مساقات توظيف الأسطورة د. عبد الله الفَيْفي
|
ومرّ في المساق السابق أن أحمد أبا دهمان كأنما كان يرمز في نَصّه السردي (الحزام) وذلك من خلال اتخاذه عنصر الماء معادلاً للتحوّلات الاجتماعية التي جاءت على الثقافة العربية، منذ ركودها الذي ظهر عليه الإسلام إلى ركودها الذي أخذ المؤلف يحاكمه وينتقده، إلى المرحلة الجاهلية بقيمها الشعرية الضاربة، التي عبّرت عنها الآيات الكريمة
{وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} ..(الآيات). (سورة الشعراء، الآيات 221-227).
وقلنا: إن الشعر لدى أبي دهمان يأخذ وظيفة الماء، كما جاء في صفحة 76 من (الحزام). فالشعر إذن هو تلك المياه التي صعدتْ فجأة، وذلك المطر الذي تنزّل فحاصر البيوت.
لكن السارد يشير إلى تدخّل الشمس لإنقاذ القرية من تلك الكارثة، والشمس قد مُثّلتْ في عقائد العرب القديمة امرأة في يدها حزمة البرق، وكان من أسمائها لديهم: (أثرت)، أو (ذات الأثر)، أو (ربة الأثر)، إشارة إلى ما تُحدثه أمطارها من خير، أو ما يُعقبه نزولها من كوارث (1). وقد أشار (ول ديورانت) (2) إلى أن القمر في عقائد الساميين الأقدمين كان هو المسؤول عن المطر، تتضرع إليه حتى الضفادع، إلا أنّ الشمس حلّت محلّه، ومن هنا فإن أبا دهمان يبدو مستثمرًا هذه الأساطير القديمة التي تربط بين الماء والمطر والشمس من جهة، ومن جهة أخرى مستمدا ما رمزتْ إليه الشمس في التصوّف الإسلامي من الفيض والقدرة الإلهية؛ تلك الرمزية التي تسترفد نسغها من جذور الميثولوجيا العربية (3).
هكذا يمكن أن تتغلغل قراءةٌ وراء كلمات (الحزام)، لتضعها في سياقها من التراث العربي. ومن دون هذا سيُرى النص مليئًا بالطلاسم والمعمّيات.
وبتدخّل الشمس - كما قال - (تحوّلتْ القرية إلى أسرة واحدة وتحوّل الماء القديم، ماء أجدادنا، إلى ضوء). (ص75). وفي هذا ما يبدو إيماءة إلى التحوّل الحضاريّ الذي أحدثه الإسلام، في توحيده وعطائه.
وهنا يدخل الكاتب في مناقشة ما آلتْ إليه الثقافة الإسلامية في تطوّرها الأخير من خلال ما يعرضه من آراء حزام، والجارة العجوز، والأُمّ، والأب. أمّا حزام فقد عبّر رمزيًّا عمّا مرّت به الثقافة الإسلامية، بعد أضواء مائها، من انحدار غنوصيّ، هارب من مواجهة الحياة، يظهر ذلك في قول السارد:
(إن أوّل قصة حُبّ بين رجل وامرأة وقعتْ في القرية ذاتها، وقد استعذب الناس الحبّ وعشقوه إلى أن تسامى بعضهم واختفى إلى الأبد). (م.ن). مشيراً إلى تدخّل الشمس مرة أخرى لإنقاذ الحُبّ وإنقاذ الإنسانية، (حيث أحالت الحُبّ إلى قوس قزح). (م.ن). أي إلى أرضيّته الأولى وواقعيته.
وكانت شخصية حزام تمثّل وجهة نظر (براجماتية) عملية، إذ كان يرى أنّ قيم العمل هي المنقذة لحال القرية، حيث يقول للفتى: (إن كنتَ فعلاً تريد معرفة رأيي الحقيقي في هذا الموضوع، فهو أنّ زراعة الأرض هي التي تمنح النساء والرجال أشكالهم وألوانهم، وتمنح الأشياء جمالها وبهاءها).
في حين كانت أُمّ الراوي تتبنّى موقفاً سلفيًّا - إذا جاز القول - فهي تؤمن
(بأنّ الشعر وحده أخذ دور الماء ووظيفته)، (ص76)، ومن ثم فإنها ترى أن ابنها، الواقع في شَرَك الحُبّ بقوس قزحه، (ما زال صغيراً، وللتوّ أرسل آخر أسنانه الحليبية إلى عين الشمس، وما زال أمامه أمدٌ طويل للعذاب والألم). (ص77). لأنّ الأمّ هنا تمثّل الرأي المتمسك بقيم الماضي، في انتظار معجزاتٍ ما تهطل مستقبلاً. بينما تنصحه جارته العجوز - وكأنها ترمز إلى الحضارة الغربية - باصطناع تميمة للتخلص من جنونه بحبّ قوس قزحه. (ص76). أي بنفض غبار ذلك الحبّ الجنوني للماضي وقيمه. وأمّا الأبّ فقد رأى خلاص ابنه من عشقه في الصلاة في المسجد المجاور لبيت الحبيبة. أي في اتخاذ الأسباب الدينية إلى الأهداف الدنيوية. وهو ما اتّجه إليه الغلام (الرواي) وبالغ فيه، حتى لقد (ذهب أبو قوس قزحه - كما يذكر السارد - إلى أهله ليحدّثهم عن (إسلامه) بقلق عميق وأكّد لهم أنّه مصاب فعلاً في عقله وأنّ عليهم معالجته والاهتمام بحالته). (ص77). الأمر الذي دفعه إلى الانصراف عن هذا الاتجاه، للسعي إلى محبوبته عبر مغامرات حماسية أخرى، أدّتْ إلى سقوطه، الذي صوّره من خلال سقوطه عن ظهر أتانه بين حوافرها، أمام أهل القرية، وأمام معشوقته نفسها! وكالعادة، كانت أُمُّهُ تنصحه، من مغامرة فاشلة إلى أخرى، بالتمسّك بالغِناء - (الشيء الوحيد الذي كانت ترى أنه يُجيده تماماً ولا يمكن أن يسقط فيه)، (ص78) - وذلك بهدف الوصول إلى قوس قزحه، أي التغنّي بالماضي وقِيَمِه. على حين كان حزام يخالفها الرأي، إذ يعتقد أنّ على البطل (الحاكي) أن ينطلق برؤية واضحة، مستقلة، لا في مغامرات غير محسوبة كتلك، فيقول: (أعرف أنك تجيد الغناء لقوس قزح، لكن لكي تصل، يجب أن تكون قادراً على رؤية الشمس في عزّ الليل). (ص78 - 79).
كيف سيرى الشمس في عزّ الليل؟! يقول له حزام (ص79):
(الشمس والقمر كانا أوّل زوجين على وجه الأرض، على الأقلّ هذا ما يُحكى لنا، الشمس كانت الزوجة والقمر الرجل. أحبّا بعضهما عميقًا. ولأنّ الحبّ كان هو الضوء الوحيد على وجه الأرض، ولأنهما استنزفاه فقد تحوّلتْ الأرض إلى عالم من العَتْمة. عَتْمة لم تحل دون أن يرى كلّ منهما الآخر، ولا أن يريا ما حولهما. وأنجبا عدداً هائلاً من الأطفال، ومن كلّ الألوان، لكنّهم يولدون بأعين مُغمضة. ولإنقاذ أطفالهما والأرض معاً، قرّرا أن يعيدا إلى الأرض جزءاً من النور. أراد الأب أن يقدّم هذه التضحية. لكنّ الأمّ ذكّرته بأنّها هي التي استنزفتْ أغلبيّة النور وأنّ من الأفضل أن يتقاسما هذه المهمّة. هكذا يا ولدي ترى أنّ هناك ليلاً ونهارًا. كانت أُمُّنا تُرضع آخر أطفالها. ومنذ أن أصبحتْ هي الشمس استمرّتْ في إرضاع ابنها وهذا ما يبرر وجود قريتنا هنا قريباً من الشمس. وهكذا ظلّت على هذه الحالة. أحياناً تختفي فيعتقد الناس أنّ كارثة وقعتْ. في حين أنّها تهبط بيننا كأُمّ حقيقيّة، تُرضع طفلاً - وتفضّله صبيًّا، وأحياناً نادرة
ومن هنا يحيل أبو دهمان إلى ذلك الاعتقاد الأسطوري العربي العتيق - المشار إليه من قبل - حول علاقة الأنوثة والأمومة الرامزة للخصب بالشمس عند العرب. تلك العلاقة التي تولّدتْ عنها مادة لغوية وتصويرية مازجتْ اللسان العربي والشعر العربي، مما سبق للدارس أن بحثه باستفاضة في كتابه (مفاتيح القصيدة الجاهلية). وعليه يتضح أنّ أبا دهمان قد وظّف الأسطورة ليعبّر عن مرور الكاتب - بوصفه نموذجاً للحضارة العربية - بمرحلتين من حياته، أو من حياة السارد: تلك المرحلة التي كان فيها يرتبط بالقرية، التي يجسّد علاقته بها من خلال علاقته بحبيبته فيها - (قوس قزحه) كما يسميها (ص76)، أو بمدلول آخر: امرأة القرية - الرامزة إلى الأرض والخصب والحياة في القرية.
وهذا سيكون مدار المساق الآتي، بمشيئة الله.
aalfaify@hotmail.com
****
1- ينظر: سفر، فؤاد، ومحمد علي مصطفى، (1974)، الحَضر (مدينة الشمس)، (العراق: مديرية الآثار العامة- وزارة الإعلام)، 43؛ جواد علي، (1973)، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، (بيروت: دار العلم للملايين)، 6: 169
2- ينظر: (1949)، قصة الحضارة، ترجمة: زكي نجيب محمود (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر)، 1: 102- 103
3- ينظر مثلاً: الفَيفي، عبد الله، (1999)، في بنية النص الاعتباري (قراءة جيولوجية لنبأ حيّ بن يقظان: نموذجًا)، (مجلة (أبحاث اليرموك)، جامعة اليرموك، الأردن، م17، ع 1، ص ص9-52)، بخاصة ص21- 22
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|