شجرة الطفولة..غابة الأدب «4» د. صالح زيَّاد
|
الطفل والراشد:
الحنين، شعرياً، إلى الطفولة والشباب، لا يخبئ، فحسب، مديح الطفولة أو يدَّخِر تمثلاتها الدلالية على الأمل والفتوة والنماء والحرية والبراءة، ولا رثاء العمر ونعي الحياة التي اخترمها الزمن وتصرمتها الأيام، بل يصنع الطفولة، في تضاعيف ذلك كله، من زوايا مختلفة، تبرز حيناً تمردها على القسر والقهر، وخروجها التلقائي عن تضاريس عقلية معلبة ومسوَّرة، وفي النهاية مأسورة لعاداتها وتصوراتها الشائخة، وحيناً ترينا الطفولة، من زاوية الضمير، عالماً للكمال الذي تشرئب إلى نقائه وخلوصه، انكسارات وإحباطات الكبار. إن اللعب، بوصفه امتيازاً طفولياً، هو خروج عن القانون الذي صار الراشد به راشداً. أن تكون طفلاً يعني أن تلعب، كأن اللعب، إذن، فطرة وغريزة إنسانية وحيوية. لكن أين تغدو فطرة اللعب وغريزته عند الكبار ؟ هل تمحى؟ فماذا يبقى، إذن، من حيويتهم وإنسانيتهم؟. هكذا يبدو أن النظر بمنطق التقابل والتضاد في العلاقة بين (الطفولة) و(الرشد) لا يفضي، فقط، إلى إفراغ الرشد وإخلائه من محتواه من الطفولة في خصوصية بهجتها باللعب، واستمدادها منه طاقة التشكيل للحياة والاتساع بها وراء الإكراهات والضرورات، بل يفضي إلى محو الطفولة كقيمة جمالية ومعرفية وأخلاقية.
الكبار، أيضاً، يلعبون، ويلهون. أليس كذلك؟. الفنون بصيغها ومستوياتها المختلفة نوع من لعب الكبار. لماذا، إذن، يحدُّ الكبار من لعب الصغار؟. أليس الصغار هم معلمو الكبار اللعب؟. اللعب هو قصيدة الطفولة المرقومة بالحب للعالم والبهجة بالحياة، ولنقف على تأمل العلاقة بين الطفولة والراشدين، من زاوية المحاصرة البليدة للعب الأطفال، في قصيدة مسفر الغامدي (خروج)، من ديوانه (حينا من الضوء)، إذ يقول:
... مدرستي
... تحجز للصبيةِ الراكضينَ
مقاعدَهم في الكتاب
وحين يولونَ
مثلَ الحروفِ التي تتقافز هاربةً من مقاعدِها
في المعاجم
خارجةً للقصائد
أجلسُ معترفاً للمدرَس
والبردُ يأكلُ أطراف كفّيَ
أني لعبتُ قليلاً
خرجتُ من المعجمِ اللغويَِ
لألهوَ منفرداً
في مدارِ القصيدةْ...
حينَ مر المدير صَمَت...
وكما يتعلم الكبار من الأطفال معنى اللعب ومدلوله الذي تتسع به الحياة، ويتكشّف الواقع، وتتهذب العلاقة بالكائنات والأشياء، يتعلمون، أيضاً، أنهم صاروا كباراً، أي أوغلوا في تلوث الضمير بما يفارق نقاء الطفولة وطهرها. أن تكبر، بالمعنى الذي يحيل إلى العمر، يعني، فيما يعني، أنك بَلِيت، وفقدت الجِدَّة، ويعني، وهذا هو الأهم، أنك تنوء بضمير كهل، أدمن الحياة ففقد البراءة والنبل واهترأ. كأن المرء لا يكتهل إلا بضمير موبوء بالندم ومجاهدة الأوبة إلى زمن البداية الأبيض النقي، أنت مسن أو شائخ، فقط، لأنك تحمل ذاكرة الاقتراف للخطأ، دون هذه الذاكرة لا أحد يشيخ، لا أحد يفارق الطفولة. يقول مسفر الغامدي، متجها إلى الطفل، إلى (ضياء):
حين كنتُ أدرّبُ نفسي
على محو بعض الكبائر
كنتَ بالكاد تنجزُ
بعض المعاصي:
تكسرُ فنجان شاي
وتهرقُ فوق المفارشِ
كوباً من الماء!!!.
Zayyad62@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|