مفعم بالبلاغة والتأثير، وخبرة بمتطلبات الصياغة التي أكسبت أبياته ترددا على الألسنة فسارت سيرورة الأمثال، بلغة صقيلة حاسمة واضحة تقنع المتلقي وتدهشه معاً.. وقد يضاف إلى ذلك تلك المعاني العربية الأصيلة التي أعلت صوت القصيدة بما مثلته من حلم عربي مفتقد، وهذا يظل في إطار العمل الشعري، غير أننا لا نبعد إن قلنا إن عوامل من خارج النص الشعري قد عززت من مكانة شعر المتنبي، وهي شخصيته فوق العادية وطموحه وشعوره بالعظمة ثم نهايته التي أضفت مصداقية عليه شخصاً وشاعرية. وكما في عبارة المتنبي، فإن الشاعر البحتري، نعم، فشعريته مغايرة لشعرية المتنبي؛ إذ تفيض عذوبة ورقة وماوية، وموسيقى تتغلغل في تفاصيل لغته البدوية الفطرية التي هي أقرب إلى روح الشعر، كما يذهب إلى ذلك مندور.

ومن الشعراء من ميزتهم مقدرتهم الفنية العالية، ولعل من أشهرهم ابن الرومي، صاحب الصورة التفصيلية المتقصية.

وتبقى العوامل التي تدير الشاعر، وتحدد مساره الشعري محتاجة إلى البحث وقد سار على الألسن كافة الحكم النقدي القديم الذي يصنف الشعراء وفق الدافع الذي يدفعهم إلى الشعر؛ إذ يقول: (أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب) ولعله كذلك يشي أيضاً بمناطق التفوق الشعري المتباينة لدى أولئك الأوائل.

وبالرغم من طول العهد بيننا وبينهم، وصعوبة اللغة، وغرابتها، فما زالت أشعارهم تطربنا، ونجد فيها أنفسنا، فمن لا يندمج بأبيات طرفة الإنسانية الوجدانية عن استشعاره الموت، ورغبته في التمتع في الحياة قبله؟! ولكنه يتضاءل حين نصل إلى الأبيات التي أطالت الوقوف عند تفاصيل جسم الناقة، وهذا يلفتنا إلى أهمية اختيار الشاعر لموضوعه الشعري الإنساني العام الذي لا تذهب بريقه الأيام، كما فعل امرؤ القيس في موضوع المرأة الذي يظل إنسانياً - كما يرى عبد الملك مرتاض - على الرغم من اختلاف الناس في النظرة إليه.

ولا يخفى أن السلاسة اللفظية، والموسيقى الداخلية، والبُعد عن التعقيد اللفظي، كما أشارت إلى ذلك كتب البلاغة، في اشتراطاتها لفصاحة المفردة، وبلاغة التركيب، ترفع النص إلى القبول السمح الذي يتفاضل الشعراء في امتلاكه، وقد روى صاحب الأغاني أن الفرزدق مر بنسوة يتغنين بشعر:

بان الخليط ولو طوعت ما بانا

وقطعوا من حبال الوصل أقرانا

يا أم عمرو جزاك الله مغفرة

ردي علي فؤادي مثلما كانا

إن العيون التي في طرفها حور

قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

فأعجبه الشعر، فقال: لمن هذا الشعر؟ فقلن له: ويلك إنه لجرير يهجوك!

ولعل الشعر، وإن كان لا ينفك عن الصنعة والجهد، فإن أذكى الشعراء وأقدرهم من استفرغ الوسع في ذلك، ثم لم يترك للصنعة أثراً في شعره، طباقاً لرأي محمود درويش: (في القصيدة يجب ألا تظهر معاناتك كشاعر، ولا عذابك الذي يسبقها. القارئ يرى المولود ولا يعرف ما هو المخاض. يرى الشيء في هيئته الناضحة أما ما وراء ذلك فلا). ويتذكر المرء هنا قول الأخطل في المقارنة بين جرير والفرزدق: (جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت في صخر)؛ ما جعل شعر جرير يحظى بسيرورة لم تصلها أشعار الفرزدق.

والخلاصة أن الشعر لا يخلده سبب بعينه، فمن وافق سراً من أسراره، وخبيئة من خبيئاته، فأطلقها، بسهام نافذة غير طائشة فلعله أخلده.. وتبقى العملية الإبداعية الشعرية، بطرفيها، الشاعر والمتلقي، محكومة باعتبارات يصعب تثبيتها، أو تقنينها، ومفتوحة على التجديد في الأشكال والمضامين.

o_shaawar@hotmail.com * باحث وأكاديمي - فلسطين


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة