المرأة بين أقواس "الاسم والإشاعة والجنون"3/3 د. صالح زيَّاد
|
وأخيرا نصل الى المحور الثالث في خطاب قصة اليوم الثالث لعبد العزيز مشري وهو "الجنون" ولا يعنينا هنا ان نناقش حقيقته من حيث هو تلبس بالجن او مس منهم، أو من حيث هو واقعة مرضية عقلية، وإنما يعنينا توظيفه سرديا وأدبيا بوصفه استراتيجية بناء في دلالة القص تقوم على الاختيار الذي يجعل غيره من البدائل المختلفة عاجزا عن الاضطلاع بوظيفته الدلالية أو النيابة عنها، خاصة وان له عمقا دلاليا وامكانات تمثيلية وكنائية تتوصلها الثقافة الاجتماعية بما يجعل الكاتب "اي كاتب" مسترفدا لها لا خالقا اياها، ومحيلا عليها ومدللا بها اكثر منه مبتكرا لها.
وكثيرا ما استخدمت القصة العالمية والعربية الجنون وسيلة تمثيلية وكنائية لانطاق المسكوت عنه، وتعرية لا معقولية الممارسات الاجتماعية، وفضح آليات القمح والهيمنة والتسلط، والسخرية بها، واستحضار المهمش والمقموع والمصادر والمنحرف اجتماعيا في الكتابة، بمقتضى رفع القلم عن المجنون، واباحة ان يقول ما لا يباح قوله من غيره، واعتقد ان دراسة الجنون في الثقافة العربية من هذه الزاوية على مستوى الشعر وعلى مستوى السرد وفي ادبيات التراث والادبيات المعاصرة ما تزال واعدة بكشوفات ثقافية واجتماعية وفنية يمكن ان تكون مدهشة وطريفة.
جنون "زينة" في قصة عبد العزيز مشري يأخذ خصوصية بنائية ودلالية من موقعه اولا في خاتمة القصة وليس في بدايتها او في وسطها، كما تأخذ تلك الخصوصية اهمية ثانيا من صمت المجنون، اذ من المعتاد ان يكون كلامه محورا دلاليا يتنزل منزلة الضوء الكاشف عما يجهله العقلاء او يتجاهلونه ويحتمون بالجهل والتجاهل عن التفكير فيه، والمناقشة له واعلانه، و ثالثا فإن المجنون هنا امرأة، حيث التضاد بين معاني الاعلان والفضح والاقتحام والشذوذ والانطلاق بحرية لا تكسر قيد الواقع والعرف والعادة فقط، بل ايضا قيد المنطق والعقل الاجتماعي، ومعاني الستر والصمت والحياء اللازمة للمرأة مضافا اليها اعراف وعادات وتقاليد بالغة التسييج لها والمحاصرة لقولها وفعلها.
هل كان جنون زينة اذن عقوبة اجتماعية وثقافية تقصد استبعادها ومصادرتها عن الواقع الثقافي والاجتماعي الذي ارتكبه بقدرتها على الفعل والقول حين عاشت بدون رجل؟!
ان خبر جنون زينة يغدو كما يدلل خطاب القصة حفلة اجتماعية، ربما تثير شهيتنا لتخيل افراحها ومسراتها الوجدانية في ذلك التتابع والتنوع لأقوال الجماعة، وفي نشاطها المتقد تجاه الحدث من وراء زينة وفي غيبتها، وهو نشاط في النفوس قبل ان يكون في الاقوال، وفي الخيال قبل ان يكون في الواقع، اي انه تنفيس يحتم ان نستحضر كربته وعناءه وطبيعته الكبت والاحباط التي تسبقه بوصفه نتيجة وليس سببا ولنقرأ، ما يكتبه عبد العزيز مشري متأملين خطابه في بناء القصة باختيار الالفاظ وتركيب الاقوال، في المقطع التالي:
"حفلت الألسنة بما يحرك هدأتها، عصفت رياح الهمز واللمز بفم من لا شأن له بترك احوال الناس، فقولا "جنية ترافقها، جاءت على زوجها الاول وقسمت بالطلاق مع زوجها الثاني، منعت الخمس من الزواج، وقطعت نصيبها في الثالث. جنية مولية، لاهي شرقية ولا غربية".
فالالفاظ: حفلت، يحرك، عصفت، رياح.. ذات دلالة حركية تنبثق من فاعل جماعي، والحركة التي تصورها تلك الالفاظ تعقب هدوءا، مما يجسد فيها معنى الحدوث لنشاط له صفة "المناسبة".
وهو نشاط لساني اي انه أصوات منطوقة مما يجعل صورة الحركة العاصفة فيها بالاضافة الى جماعيتها دالا من دوال كانفالية تمثل حضور الجماعة، وليس الافراد او بمعنى ادق الثقافة التي لا يؤلفها دائما افراد، بحيث تغدو مجموعهم، لانها صورة الجماعة فيهم التي تعلو على افرادهم ولا تطابق كلا منهم على حدة.
اما الاقوال ذاتها فانها تحمل مضمونا تفسيريا للتاريخ الشخصي المتعلق بحياة "زينة"، اي انها دليل على اكتشاف معرفي من حق الجماعة ان تبتهج بنوره الذي يبدل حيرتها هدى، وتشككها يقينا، وتساؤلها اجابة، والكشف المعرفي لا يفسر، فقط، الآتي بل يفسر ايضا الماضي، ومن هنا ينتج عن الجنون اثر رجعي يرتد على ماضي زينة بالتفسير واثر مستقبلي يذهب الى التنبؤ بما سيحدث لها، وفي الحالين تخرج زينة من الواقع الى اللا واقع، ومن نصاعة تاريخها الذي يغدو مفعولا لفعلها او لحظها الى مفعولية الجنون!!
هكذا اذن تصادر الجماعة تاريخ زينة، بمحو انسانيتها وطمس بشريتها، فتنزل من علياء الفاعلية الى دونية المفعولية، وهو حدث تهش له الجماعة وتنشط لإعلانه نشاطا لا يفسره الا سرورها به واطمئنانها اليه اطمئنانا يغدو مقابلا لقلقها تجاه "زينة" وحيرتها في تطويع فاعليتها التي قلبت موازين عاداتها ومألوف معرفتها تجاه المرأة اي امرأة.
ولا تكتفي اقوال الجماعة باستغلال الجنون لمصادرة التاريخ، بل تذهب الى استغلاله لغرض الاستبعاد والاقصاء لزينة، فهي تعلن جنونها بطريقة ارهابية وتخويفية تدعو الى تحاشيها، كما هو واضح من تكرار الخبر، وتهويله بحضور الجنية حسيا، والغموض الذي يأتي من صفتها خارج الجهات، وبناء القول بناء مسجوعا يستعبد طريقة الكهان، "جنية ترافقها.. جنية مولية، لا هي شرقية ولا غربية" كما انها تمتد الى بنات زينة، حيث "ستنتقل الجنية إلى ذراريها الى بنات زينة.. واحدة، واحدة".
ويبدو ان الجماعة نجحت حقا بهذه الطريقة في إقصاء زينة واستبعادها، على المستوى الاجتماعي حيث الفرار منها وتحاشيها هي وبناتها، وعلى المستوى الثقافي اذ طوقت الجماعة فعل زينة الذي يرسم ثقافة ذات خصوصية قادرة على التحريض وباعثة على السمو والقوة للمرأة نعم، نجحت بعد ان أخفقت الصفات المفتوحة على الممكنات والمحتملات الواقعية مثل "الخيانة" و"الاسترجال" وهما الصفتان اللتان جربتهما الاقوال على زينة فاصطدمتا بصمودها وربما لم يكن لصفة الجنون ايضا ان تنجح لولا انغلاقها على مدى مجهول ومدجج بالغموض والرهبة في وعي الجماعة فليس للوعي البشري مشكلة مع الخبر الذي يحتمل الصدق او الكذب تجريبيا وانما المشكلة مع الخبر الذي يعلو على الاحتمالية يخرج عن مداهما اليقيني.
وامارة هذا النجاح ان استحالت المناكدة لزينة من غيض هو الوجه الآخر للاعجاب، واشمئزاز هو القشرة الظاهرة لشهية الرجال المفتوحة الى الشفقة التي لا تترك املا للعيون الجائعة والالسنة المتسخة.
"مسكينة تلك الشقية.. خير لها لو تموت وتستريح".
"ما لنا ولها للمجانين رب لطيف". ثم يصل الاقصاء والاستبعاد الى غايته ويقينه المادي والمعنوي بموت زينة في احد الشعاب نقية اليد والعقل والنفس والضمير.
zayyad62@hatmail.com
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|