طه حسين: رائد العقلانية و الليبرالية العربية «الأخيرة» العلمانية/ حول علاقة الدين بالسياسة د. عبدالرزاق عيد*
|
لم يتداول نص طه حسين مصطلح العلمانية، لكن علاقة الدين بالسياسة والعلم والبحث العلمي والفكر والمعرفة كان يشغل ركنا أساسيا من أركان عمارته النهضوية، بل كان شاغلا أساسيا، نظرا لاتصال هذا الإشكال اتصالا مباشرا بتجربته الحياتية وسيرته العلمية، من خلال علاقته الإشكالية بالأزهر.
يؤسس العميد لإشكاليته هذه بالعودة إلى المرجعية النظرية للعقل الكوني الإنساني المتمثل بالحضارة اليونانية قبل أن يتعرض لها في سياقات علاقتها بالديانات التوحيدية في الغرب والشرق، فيبدأ بمحنة سقراط ليحفر عن جذر هذه الإشكالية المستمرة في المجتمعات الإنسانية حتى اليوم.
توقف العميد متأملا محنة سقراط التي يشخصها في (قادة الفكر) بأن فلسفة سقراط كانت آثمة مرتين، لأنها تناقش النظام السياسي ولأنها تناقش الدين، لكن مثار الغرابة وتساؤلات العميد تتأتى من أن المقدس الوثني (الميتوث) اليوناني لم يبلغ من الصلابة المعتقدية الأحادية حدا من التعصب أن يحكم بالقتل، إذ ما يميز المقدس اليوناني التعدد والتنوع، فالتكفير هو نتاج عقيدة التوحيد، حيث الكل موحد حول الواحد، وأي خروج عن وحدة الموقف من التوحيد قد يستدعي الحكم بالقتل على من يخالف الرأي التوحيدي الموحد، فكيف إذن تمت إدانة سقراط بالخروج على الدين، ومن ثم مصادرة حقه بحرية الرأي والاعتقاد، هنا يلتقط العميد الجذر الكامن وراء هذه المحنة، وهو يتعين في فتنة السياسة التي تسعى للسيطرة على الدين وعلى العلم وحرية الرأي والتعبير.
فمنذ محنة سقراط هذه تدخلت السياسة لاستخدام الدين ضد حرية الرأي والإبداع والتجديد، فالسياسة هي التي بدأت تحدد موقف السياسة بين هذين الخصمين (النخبة والسواد) وظهر أنه لن يكون موقف إصلاح بينهما وإنما موقف إفساد بين هذين الخصمين (1)
والمآل فإن الوبال سينزل بقادة الفكر المجددين لأن المعركة بين النخبة والسواد هي معركة خاسرة للفكر، ورابحة لقوى الأمر الواقع التي تريد الحفاظ على أبدية الحال وتأبيد الأحوال التي تخدم مصالح هيمنة النخب الأرستقراطية والأولغارشية والاستبداد والهيمنة، وذلك (لأن المفكرين والعلماء قلة ولأن العامة الذين يؤلبهم الساسة بسهولة هم السواد من الناس) (2)، وعلى هذا فقد نجحت طغم السياسة بتهييج سواد العامة للفتك بسقراط، لكن الفتك بسقراط لم يؤد للفتك بفكره الفلسفي الذي سيتاح له تلميذان يعيدان بناء صرح الفلسفة اليونانية بنبوغ وعبقرية فذة لا يدانيها نبوغ إنساني أعظم وهما أرسطو وأفلاطون.
وإذا كان قياصرة الرومان قد وحدوا العالم القديم، إذ توجوا بذلك انتصار الشرق على الغرب، وبداية العصور الوسطى الأوروبية على أنقاض الحضارة اليونانية ونظامها الجمهوري، فقد أقامت حكما يشبه حكم الفراعنة وملوك الفرس، بعد أن أصبحت المسيحية هي الديانة الرسمية للدولة، وكان تعبير ذلك وأد الفكر الفلسفي وتقويض معادله الجمالي الدرامي التعددي إذ أغلقوا المسارح بوصفها هيكل الشيطان.
هذا الاستعراض الشيق لسقوط الحضارة اليونانية الفلسفية على يد حضارة الرومان الدينية الذي يقدمه العميد في كتابه الشيق (قادة الفكر) يقودنا ليخلص إلى أنه ما كان لعصر النهضة الحديث أن ينشأ لو لم يقفز فوق وهدة العصور الوسطى الرومانية، لينتظم في سلسلة أرسطو وأفلاطون وليستأنف إنجازات الحضارة اليونانية، فالناس لم يكادوا يدرسونها في العصر الحديث حتى فتحت أمامهم أبواب العمل والأمل ومكنتهم من استحداث العلم وتغيير نظم الحياة وانتهت بهم الآن إلى ما هم فيه من رقي. (3)
لكن تقدير وتثمين طه حسين لاستعادة النهضة الحديثة لفكر الحضارة اليونانية، وما يشتق منها من مفاهيم تبلورت في صيغة العلمانية في الفكر العالمي الحديث، لم يقده تقديره وتثمينه هذا من وقفة نقدية حذرة تمثل درجة استقلالية عقله الطليق، فالسياسة التي فتنت اليونانيين عن أنفسهم فكان ضحيتها سقراط، فإن السياسة نفسها ستفتن الفرنسيين عن أنفسهم أيام الثورة الفرنسية، فيقوم أحفاد سقراط وأرسطو وأفلاطون ممثلو (الحرية والتسامح) بالعسف واضطهاد رجال الدين، يقول متحدثا عن الثورة الفرنسية: (كان الذين يفتنون رجال الدين ويمتحنونهم هم أولئك الذين تأثروا بفلاسفة ما قبل الثورة، فما بال هذه الفلسفة التي كانت تدعو إلى الحرية والتسامح قد استحالت عدوا للحرية والتسامح؟ يجيب العميد: أما الفلسفة نفسها فلم تتغير، ولكن السياسة التي استغلت الفلسفة لمصلحتها وضد خصومها هي التي أثمت... فالإثم في حقيقة الأمر ليس إثم الدين ولا إثم العلم ولا إثم الفلسفة وإنما هو إثم هذه الدخيلة) (4)أي السياسة!
وعلى هذا فإن العميد لم يكن داعية علمانية متطرفة كما أراد خصومه التقليديون أن يوحوا للسواد من العامة تشكيكا وإيحاء وإيهاما بإلحاديته لإسكاته، بل كان داعية لتحرير الدين والعلم معا من عبث السياسة وفتنتها وقدرتها على التجييش والتلاعب بالدين والعلم معا.
ولهذا قاده وعيه النهضوي إلى التقاط مزية تاريخية تسم التاريخ الإسلامي، وهي عدم معرفة الإسلام للكهنوت، أي لطبقة رجال الدين التي تحتكر معرفة أسرار الكتاب المقدس (وأما نحن فقد عصمنا الله من هذا المحظور ووقانا شروره التي شقيت بها أوروبا. فالإسلام لا يعرف الاكليروس)(5)كما كان عليه الحال في أوروبا، التي لا بد من الاستفادة من تجربتها مع ذلك بعد مخاض طويل قادها إلى حاله من التوازن جنبها التطرف في إدارة آلية الصراع بين الدين والعلم: (إذ إن الأمر قد انتهى إلى شيء من التوازن بين الدين والحضارة).
هذه المزية، أو لنقل الخصوصية التاريخية، التي التقطتها باصرة العميد قادته إلى استنباط أن السياسة لا يمكنها أن تفتن الدين والعلم في مجتمعاتنا الإسلامية، لأنه ليس هناك طبقة دينية تنازع السلطة المدنية سلطتها، مما يعني أن مجتمعاتنا قادرة على تحييد الدين تجاه السياسة والعلم، ما دمنا لم نعانِ تاريخيا من تدخله في السياسة، وعلى هذا فإن العلمنة بهذه الدلالة والمعنى أكثر قابلية للاندراج في بنية وعينا السياسي - ودون معوقات - من المجتمع الغربي الذي عانى من نفوذ طبقة الاكليروس، أي أن العميد ومنذ بواكير القرن الماضي اكتشف أن العلمنة هي كما نقول اليوم: التحييد وليس التلحيد، أي فصل الدين عن السياسة والدولة وليس عن المجتمع والشعب.
لكن هذه المزية، هذه النعمة التاريخية، حولتها الأصولية السلفية القديمة والمحدثة إلى نقمة، فما دام ليس لدينا اكليروس، إذن لسنا بحاجة لهذا الفصل بين السياسة والدين، وهكذا سيخلص تيار واسع من دعاة (الحداثة) على المستوى التقني لكنهم (السلفيون) على مستوى المحتوى المعرفي والايديولوجي، وبالتوازي والتناظر مع دعاة السلفية من الفقهاء الأصوليين، لينخرطوا جميعا -وبمناخ طقسي كرنفالي- داخلين في دعوة يوسف القرضاوي أفواجا، هذه الدعوة التي طالما يتباهى بها الشيخ في كتبه وأحاديثه على الفضائيات: الدين عندنا علم والعلم عندنا دين.... الدين عندنا سياسة والسياسة عندنا دين.
ليغدو طه حسين عقلا عصيانيا في فضاءات برزخية يتمدد في أحضانها الإيمان والإذعان والتسليم بوصفها ثالوث العقل العربي المستقيل، وبوصف عقل العميد (وردة في صليب الحاضر) على حد وصف هيغل للعقل.
(انتهى)
***
(1) من بعيد -ص 153
(2) المصدر السابق - ص154
(3) قادة الفكر - ص272
(4) من بعيد - ص 167-168
(5) مستقبل الثقافة - ص 64
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|