كَرِّمُوه وهو يَسعى بينكم..ناشراً إبداعه شِعراً وفكراً
|
لسانُ أمَّته ووجدانها وقيثارتها في أفراحها وأحزانها، ميزته تجربته الشعرية في حركة الشعر السعودي المعاصر، فتسجيله التجربة الشعرية ينطوي لديه على أبعاد خاصة، إنه استاذنا الشاعر إبراهيم الدامغ، كتبتُ عنه شعراً مستحثاً نشرتْ صحيفة الجزيرة منه قصيدتين، وحين فكَّرتُ بكتابة هذه المقالة وجدتُ صعوبة ووقعتُ في حيرة، إذ لن اكتب عن شعره دراسة نقدية لأني لا أمتلك أدوات الناقد، ولن أكتب في سيرته الذاتية لأن مقالة صحفية لا تتسع لذلك، وإن كنت أعلم من سيرته محطات كثيرة، بل وأحسب أني أعرف عوامل مؤثرة في تجربته الشعرية قد يكون بعضها خافياً عن غيري. لهذا ولذلك فضلت أن أكتب عن تأثيره الشعري عليّ كأحد طلابه وقرائه وإن كنتُ أحسبه غير راضٍ تماماً عما اكتسبتُه من تجربته الشعرية.
حفظتُ له قصيدة أمَّاه ليتك تسمعين فرأيتُه يتَّقد حماسة حركت العرب نحو ساحات قضاياهم في الجزائر وفلسطين فارتوت نفسي منها ما أحسبه كوَّن مشاعري وأحاسيسي، وسمعتُه يقدِّم حفلات المتوسطة الأولى (متوسطة ابن صالح حالياً) قبل عقود أربعة فيربط بين فقراتها شعراً ويلقي من شعره ما صداه لم يزل يرن بأذني حتى الآن، فكان قمة يتطلع إليها من السفح طفل معجب ما تجاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً، فتبلورت ذائقتي الادبية وتخيلت اني اقف إلى جواره يوماً ما، وهكذا صار لي المثال والنموذج، أترسم خطاه وأقرأ له ما استطيع الحصول عليه قبل أن ينشر شرارة ثأره، وتسير بي الأيام لأعمل بعد سنوات عشر في المدرسة ذاتها فأكون زميلاً لأستاذي قريباً منه.
عرفته عن قرب أستاذاً وزميلاً أتحين حصص الفراغ لمجالسته ولسماع شعره وأقرأ له ما يخصني أحياناً بالإطلاع الأول عليه من إنتاجه الشعري أو بما يريد نشره في حينه، ولذا لدي كثير من شعره غير المنشور، استثرتُه مراراً لتجود قريحته بما يناسب المؤثِّر فتجاوزه مرات ليثبت لي انني اتسلق جبلاً واتطلع إلى قمة، وما زلت معه في ذلك حتى خصني وزميلي الشاعر إبراهيم الشوشان بجلسات أدبية كلَّ ليلة جمعة لمدة قاربت السنوات الأربع كان يلبي دعواتنا الخاصة، فسمعنا منه روائع كثيرة، وكتب أخرى مستثاراً مني أو من أخي أبي منصور الشوشان ببيت أو بيتين من الشعر، فكان يتحفنا بليلة جمعة تالية بقصيدتين إحداهما لا يطاق سماعها لقسوتها علينا والأخرى لا يكاد يصدِّق قارئها أنها جادت بها وبسابقتها قريحة واحدة، كان يمزق الأولى في جلستنا ويزودنا بصور من الثانية.
أدركتُ منذ وعيتُ الشعر فميزتُ غثه من سمينه اني أقرأ لشاعر متميز في معجمه اللغوي وفي أسلوبه الشعري وفي موضوعاته، فبصرته بحراً حينما زاملته في مدرسة واحدة وحينما خصني بجلسات أدبية خاصة، وحينما أحسست أنه يسعد بزياراتي له في مزرعته، يُسْمِعني فأطرب مرتين لجمال قراءته وإلقائه ولحسن شعره وجودته، يزودني بصور من روائعه أو بأصول بعضها بخطه الجميل المتميز بمداده الأخضر موحياً لي ولغيري أنه يتجدد وينمو، لطالما حدثني عن ملحمته عن خالد بن الوليد وما يبذله فيها من استقصاء تاريخي ومعاناة شعرية ويؤمِّلني بانتهائه منها وما زلت انتظر ذلك، يسمع مني شعري وإن كان لا ينتقده ولكني أعرف من ملامحه ما استجاده وما لم يكن كذلك.
سمعتُ منه واستقرأتُ ما أحسبه مؤثرات في شعره في حياته الاجتماعية وفي أوضاعه المادية من حرمان أو كفاف، وكم تمنيت لو كانت الأمة ترعى مبدعيها أمثاله ليتفرغوا لإبداعاتهم وإن كانت ظروفهم تكون أحياناً دوافع لإبداعاتهم. عرفت منه أسباب عدم نشر شعره مع غزارة إنتاجه إذ كان يجد من مراقبي النشر في وزارة الإعلام آنذاك ما يجعله يأنف عن تقديمه لفسح نشره من خلال فحص من يراهم أدنى من فهمه وتقويمه، وتبينت أن ابتعاد الصحافة عن نشر إنتاجه إلا نادراً لتخوفهم مما يحتويه من رمز أو من شفافية ربما أزعج الصحيفة الناشرة له، كما اتضح لي أن النقاد الذين عاصروه مطلع شبابه ما هم إلا شعراء أو متذوِّقون وقع بعضهم بدراسة شعره موقعاً لم ينفلت منه إلا وقد وجد منه مواجهة عنيفة جعلتهم لا يكررون دراسة شعره، كان يلمح بذلك وبأنَّ تلك السنوات ويعني بها ما قبل العقد الأخير من القرن الهجري السابق أن الشعراء المبدعين سبقوا مجايليهم من النقاد لذلك ما كان دارسو شعره بمستوى دراسته دراسة نقدية إنما كانت كتاباتهم انطباعات متذوِّق أو شاعر لا ناقد يمتلك خصائص النقد وأدواته.
عجبتُ كغيري لماذا لم يكن الشاعر إبراهيم الدامغ عضواً في مجلس إدارة نادي القصيم الأدبي؟ بل لماذا لم ينشر له النادي بعض مجموعاته الشعرية؟ ولماذا مشاركاته في أمسيات النادي الشعرية تعدُّها أصابع اليد الواحدة؟ ولعل الإجابة المستنتجة هي أنه بإبداعه وبمكانته الأدبية يستحق أن يسعى إليه من قبل النادي فهو يرى ونحن كذلك أنه السابق والأسبق من أولئك في ميدان الشعر والأدب، وأنه صاحب ريادة ومبادرة بنشأة أول نادٍ ثقافي في المنطقة إن لم يكن في المملكة وقبل نشأة الأندية الأدبية بعقود ثلاثة حين أنشأ وزملاؤه نادي عنيزة الثقافي بداية السبيعينات.
أتساءل كغيري، هل ننتظر أن تتوقف تجربة إبراهيم الدامغ الشعرية -أمد الله بعمره- لنعترف بريادته وإبداعه وبمكانته ودوره في حركة الشعر السعودي المعاصر، ومن ثم تقوم وسائل الإعلام بدورها في إبراز ذلك وتكريمه، ويقوم النقاد ودارسو الأدب بدراسة إنتاجه، فيجد النقاد الأكاديميون في شعره موضوعات لأبحاثهم ويوجهون طلابهم في الدراسات العليا لدراسته برسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراة؟! لماذا لا يجد ذلك ويراه وهو ما زال يعطي؟، لماذا لا يطرح تجربته أمام مشاهديه بدعوات خاصة من وسائل الإعلام على اختلافها؟ لماذا لا يدرس شعره بالاستعانة به لكشف مؤثراته واكتشاف تأثيراته؟، واختتم تساؤلاتي وأمنياتي بنداء شعري ناديته به قبل ثلاث عشرة سنة:
عُدْ إلينا يا شاعرَ العُرب رَمزاً
ويَقِيناً يمحو شكوكَ الزمانِ
الغَضَا يَسألُ النَّقَا والرَّوابِي
عَنْك فَاسْمَع إذ تَشْتَكِيكَ المغَانِي
لا تدَعْها فَعُد إليها بِعَزمٍ
دامِغِيّ يَروي فَمَ العُنْفُوَان
قَبَساً من شَرارة الثَّأر يَصْلَى
بشُواظٍ مَعَاقِل الطُغْيَانِ
عُدْ فَلَمْ يَبْقَ في البَيَادِرِ كِدْسٌ
أكلَ القَحْطُ مَا بِها والتَّوَانِي
* عنيزة ص.ب 789
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|