طائر ينهض من الرماد وجمرات ونيران أسطورية جريدي المنصوري يشعل النار في الشعر وطقوس الثقافة عبد الله السمطي
|
* عبدالله السمطي:
للنار دلالاتها الكثيفة في موروثنا العربي الإسلامي، وفي حياتنا المعاصرة، هذه الدلالات تقترب من الهاجس المعرفي للإنسان في تلقيه عناصر الوجود، وتتحرك من الفكرة المجردة، من الرمز، الى التحقق الفيزيقي في الكلمات أم في المفاهيم عن هذه "النار" تجيء دراسة د. جريدي المنصوري "النار في الشعر وطقوس الثقافة" هذه الدراسة التي فيما يقول في مقدمة كتابه "تستحضر تجليات النار في ثقافات الأمم والشعوب وتكشف طبيعة التكوين المعرفي الذي تحتضنه، وتستمد منه فاعليتها وموقعها في بنية الأنساق الثقافية".
جريدي المنصوري انطلق في هذه الدراسة من عدة عناوين: النار وثقافة الرمز، نيران العرب، النار وتقاليد القصيد، شعرية النار.
هذه العناوين مثلت فصولاً أربعة لنطاق الكتاب، فكيف بينها المنصوري، وكيف شكّل علاقات كلماته الباحثة؟.
في الفصل الأول المعنون ب "النار وثقافة الرمز" قدم المنصوري تمهيداً حول النار أوضح فيه أن للنار دلالات كثيفة ومتعددة، لها تجلياتها في تاريخ الأفكار وفي ثقافة المجتمعات التي أحاطت النار بمظاهر القدسية في فترات غياب حقائق الأديان السماوية.
ويرى المنصوري أن "النار وجود يتشكل عبر سياقات شتى في ثقافات الأمم تقتحم من خلالها المقدس والمجهول مثلما تحفل بالغريب والعجيب، وتنغلق على ذاتها دون أن تنفى حياة الأسئلة التي تناجزها" من هنا ووفق ذلك فإن النار تلوح على رؤوس الأشهاد في "منى" تسجل مواقف الغدر لكل غادٍ ورائح، وتشعل في أذناب البقر في الجبال للاستمطار وتوقد للضيف في الصحراء، وللأهبة للحرب، وخلف المسافر.
كما ان الناصر عنصر أصيل في تقاليد القصيد، فالشاعر يتحدث عن نار المحبوبة التي يتنورها من بعيد كما يتحدث عن الرماد والأثافي والنار الخامدة، وتقترن عنده النار بالشيب والخمر والوحش في مقاطع متفرقة من القصيدة، وبشكل يتكرر لدى طائفة من الشعراء في مختلف العصور الأدبية القديمة. هكذا يستعرض المنصوري تجليات النار في مواطن مختلفة، وان كان وضع هذا التمهيد ضمن الفصل الأول لم يكن موقفاً، بل كان من المفترض ان يوضع بعد مقدمة الكتاب الموجزة، خاصة انه يتضمن حديثاً ذاتياً يتذكره المؤلف حين كان صغيراً في البادية وحين كان يستمتع بالجلوس مع الكبار حول النار.
يتحدث المنصوري عن "أصل النار" وتصورات الأمم والشعوب لها ويعرض لبعض المقولات الأسطورية وغير الأسطورية عن النار في استراليا، وأوروبا، وهنود كاليفورنيا، وآسيا، وأهل الجزر الواقعة من الشرق الى غينيا الجديدة وافريقيا، وتتضح من خلال هذه الأساطير العلاقة بين النار والحيوانات والطيور التي تقوم بخطفها أو سرقتها من مستحوذي النار، وأثر ذلك على الأرض حيث تسرق النار دائماً من السماء ويهبط بها سارقها الى الأرض.
وفي حديث عن "جهنم" يرجع المنصوري الى أقدم النصوص العالمية التي تتحدث عن جهنم ويراها نقلاً عن جورج مينوا في الألواح الأكادية من الألف الثاني قبل الميلاد، وتروي الحوار الذي دار بين البطل "جلجامش" وصديقه "انكيدو" الذي صعدت روحه من الجحيم.
وتعد الميثولوجيا المصرية من أغنى الميثولوجيات في الشرق الأوسط حيث الأشرار محشورون في أماكن ضيقة ومظلمة ذات روائح نتنة يمشون على رؤوسهم، ليعبر بذلك عن أنهم عكسوا النظام الكوني، ويخضع الهالكون لعذابات تهدف الى تحطيم الأشرار وتحويلهم الى عدم، تحرقهم أفاعٍ تنفث ألسنة اللهب، ويلقون في بحيرات من نار.
ويستعرض المنصوري متنقلاً بين أماكن وشعوب مختلفة فكرة "جهنم" لدى الهندوس والصينيين والفرس، والمنغوليين والهنود الحمر واليونانيين كما يستعرضها في كتب العهد القديم، والإلياذة، وجمهورية أفلاطون، ورسالة الغفران، والكوميديا الإلهية.
ويخلص الى أن "الشعوب تتفق على أن جهنم مكان للعذاب، في بعض الأحيان تبدو جهنم هي الجحيم وهي النار، وفي أحيان أخرى تبدو النار عنصراً جوهرياً من العناصر التي يتشكل منها عذاب جهنم، تأثيث جهنم لا يكاد يخلو من النار الى الحد الذي تتماهى فيه النار بجهنم في الكثير من الثقافات.
وعن "النار في الإسلام" يتحدث المنصوري عن مستويات ثلاثة: النار الواقعية في الدنيا، النار في قصص الأنبياء، نار العذاب في الآخرة، كما يتحدث عن الكائنات النارية ومنها: "النعام الذي يبتلع الجمر، والثور الشهاب، والتنين الذي ينفث اللهب، والفينيق الذي يحترق في النار ثم ينبعث من الرماد والهدهد الذي يحدث الطيور عن نار العشق فضلا عن المرأة التي تعد فيما يرى المنصوري "أبرز الكائنات النارية على الإطلاق التي شغلت الشعراء، وأشعلت الثقافة بكل ما من شأنه ان يجعل المذكر ينجذب الى ضياء الأنثى وتمتد علاقته بهاعبر درجات تصل عند بعضهم الى حد الاحتراق عشقا".
أما "نيران العرب" فهي موضوع الفصل الثاني، وهي نيران كثيرة تحتضن ثراء معرفياً له سحر كبير، وتتمثل في "نار الاستمطار" والبرق، ونار التحالف، ونار السليم، ونار الحباحب واليراعة، ونار المزدلفة ومنى، ونار الحرتين، ونار الصيد ونار الأسد، والطرد، والحرب، والغداء، والقرى، ونار السعالي والجن، ونار الغول، ونار الوسم.
وتحدث المنصوري في الفصل الثالث عن "النار وتقاليد القصيد" حيث رصد في الشعر نيراناً متنوعة بدأها بموقد النار في شعر الأطلال، وختمها بنار الهاجرة، مروراً بنار الحبيبة، والنار والمطر، والنار والخمر، والنار والشيب، والنار والمستنبح.
وينظر الشعراء الى نار الحبيبة من مسافات بعيدة، فيما يرى المنصوري وهذا ما نجده في أشعار النسيب من مقدمات القصائد، فقد تتلبس النار الحبيبة على نحو ما جعل امرؤ القيس حبيبته هي النار المتنورة في قوله:
تنورتها من أذرعات وأهلها
بيثرب أدنى دارها نظر عالي
وحين يقف الشعراء عند نار المحبوبة نجدهم يعرضون لبعض المعاني والموضوعات ويتواردون عليها على نحو من التقليد الذي يحتاج الى تأمل ومعرفة بأسراره وتشكلاته، ويستشهد المنصوري في ذلك بنصوص للشماخ بن ضرار الذبياني، وكثير عزة، وجميل بثينة، وغيرهم..
في الفصل الرابع يتناول المؤلف "شعرية النار" ووقف عند كيفية تموضع النار في التراكيب ثم النظر في ضوء ذلك الى المعمار الفني للنص وإنتاج الكائنات الشعرية.
رجع المؤلف في كتابه هذا الى مصادر ومراجع متنوعة ترصد دلالات النار وحالاتها، وقام بجهد وافر في تجميع النصوص الشعرية العربية القديمة التي تتضمن العناصر النارية، بيد أن الطابع "المقالي" القصير كان هو مقصد فصول الكتاب الذي قد يحتاج الى درجة ما من استثمار المفاهيم التأويلية والأسطورية والنفسية لقراءة تتعمق هذا العنصر "النار". ويبقى الكتاب ممثلاً لوعي آخر لهذه المفردة التي لها دلالتها القارة في ثقافات إنسانية متنوعة.
صدر الكتاب عن المركز الثقافي العربي ببيروت.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|