خطاب الأنا العربية بين التقليل والتضخيم (قراءة في وعي الشخصية العربية) «8» سهام القحطاني
|
لقد فاق وعي الشخصية العربية من وهم القومية مع هزيمة 1967م التي قال عنها نديم البيطار إنها (كانت هزيمة لعمارة المجتمع العربي ولبنيته المادية والعقلية معاً، هزيمة كشّافة لتأخره السياسي والاقتصادي والتقني والثقافي، فضلاً عن تأخره العسكري).
ولا شك أننا لا نستطيع تجاوز هزيمة حزيران 1967م دون أن نتلمس بعض آثار نتائجها، على مستويي وعي الشخصية العربية الثقافي والشعبي.. لقد دخل العرب بوعيهم المختلف الدرجات (السياسي والثقافي والشعبي) هذه الحرب وهم متأكدون أنهم سينتصرون، ولعل هذا التضخم الأنوي لثقتهم غيّب عنهم إجراء الحسابات الصحيحة للحرب، وتقدير قوة عدوهم الفكرية. إن (الحرب خدعة) لعل هذه العبارة هي أقرب الإجابات عن سؤال: لماذا انهزم العرب في حرب 1967م. يقدم لنا نجيب محفوظ قصة رمزية لأسباب هزيمة العرب عام 1967م من خلال المجموعة القصصية (خمارة القط الأسود) (كلمة غير مفهومة) وهي قصة المعلم حندس (الرجل القوي الشديد معلم الحارة) فهو يمثل العرب في مضمون المحتمل، الذي قتل رجلاً في ماضيه، فتعهدت الأم بتربية ولد المقتول على وجوب الانتقام من المعلم حندس، وظل المعلم حندس في انتظار ظهور ولد المقتول والإعداد له والحذر منه، وعندما يئس من ظهور ولد القاتل قرر أن يبحث هو عنه ليقتله ويحمي نفسه من الخطر المرتقب، فقاعدته (أنا لا أبالي بعدو ما دمت أعرفه، بل العدو الذي لم أعرفه أو أره) (وفي النهاية يتفق حندس مع قارئ الحي الضرير كي يدله على مكان الغلام المخيف ويذهب حندس في حشد من أتباعه وفي كامل هيبته، بقيادة ذلك الأعمى (لاحظ: أعمى يقود مبصرين) إلى المكان الموعود، وإذا بصرخة تنطلق من حلق حندس كالعواء، وإذا بجسمه الضخم يتهاوى على الأرض.. حملقت الجماعة التي كانت بمعية حندس وهو طريح الأرض، ولم يشعروا من قبل بعجز مهين كهذا العجز، فهم لم يسلّوا خنجراً ولا قذفوا طوبة.. وأين القتال؟ بل أين منزله؟ لم يشعر أحد منهم بالقاتل عند تسلله، ولا عند انفلاته، لم يسمع له حسّ، ولا عثر له على أثر..). ويعقّب الدكتور محمد جابر الأنصاري على هذه القصة: (والآن.. أثمة ضرورة للقول إن هذا المشهد يصور بأسى حالة الجيوش العربية مع عدوها؟ فهي لم تعرفه على حقيقته.. وهي لم تبدأ بضربه.. وهي أخيراً تلقت الضربة منه دون أن تشعر بتسلله أو انفلاته، بل دون أن تعثر له على أثر، لقد رضي حندس بأن يقوده رجل أعمى إلى ميدان المعركة مع عدوه.. ولا ندري كيف نصف الذين قادوا جيوشنا) - انتحار المثقفين العرب - محمد جابر الأنصاري -. وتتصاعد نبرة الإحباط عند مثقف آخر هو نزار قباني في قصيدته (صحوة حزيران 1967م):
يا إخوتي أنعى لكم اللغة القديمة
والأطر القديمة
أنعى لكم أنعى لكم نهاية
الفكر الذي قاد إلى الهزيمة...
... إذا خسرنا الحرب لا غرابة
نحن دخلناها بلا استجابة
بكل ما يمتلك الشرقي من عناصر الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة
بمنطق الطبلة والربابة
ويستمر الإحساس بالإحباط والتشاؤم وفقدان الثقة في كل شيء؛ يقول الجواهري متنبئاً:
سيلحقون فلسطين بأندلس
ويعطفون عليها البيت والحرما
ويسلبونك بغداد وجلقة
ويتركونك لا لحماً ولا وضما
لقد كسرت هزيمة 1967م أمان المصداقية بين النخب الثقافية الأمينة والنخب العسكرية من ناحية، وبين النخب العسكرية ووعي الشخصية العربية الشعبية من ناحية أخرى؛ فدخلت المجتمعات العربية فوضى الحواس، وطبعت ثقافة الهزيمة رؤية الرأي العام العربي بالإحباط والاعتزال والانزواء والنكوص والارتداد وانعدام الثقة بقدراتها وإمكاناتها، وأدى غياب الاستفسارات المنطقية لأسباب الهزيمة التي زعزعت فكرة قيمة الاستعلاء العليويّة داخل ذلك الوعي، وغياب مصادر تقويم قيم الحق والقوة والقومية، إلى أزمة أخلاقية داخل ذلك الوعي.
إن غياب مصدر تقويم الجوهر يزعزع قيم الثوابت ويتيح اختلاط الثابت بالنسبي في مرحلة الخضّ الناتج عن اصطدام الوعي السطحي بقوة الأثر، وخاصة إذا أدركنا أن وعي الشخصية العربية الواقعي لم يتجاوز المستوى الأول بمعنى التميز، والتميز بمفرده لا يستطيع تأسيس منهج نقدي لتحليل الناتج وفق روابط المؤثرات بدرجاتها المختلفة.
إن زعزعة قيم النظام الأخلاقي داخل وعي الشخصية العربية بدرجاتها المختلفة النخبوي والشعبي، من أقبح آثار هزيمة 1967م، فالقدوة الثورية سقطت، والعدو الذي يمثل الباطل انتصر، ونحن الذين نمثل الحق هُزمنا، والحق والباطل مفهومان يرسخان قاعدة النظام الأخلاقي داخل وعينا، فإذا اضطربت قاعدة التكوين كان البنيان فاسداً، وهذا ما لم ينتبه إليه صناع الهزيمة، والناتج استخفاف وعي الشخصية العربية الشعبية والنخبوية بقيم النظام الأخلاقي الذي تميّز المسلم به دون غيره، فأضاف فوق الهزيمة أزمة أخلاقية، وهو واقع طبعي يحلله محيي الدين صبحي في (الأمة المشلولة) بأن النخب السياسية (انغمست في مباهج الحكم حتى غدت معظمها قدوة للفساد الاجتماعي، وانحطت أخلاق العمل أمام شعار الكسب، ولم يتوقف الفكر العربي إلى اليوم وقفة جادة عند الأخلاق، وهذا الانحطاط العربي الشامل والمتزايد نتيجة وسبب لاطراد الانهيار الخلقي، وفقدان الوازع الداخلي والرادع الخارجي لمحاسبة المسئول على التفريط بالمصلحة العامة) - مساءلة الهزيمة - الأنصاري - ص 146؛ فالأمم تسود بأخلاقها أولاً، ليست هذه مقولة ذات صيغة مثالية، بل هي حقيقة، وأول انهيار الأمم رأس أخلاقها.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
(أحمد شوقي)
إنه منطق - على رغم بساطته - يحمل أساس الحضارة وحقيقة الأزمة، وتفاقمت الأزمة الأخلاقية مع غياب خطط التنمية واتساع رقع الأمية والفقر والرأسمالية وعدم الاهتمام بالعلم وتقنياته. ويصف قسطنطين زريق هذا التحوّل بقوله: (.. إن سلم قيمنا مقلوب رأساً على عقب؛ فالبطلان يعلو عندنا على الحقيقة، والنفاق على الصدق، وطلب الحق على أداء الواجب، والأخذ مهما يكن سبيله على العطاء، والأثرة على الغيرية، وشهوة التسلط على نزعة التعاون والتآلف، والتعلق برواسب الماضي على تحري مطالب المستقبل، والنزوع إلى الحرية العشوائية على الانضباط بروح المسئولية، هذه كلها وجوه لواقع مرير هو واقع تخلفنا الخلقي).. إنها - أيها السيدات والسادة - (النفس العربية المكبوتة) التي تتحول إلى (هرة تموء في الظلام) - كما يصفها محمد جابر الأنصاري.
إن الإشكاليات الاجتماعية تشبه شبكة المتاهة؛ فهي لن تجد مخرجاً منها إلا إذا تتبعت - وفق خط أفقي - كل مربع، وستلاحظ حينها أن الجزئيات المتفرقة - إذا استطعت ربطها بخط أفقي - تكون وحدة واحدة، حينها ستصل إلى مدخل البداية ومخرج النهاية. أعتقد أن التفكير في إشكاليات المجتمعات العربية بهذه الطريقة أقرب إلى المنطق، أو هكذا أظن.
ما أقصده أن إشكاليات كل جيل جديد هي ناتج لتراكم إشكاليات الجيل القديم، وقس وفق ذلك بطريقة استرجاع التراكم القبلي، ولو أردت القياس بالطريقة البعدية، فكل جيل ينتج جيلاً يشبهه.
التفكير بهذا المنطق لعله يخفف عقدة صراع الأجيال، عند بعض الأوصياء منا، فحركة الأجيال هي حركة دائرية لا تدرّج فوقي، ولعل الحديث الشريف وضح ذلك من خلال معيار الاختيار (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) وفي الأمثال، من شابه أباه فما ظلم، والابن سرّ أبيه، والمثل العامي (ضع القدرة على فمها تطلع البنت لأمها).
أعود لأقول إن إشكاليات جيل الشباب اليوم هي ناتج تراكم إشكاليات الجيل الذي قبله والذي قبله، وهكذا، لكن نسبة الزيادة أو النقصان هي التي تختلف عند الأجيال، تبعاً للوعي العام في الجيل نفسه وللقائمين على قنوات التربية والتعليم والثقافة، ولدور الوسيلة الإعلامية في تفعيل التوعيّة.
(يتبع )..
seham_h_a@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|