هؤلاء، مرَّوا.. على جسر التنهدات!! شاعر الوزارتين.. والشَّك!! (1) بقلم/ علوي طه الصافي (*)
|
أميرٌ في مجتمعه.. وأميرٌ في الشعر.. ومحروم في المشاعر!!
تولى سنام وزارتين في عهد جده الملك الموحِّد المؤسس طيب الله ثراه.. هما وزارة الداخلية.. ووزارة الصحة في آنٍ معاً.
تفتحت شاعريته أول ما تفتحت فقال "الشعر النبطي" باللهجة المحكية.. أو "الشعر البدوي" كما أشار إليه "ابن خلدون" في مقدمته التاريخية.. أو "الشعر الشعبي" كما هو سائد، وكانت لهذا الفن من الشعر دولته.. ورواده.. أمثال "ابن لعبون".. و"راشد الخلاوي".. و"الهزّاني" و"محمد السديري".. وغيرهم الذين رصدوا من خلال قصائدهم.. مواقع، وأحداثاً تاريخية حين كانت "الأميّة" تلقي بردائها الكئيب القاتم على الجزيرة العربيّة، قبل إنشاء المدارس النظامية.. والمعاهد.. والكليات.. والجامعات.. فقام أولئك الشعراء بدور المؤرّخ المعاصر.. فكان شعرهم مصدراً له قيمته التاريخية والاجتماعية والعاطفية.. لمن أراد التأرخة لتلك الحِقب "الزمكانية" التي عاصروها.. وعايشوها.. وتعايشوا معها.. فكانوا رواة من خلال شعرهم الذي يعد "شاهد عصر".. وفرق بين من عاش في "الخيام".. و"بيوت الشَّعر".. واستعمل الجمل سفينته في الصحراء قبل أن يعرف السيارة.. والطائرة.. كما استعمل الخيل والسيف وسيلتيه في الحرب.. والفروسية وكان مأكله، ومشربه "التمر".. و"الحليب".. و"الماء".. ثم "القهوة بعد أن عَرف "البُن".. كل هذا قبل أن يعرف "الكبْسة".. و"الجريش" و"البادية" و"المرقوق" وأخيراً "الهمبورجر".. و"البسطرمة".. والكينتاكي".. و"الجمبري".. و"الطعمية".. و"الكافيار".. والوجبات "المعلّبة" المستوردة!!
مرة كما أخبرني بنفسه أن والده الزعيم العربي المسلم، رائد "التضامن الإسلامي.. وكان أحد فرسان "الشعر النبطي الحكمي" قال له: سمعت يا عبدالله أنك تقول "الشعر النبطي".. فإذا كان ما سمعته صحيحاً.. فادخل الآن.. وأشار إلى غرفة أو مجلس يجاور مجلسه.. وأتني بقصيدة!!
أراد أن يختبر ابنه الشاعر الشاب الذي لم يكن أمامه إلا الانصياع لوالده.. ومثله كمثل أي شاب في إهابه التحدِّي.. وإثبات وجوده أمام والده "الأستاذ".. قبل التحدِّي، والاختبار.. رغم المشاعر المرتبكة التي أتصوّرها.. وكتب قصيدته التي حين عرضها على والده "الأستاذ" الذي لا يقول الشعر النّبطي، فحسب.. بل يعرفه عن فهم عميق "زينه من شينه".. فقرأ بتمعّن، وأعادها إليه داعياً له بالتوفيق.. ناصحاً أن يرتفع بشعره عن الفحش.. كأنه يريد أن يقول له: "إن من البيان لسحراً.. وإن من الشعر لحكمة".
وتمر الأيام "مر السحابة لا ريث ولا عجل" فإذا بالشاعر النبطي الشاب بعد أن ثقّف نفسه ثقافة ذاتية.. وقرأ كثيراً في "ديوان العرب" الفصيح.
يهجر "الشعر النبطي" بعد أن تشربت ذاكرته بجمال الشعر الفصيح.. وعذوبة صوره.. وصلصلة قوافيه.. وغرائبية تشبيهاته البلاغية.. فكانت له محاولاته الأولى التي لم ينشرها.. وحين استوى عوده.. واشتد ساعده.. وأحس بتمكنه.. والظهور به أمام القرَّاء.. بدأ بنشر قصائده الفصيحة في الجرائد، والمجلات.. فذاع اسمه شاعراً فصيحاً في مجتمعه.. لكنه حين غنّت له مطربة العرب الكبيرة، الذائعة الصيت والشهرة "أم كلثوم" قصيدة "ثورة الشّك" كانت قاعدة انطلاق "مكوك" شاعر عربي جديد تنوقلت قصيدته بعد أن شنّفت آذان أقطار الوطن العربي، شرقية.. وغربية، شمالية، وجنوبية.. فتعرّف الناس على شاعر عربي جديد، من الجزيرة العربية.. نجم متلألئ في فضاء الشعر العربي!!
ثم غنّى له المطرب العربي الشهير.. فراشة قلوب العذارى "العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ" قصيدة "سمراء" العذبة فتغلغل اسمه في النفوس وانتشر كالوشل الرفيف في ذاكرة وروح كل عربي.. فانتقل من حدود الاقليمية الضيقة.. إلى رحاب مساحة الأقطار العربية الشاسعة.. المترامية الأطراف.. فإذا كان قد عُرف أميراً في الواقع التاريخي الاجتماعي، والرسمي، فقد أصبح بقصائده الفصيحة المغناة أميراً في الشعر.. لاغياً عبارة "بدأ الشعر بأمير، وانتهى بأمير" من دفتر الذاكرة الشعرية المتوارثة.. وهذا يعني أن بوابة "إمارة الشعر" لم تغلق، وظلت وستظل مفتوحة لكثير من أمراء الشعر.. ولن يكون "أحمد شوقي" الذي بايعه عدد من الشعراء والأدباء في لبنان ب"إمارة الشعر" آخر أمراء الشعر.. وفي فضاء الشعر العربي اليوم، وغداً، وبعد غد سيأتي العشرات من أمراء الشعر، لأن الأرض العربية دائماً هي "الأرض الولود".. التي لمْ، ولنْ تعقم!!
وأخيراً، وليس آخراً غنى له "عبدالحليم حافظ" موشحته "يا مالكاً قلبي".. وهذه لها قصة شجاعة الشاعر.. وجرأة السائل.. فقد كنت مرافقاً للوفد العُماني الشقيق في أحد مواسم الحج.. ومن عادة وزارة الإعلام دعوة وفود إعلامية سنوياً في مناسبات الحج.. وهي عادة، أو سنة حميدة.
طلب مني رئيس الوفد العماني الذي يعشق الشعر، وكان مذيعاً شاباً نسيت اسمه بمرور السنين الطويلة أن يجري لقاءً إذاعياً مع شاعرنا الأمير بعد أن علم بمعرفتي بالأمير الشاعر.. فاتصلت بسموه هاتفياً لأنقل إليه هذا الطلب.. فرحب بكل ارتياح.. ولمعرفتي بالمذيع العماني الشاب، وجرأته، وتخوفي من أن يسأل سموه فيما لا يريد.. قلت للأمير الشاعر هل لدى سموكم تحفظات معينة، أو عدم رغبتكم في سؤال قد يكون محرجاً، أو خارجاً عن "بروتوكول" سموكم.. فردَّ عليَّ كأنه يؤنبني: اسمع يا علوي أنا لا أحد أحداً في حياتي أن يمارس عليَّ وصاية أو رقابة. أو أن ينوب عني أحد ما في تحديد الأسئلة الموجهة إليَّ حتى لو أرادت ذلك وزارة الإعلام ورقابتها.. فأنا أمتلك حريتي الفكرية، أتقبل أي سؤال من أي شخص كبيراً كان أم صغيراً.. فلا تشعر الوفد العماني الشقيق بأن هناك من يمارس عليَّ وصاية، أو رقابة وسأرد على كل سؤالٍ بصدق، وتجرد، وشجاعة.. وأردف قائلاً: إنني كمواطن سعودي قبل أن أكون أميراً لا أريد أن يأخذ عن بلادنا ورموز بلادنا أي صورة من الصور المشينة.. وأنا كشاعر عربي متفتِّح حقيقة، وليس شعاراً يرفعه الذين لا يتعاملون إلا بالشعارات الجوفاء.. قل للوفد إن عبدالله ولد فيصل يفتح لكم قلبه وعقله.. قبل أن يفتح لكم باب مجلسه المشرع دائماً لكل مواطن.. ولكل عربي.. ولكل ضيف.. لأن مجلسي دائماً يرتاده الشعراء، والأدباء، الحداة منهم والشداة.. مجلسي منتدى عربي للجميع!!
لقد كان يحدثني بحرارة وشجاعة وجرأة مسكونة بالصدق كما عرفته أول ما عرفته، وهو ما سأجيء له لاحقاً.. حتى هيئ لي أن سماعة الهاتف التي أضعها على أذني قد سخنت من حرارة حديثه معي.. وكأنه هو الآخر أدرك ما هيئ لي فأنهى حديثه في لطف ومودة قائلاً: وأنت تعرف يا علوي أن العرب تقول "ارسل حكيماً، ولا توصه".. وأنا كما تعرفني أودك من خلال ما أقرأه لك.. فلا تحتاج إلى توصية!!.
وفعلاً حددنا وقت الموعد.. وذهبنا إلى قصره القديم بجدة، كان ذلك في الثمانينيات الهجرية.. كما أذكر.. وحين علم بمجيئنا استقبلنا عند باب مجلسه، وعلى لسانه: مرحباً بالأشقاء العرب.. في بيت العرب.. وبعد السلام عليه دخلنا مجلسه.. وأخذ كل واحد منا المقعد الذي يناسبه.. كنت بجوار المذيع العماني الشاب الجريء، فأدنى رأسه مني هامساً: إنه عظيم.. وابن عظيم.. ويبدو أن الأمير شاهد حركة المذيع العماني وهو يهمس بعبارته في أذني.. فسألني سموه: ماذا يقول لك؟ شعرتُ بالحرج، لكن الله ألهمني برد رأيت أنه مناسب.. رددتُ قلتُ: أخونا يسأل هل نبدأ بتسجيل اللقاء؟ فقال سموه: على بركة الله فأنا الليلة اعتذرت من كل الذين يزورونني لأتفرغ لكم!!
وبدأ اللقاء.. وكانت كل الأسئلة موضوعية تنم عن سعة اطلاع المذيع على الشعر، ورموزه، وكانت مناسبة لمقام سموه الكريم .. كانت عن الأدب.. والأدباء.. والشعر.. والشعراء.. وشعراء التفعيلة والحداثيين، وكان سموه متجلياً واسع الصدر يجيب بكل دقة وصراحة.. فكنت مسروراً.. ثم فجأة شعرت بأن المذيع ينوي لا طرح سؤال، بل قنبلة، هذا كان شعوري وقتها حين قال له: لديَّ سؤال شخصي أرجو ألا يغضب سموكم منه.. فردَّ الأمير موجهاً كلامه لي: هل مارستَ عليَّ يا علوي دور رقابة وزارة الإعلام من خلفي رغم كل ما قلته لك بالهاتف؟ كان السؤال "الشكي" كرمح غرسه في حلقي!!
قلت له: استغفر الله يا ابن فيصل أن أكون صاحب وجهين.. وقبل أن أكمل تدخل المذيع العماني قائلاً: إن ما قاله الأخ علوي عن شجاعتكم الأدبية.. ورحابة صدركم.. وتواضعكم.. وصراحتكم أقل مما شاهدناه بعيوننا ولمسناه من سموكم.. بل كنا نظن وبعض الظن إثم إنه قد بالغ في حديثه لنا عنكم.. رد سموه بأبوة رفيعة المستوى.. وأخوة لا تشترى بملايين الريالات.. قال: لا تزعل يا علوي.. لأنني أضعك في مقام أخي الصغير!! أمام ما قاله ألجمتُ، ولم تسعفني بديهيتي بشيء أقوله.
قد يسأل القارئ عن بداية معرفتي بهذا الشاعر الكبير؟ وهو ما سأتحدث عنه في السطور التالية، أملاً في أن أنهي ذكرياتي مع سموه دون أن أذكرها كلها لضيق مساحة النشر.
حين زار الملك فيصل تغمده الله بواسع رحمته منطقة "عسير" لافتتاح المدينة العسكرية بمدينة "خميس مشيط" كنتُ أعمل نهاراً في وزارة الإعلام، وأعمل مساء في مجلة "اليمامة".. كان من بين أفراد الرحلة كل رؤساء تحرير الصحف والمجلات.. ولأن الأخ "محمد الشدي" كان رئيساً لتحرير مجلة "اليمامة" فقد طلب مني مصاحبته في هذه الرحلة.. وهذا ما حدث.. وكان من الرموز الكبيرة التي كانت بمعية الملك فيصل "الأمير الشاعر عبدالله الفيصل"، فطلب مني الأخ "الشدي" إجراء حوار مع سموه لصفحات الأدب والثقافة التي أشرف عليها.. فقلت: يا أخ محمد، أنا أعرف الأمير عبدالله الفيصل بالسّماع، وهو لا يعرفني شخصياً.. وهذا يجعل مهمتي صعبة.. فرد الأخ "الشدي" بكلام أشبع غروري الإنساني.. قال لقد رتبت الموضوع مع سموه، وقد حدد معه الموعد، وكانت موافقته على أساس أنك أنت شخصياً الذي ستجري الحوار معه لأنه يقرأ لك.. فقابلت سموه.. واشترط عليَّ ألا أسأله سؤالاً سبق أن سئل فيه.. وكان شرطاً قاسياً عليَّ، ومحرجاً لي في الوقت نفسه.. لكنني اتكلت على الله فأجريت الحوار الذي سرَّ له سموه فهنأني.. وشكرته بعد أن حمدتُ الله في نفسي على توفيقي.. وكان بالنسبة لي أهم لقاء في حياتي.. لجرأته، وصراحته، ولأنني كنتُ في بداية عتبات سلم الأدب الطويل الصعب وما أزال .. ومع أول أمير له مكانه، ومكانته الرسمية والاجتماعية، والأدبية.. كنتُ يومها في مقتبل شبابي.. فاعتبرته لقاء تاريخياً رفيع المستوى.. وسوف أنشره في كتاب قادم لي بعنوان: "أصوات في الأدب العربي السعودي"، مع غيره من الحوارات التي أجريتها مع رموز الأدب في بلادنا، إذا مدّ الله في عمري القصير.
ولأنه حينذاك لم نكن نستعمل المسجل في إجراء الحوارات.. وكل ما سجلته مجرد رؤوس أقلام للحوار في ثلاث صفحات، فقد حرصت بعد صياغته عرضه عليه قبل النشر فطلبت من سموه أن يوقع لي على كل صفحة لأنه ليس حواراً عادياً.. ومع أمير غير عادي.. وتم ذلك.. فشعرت بعدها كأنَّ جبل "طويق" كان على رأسي، ثم انزاح عن كاهلي!!..
وبعد أن عرفته شخصياً.. وقابلته في الرياض، وحده، وباريس بمناسبة حصوله على جائزة دولية، تمنح كل سنتين لأبرز شخصية عالمية في أي مجال.. وقد أقيم لسموه حفل كبير حضره جمع غفير من رموز باريس رجالاً ونساءً.. وقد سلمه الجائزة الوسام "جاك شيراك" عمدة باريس يومذاك.. ورئيس الجمهورية حالياً.. وذلك بمناسبة ترجمة بعض قصائد سموه إلى اللغة الفرنسية بعنوان: "ديوان الحب".. وكان من ضمن الحضور من الرموز العالمية الشاعر "ليو بولد سنغور" رئيس جمهورية "السنغال" الأسبق وهو موضوع حديث له مكانه، ووقته المناسبين.
وما دمنا قد عرفنا سموه كشاعر "وزارتين" في بداية هذا الموضوع.. فما علاقته ب"الشك".. لقد كانت نتاج هذه الصفة أن الصديق الأمير خالد الفيصل الذي سيكون شخصية الحلقة بعد القادمة من هذه الحلقات المتواضعة.. نبهني لظاهرة "الشك" في شعر أخيه الكبير عبدالله الفيصل.. وهي ظاهرة لم يشر إليها الدارسون والنقاد لشعر سموه.. فتشجعت، وقرأت كل شعره فكتبت دراسة "انطباعية" بعنوان: "قراءة.. في شعر عبدالله الفيصل" نشرتها في كتابي "السمكة.. والبحر" الذي طبعته "دار الصافي للثقافة والنشر" ط (1) عام 1408ه 1988م "ص ص 187 196".. فماذا قلتُ في ظاهرة "الشك" في شعره؟
يتبع(*) ص.ب: 7967 / الرياض: 11472
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|