عصفور من جنة.. وقلب من ذهب
|
هذه العصفور المغرد دوما في حياتنا الثقافية اسمه "حمد القاضي". حينما تعرفت عليه، كنت اشعر انه من تلك العصافير النادرة الاليفة التي تستمر حياتك به، وكان هو وكوكبة من عصافير المحبة الاليفة، آلف بينها نقاء السريرة وحب الحياة، وحب الناس، وشهوة المعرفة. لا نفترق يوما كنا جميعا لا نزال "طلابا" في الدرس. مع انه لم يكن تجمع بين معظمنا فصل او جامعة، وكان بيننا من بدأ في الوظيفة الحكومية، وهو طالب "منتسب" لكن كان يجمع بيننا تجانس عجيب، لم نخطط له ربما وحدت بيننا طبيعة معظمنا. كان منزلنا المتواضع في شارع الخزان، موئلا لالتقائنا شبه اليومي. كانت الوالدة رحمها الله تعرفهم واحدا واحداً، مع انها لم تر ايا منهم، كانت تعرفهم من اصواتهم، فاذا ما حضر احدهم يفتح له الباب حتى لو لم اكن موجودا ومن لم يحضر تسأل عنه.
كان "حمد القاضي" صاحب حضور متميز بيننا، في سرعة تعليقاته وفي تتابع عباراته، لقد كان المميز لدي من يحضر تجمعنا من الاسرة، وشد انتباه معظمهم. بصوته "الجهوري" الصادق بتلقائيته التي لا تنضب، واصبح "نجما" لديهم، حتى اذا غاب اصبح السؤال منهم عنه في احدى المرات علق واحد من اهلنا كان يحضر اجتماعنا، عندما هم "حمد" بالانصراف مبكرا، سأله ان يبقى فلا يزال الوقت مبكرا، قال له "حمد" بروح للعيال اشوفهم" ثم مال علي هذا يسألني مستغربا. هل "حمد" متزوج وعنده عيال فضحكت، وقلت له انما يقصد زملاءه في الدراسة وكانوا يسكنون معا، "وحمد" كان يتعهد بطبعه رعايتهم والاطمئنان عليهم وهذه هي احدى الخصائص التي لا تزال تلازم تصرفاته وحياته حتى بعد ان اصبح "أبو بدر" له أُسر و"عيال" كثيرون.
سجل حياته الانساني، ثر لا ينضب، يمتلك الجوهر والذهب، في اسمى معانيهما، ليست المادية "الجوهر" ذلك المعدن المتأصل في نفسه، تقدحه السنون فيلمع بريقه، لا يفقد قيمته، جوهره اصيل، اما "الذهب" فتمتلىء به خزائن قلبه، له قلب من ذهب، لا يصدأ، يبقى ذهبا معادلا لأي تعاملات انسانية في حياته ومع البشر.
منذ ايام قلائل وقبل ان ابدأ بكتابة هذا "البوح في حياتي عنه" قابلت شخصا من زملاء الحرف في القاهرة، لم يقابل "حمد القاضي" مرة في حياته، لكنه سمع عنه، وتعامل معه، وتحدث معه عبر "الهاتف" ونشر له في "المجلة العربية" قال لي: "حمد القاضي انسان من زمن انقرض. زمن الطهارة الانسانية المجردة من شوائب هذا العصر المملوء بملوثات الحياة الفاسدة" لم تكن هذه الشهادة مفاجأة لي، بقدر ما اعطت لما اكتبه عنه دعما مصدريا لا انفرد به، ولا اجامل فيه، بل يتفق عليه كل من جرى نهره في حياتهم، ذات مرة قال لي صديقنا المشترك "عبد الله الناصر" الكاتب "المبهج": "كيف يستطيع انسان ان يحمل هذا الحب الذي يسع كل الناس"؟ وهو يتحدث عن "حمد" فقلت له: انه مثل "النخلة" في كل تلك المعاني التي اسبغتها عليها في قصصك. النخلة رمز الاصالة في نفوسنا نحن ابناء هذه البلاد، النخلة الباسقة في خيلائها الصامت بعزتها، النخلة التي تطعم اهلها، فاهتز "راعي" النخلة طربا، وقال: صدقت والله.
عبر "دروبي" الباكرة في حياتي الفت "حمد" ومعه "ثالث" حياتنا "أحمد الصالح" الشاعر، مسافر كانت رؤوس هذا المثلث، تصنع الحلم في "تجادلية رياضية" ناتجها لنا جميعا.
ليس لواحد دون الآخر. لم يستأثر احدنا بحبه لنفسه وبحلمه لذاته. وانما كان هاجسنا واحداً كما لو كنا "اخوة رحم واحد". توائم بالفطرة الانسانية الصادقة، التي جمعت بيننا، لم نسأل أيا منا سؤالا شخصياً، لم نبحث عن اجوبة تقلقنا، كانت "عفوية" حياتنا اجابة على كل الاسئلة. واذا ما انشطرت الحياة بأي منا، وباعدت لقيانا لسنوات وهذا يصدق علي فاذا ما حان لقاؤنا، كأننا لم نفترق نفس المشاعر هي، لم يتكلف اي منا دواعي الاعتذار، عن هذا البعد، وتلك القطيعة، وانما نهيم الى بعضنا، مثل تلك "العصافير" التي اسعدها اللقاء، يتميز "حمد" بيننا جميعا، نحن اصدقاءه واخوته وزملاءه، بأنه ذلك الممسك بين يديه "قطبي التماس" الذي يجمع بيننا، حين نفترق يؤلفنا، يدعونا الى زيارة من له الحق علينا في زيارته، بل انه لا يمل من متابعة ما يكتب عن احدنا، يحتفظ به، ويرسله لاي منا في اي مكان، وحينما نلتقي به نجده في عجلة من امره، نطلب منه مزيدا من الوقت، لكنه يفر كالعصفور الى اعشاش اخرى يرعاها، فأتذكر عبارته تلك في باكر حياتنا، حينما كان يقول "بروح للعيال" وهي العبارة التي لم يفهمها ذلك الذي توهم ان "حمد" ذاهب الى اولاده في بيته، كما اتذكر عبارة صديقنا "المؤنس والمستأنس بالحب" ومانحه اول العبادله "عبد الله جفري" حينما كان يقول له "الريل يا حمد" وهو عنوان لاحد دواوين الشعر العراقي الشعبي "ريل" "حمد" او قطاره لا يمل من التوقف، ولا يتوقف، اذا توقف، فانما لكي يصنع الحب. ويزرع المحبة والخير، وحينما لا يتوقف فهو ماض الى محطات النزوع الانساني، والبحث الدائم عن الالق وتباشير الفرح في حياة الناس، يعود بها، كإضمامة ورد، او كحزمة سنابل، هو دائما يحمل زنبيلا يملؤه بتذكارات الفرح والمحبة.
هذا البوح الانساني الطاغي في حياة هذا "البدر" الساطع بضيائه، دوما يمزق دياجير الظلام في الحياة الانسانية، وهو أبو "البدر" تنطوي حياته على "خزائن" لا يعرفها الا هو من اعمال انسانية، يحملها في اهابة الصادق تفر كطيور المحبة، يطلقها ويصفق لها في فرح الواله الصادق بعمله لا يعرف احد من المقربين منه متى يطلقها، والى اين تنطلق لكنها تنطلق حيث يدله قلبه المترع بالحب.
"حمد القاضي" الآن، بيننا قيمة ادبية مؤثرة، جذوة لم تخمد، صقلها زمنها الثقافي، كما صقلها وهجها الانساني، ذلك البريق المشع بالحب الطاغي على المستوى الشخصي، اعتبر ان كل نجاح يحققه، هو نجاح لأي منا نحن تلك الصحبة التي كانت ترفرف في اعشاشها، وتلثغ بالتغريد، ثم اكتمل لها التغريد. هو الآن يقدم اسهاما ثقافيا لبلادنا، ينطلق الى كل البلاد العربية، عبر "المجلة الثقافية" اينما كنت في بلاد العروبة، أجده. فأهتز طربا. اشعر انني حينما لا اكون معه في بلادنا، اجده في كل مكان يزخر بعرض منتجات الثقافة العربية، فازهو ولا احد في كل تلك الاماكن يعرف ان هذا الطائر. الذي سافر عبر الحدود هو احد الطيور الذي ضمها عش ترعرنا فيه، ونبت ريشنا فيه معا وحلق كل منا الى مكان.
"حمد" الآن واحد منا يضيىء هواجسنا ويعبر عنها، فهو عضو ناشط في "مجلس الشورى" له مشاركاته الفاعلة في لجانه نحن اصحاب ذلك العش الذي بنيناه في زمن الطهر والتلقائية والعفوية وبراءة الحب، نحن اعضاء فاعلون معه وبه في المجلس. ومن قاموس "شاعر الحب المعاصر الخالد" استعير نبضا منه، أعلقه وأرسمه دالا عليه: "لو لم يكن "حمد" في حياتنا لاخترعناه".
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|