الشاعر العملاق الذي اختزله الزمن الرديء إبراهيم منصور الشوشان*
|
حيثما تشتمل الشرارة بالبيدر.. ماذا بقي..؟!
لم يبق شيء..! وبقي كل شيء..! لقد انطفأت الشرارة، فلم يقدّر لها أن تصير شعلة، وقيل كوني برداً وسلاماً على البيدر، فهو أحق بالبقاء، وأنت أولى أن تترمدي لأن البقاء (للأصلح)..!
يقول أبو محمد وهو يحدو (موكب الحرية).
عرش البقاء، عقيدة وفداء
وفم الخلود عزيمة وإباءُ
ومواكب التحرير في إشراقها
لبني المسيخ هزيمة وبلاء
يا طارق الظلماء، عذرك سافرٌ
وجميل طبعك خسة حمقاء
وطنين صوتك بالتلصص منكر
عرفته فيك مراغه هوجاء
يا اخطبوط النائمين، أما كفى
نبح الكلاب شتيمة نكراء
فلئن رفعت عقيرة موبوءة
شهدت على آثارها الغبراء
وضربت ضربتك العقيمة ناقماً
وتنكرت لنكيرك الدهماء
فلسوف تلقى من بني آبائنا
سيف القضاء تصمه الهيجاء
ولسوف تثأر يا دعي لأمسنا
...... الخ (شررة الثأر) ص: 11
لم تكن الأمة مهيأة، لأكثر من النفخ في (شرارة الثأر) لزوم بقاء حالة التشظي بينها وبين العالم، وإبقاء لحالة التوتر بينها وبين بعضها البعض، ليس أكثر من ذلك أما حمل شعلة الثأر فيقتضي الأخذ بأسباب القوة مع الإصرار والترصد وإكمال البناء بروح الفريق الواحد.. فيا أيتها الشرارة اللعينة الممقوتة، لوذي بأقصى زاوية من زوايا النسيان، واختبئي فيها، وكوني كما شئت، كوني شعلة، كوني لهباً يتراقص كألسنة السعالي في الأقبية المظلمة..!! فلقد أشرقت الشمس على البيدر، فبدى تحت أشعتها كبساط من عسجد..!! هللويا.. هللويا..!!
(الشاعر والشمعة والعاصفة)
لم ألمح الشاعر إبراهيم الدامغ إلا مشتملاً بعباءة الحزن، شأن من اصطفي لحمل هموم العالم، فكأنما لم يفتر له ثغر الحياة بابتسامة، ولم تهمس له شفتاها يوماً ما بكلمات الرضا، حتى أصبح غاية باجتماع شمل الهموم، وتكالب الأحزان، لقد احترقت أصابعه وهو يشعل شموع الأمل شمعة شمعة، فما أن تشرق أساريره إعلان فرح بانبثاق النور من قلب الشمعة المحترق حتى تداهمه عواصف الأرزاء فتسلب منه البسمة والضوء مبقية له الحرقة والخيبة، فيعاود الكرة تلو الكرة، ويوقد الشمعة تلو الأخرى وهو يردد:
وبات يريني الخطب كيف اشتداده
وبت أريه الصبر كيف يكون
هذا لأنه يريد أن يستشهد بأقوال غيره، ولو استشهد بقوله لكان أوفر صدقاً: يقول من قصيدته: (أنا والحياة):
أنا والحياة كما يشاء لنا القدر
خصمان لم يبرح مواكبنا الخطر
أستل سيفي ناقماً من كيدها
فأرى مطاعنها بقلبي لا تذر
كم ذا أراوغها، وأطلب بعدها
فتثور من خلفي وتهزأ بالحذر
تجثو على بويلها وعذابها
وتضج في أعماق نفسي بالكدر
إن جئت يوماً خاطباً لي ودها
صرخت ملوحة برمسي المنتظر
حتى يقول:
المدلجون بكل فج أخصبوا
وأنا من اللأوى أهوم في سقر
لا تحزن أبا محمد فلعل أكثرهم ممن يعنيهم دعبل الخزاعي بقوله:
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحداً
(شرارة الثأر) ص:69
(الرجل الذي ابتلعه أقيانوس الشعر ثم رماه سهماً نارياً على شاطئ الحياة) كان الناس يرون الرجل وهو يسير وئيداً قرب الأقيانوس، كان هناك مشهد مثير للانتباه، فليس هناك اتساق بين حركة قدمي الرجل الوئيدة وبين ما يلاحظ أو يتراءى للناس، وكأن بركاناً يتفجر في قمة هامته..!! لحظة رمى نفسه بدون سابق إنذار نحو الأقيانوس..!! لكن هناك أناساً شهدوا بأنه لم يرم نفسه، بل إن موجة عاتية برزت من بين الأمواج فالتقمته..!! وبقي في اللجة ما شاء الله له، ثم قذفه الأقيانوس نحو شاطئ الحياة وهو ملتهب كالسهم الناري..!! من يومها كان هذا الرجل، السهم الناري يحرق كل من يقترب منه..!!
حين كان يصارع أمواج الأقيانوس لم يتخل عن تلاوة ما كان حفظه في عالم وعيه من أدعية وتسابيح، ولما تبلغ بسحر البيان، واشرأبت ملكته الذائقة إلى الترنم، أخذ يستعيذ برب الشعرى من عيب القوافي ولحن القول..!! فما خرج إلا وقد تطهر وتعمد بماء الأقيانوس، فبرز (دامغة) لا يرى في الخصوم إلا ضعيفاً يقاوي أو قصيراً يطاول..!!
يقول أبو محمد في مطلع مقدمة الديوان الثاني الموسوم ب(ديوان ظلال البيادر) وهو يشير نحو بعض النقاد الذين تناولوا ديوانه الأول:
(فصار لكل لسان أهوج مقرور بحمى التسلط والإقناع الفج الذي لا يتكئ على قاعدة ولا يستند إلى واقع صولة وجولة في ميدان متكدس بالغبار والوحل، حيث أصبح لكل راكب متن أثير، وبردعة وثيرة تزل بصاحبها فتهوي به إلى الحضيض، وكأنما خلق لها، وخلقت له، لينفق تحت حشوها غير مأسوف عليه)..!! هذا نثره رأس حربة وشذرة سيف فكيف بشعره..!!
ولكن دعونا ننصت إلى ما يقوله هو في تعريفه للشعر، يقول أبو محمد: وهو صاحب قول فصل: (الشعر، شمعة وزهرة، والوحي نور وعبير، والإحساس المرهف الدقيق إشراق وجمال) ثم يقول: (الشعر في نظري ما أطرب الأذن المرهفة المتذوقة، وأخرس الألسن الناقدة، وجرح المآقي الراقدة، وأدمى القلوب الوالهة، ووحد القوى، وألهب المشاعر) من مقدمة (شرارة الثأر) ص: 7-8
حيهيعلا.. أبا محمد.
ترى، هل شاعرنا كان يمسك بصار تلك السفينة الغارقة؟ هل بذل جهداً كي يجنبها ذلك المصير المحتوم؟!! وهل نستطيع أن نمنع أنفسنا دون أن تذهب حسرات في أثرها، وهي:
في موجها يقتاتها الماء
وشراعها للبين مرساءُ
تطفو وتطوي في صلابتها
ليل البحار وليلها الداء
هوامة حوامة أبداً
لم يحوها في الأرض ميناء
ثم:
فثوى عليها الحظ غارقة
وقضى لها بالموت إرساء
(شرارة الثأر) ص: 17
ومع أن (رعشة الخطب) ص:18 (شرارة الثأر) تهزه هزا.
إلا أنه يظل في (معبد الجمال) ص: 20 (شرارة الثأر) متبتلا
ثم تراه في قصيدة (أبو القروح) والتي يرسلها دعابة مليئة بالسخرية الأليمة تذكرك بالشاعر المتفلسف الصافي النجفي ثم تطل عليك قصيدة (نجد) ببهائها، فتذكرك بقصيدة متأخرة للشاعر معالي الدكتور غازي القصيبي تلك القصيدة الرائعة:
نعم، نحن الحجاز ونحن نجد
لنا مجد هنا وهناك مجد
لكن قصيدة شاعرنا الدامغ لها السبق في الزمن وأظن أن لها السبق في الرهان، وشاعرنا تغنى - رغم ما يعانيه - ولا إبداع بدون معاناة - أقول لقد تغنى شاعرنا الدامغ (بالشباب) و(بالأمل) و(الحياة) ولكنه يبدع في تصوير المعاناة، اقرأ قصيدته (اليتيم في العيد) وقارن بينها وبين قصيدة معروف الرصافي ثم ما خطه يراع الأديب المنفلوطي ستبهرك مقدرة الدامغ المتميزة. ثم اقرأ قصيدته (شاعر البؤس) (شرارة الثأر) ص:137، حتى وصل به الأمر إلى التفكير بالانتحار قصيدته (لم لا أنتحر) شرارة الثأر ص:74، إنه شاعر قلق والقلق هو وقود الإبداع.
ولكن ما أسرع ما يعود سيفاً مصلتاً وروحاً وثابة حينما يستفزه أحد المتجاسرين فينفجر كالبركان رافعاً راية الشعر عزيزة مهابة فيصدع بصوته كأنما تسمع جلجلة أبي الطيب المتنبي، يقول الدامغ من قصيدته (سلاحي لساني) شرارة الثأر ص:116
سلاحي لساني، والأساطيل من فمي
وسيفي جناني والأهازيج لهذمي
أروي بها هام العدى غير هائب
وأروي بها زند الكفاح المعلم
إذا قلت يوماً طأطأ الدهر سامعاً
وفي راحتي ما يصلت البأس من فمي
فلا السيف والبارود يروي كمنطقي
ولا قاذفات النار تضري كمحكمي
كل هذا، ثم تأتي تلك القصيدة الراقصة، (في المنحنى) شرارة الثأر ص:138 فنتهادى على نقر إيقاعها ونطل من أحد تخوم زوايا الشارع لنسترق النظر لعلنا نرى ما لا تقر معه بلابلنا ولقد فزنا ببعض من ذلك. لكنه قول شاعر فما أعذبه.
وتصافحنا أو نصافحها تلك القصيدة التي ارتبطنا بها عاطفياً حيث ما زالت قلوبنا غضة وكنا على مقاعد الدراسة كانت ضمن مقرر كتاب الأناشيد الصف السادس الابتدائي كنا ننشدها فرادى أو مع بعضنا تلك هي قصيدة (سنعود) هي أول نص أدبي يلهب مشاعرنا الوطنية الغضة، كنا إضمامة من التلاميذ الصغار في المدرسة السعودية وكان من يقوم بتدريبنا على أداء النشيد هو الأستاذ الفاضل متعه الله بالصحة والعافية محمد بن محمد السلطان (أبوسلطان) وما أدراك وهو محب للشعر والأدب يحفظه ويتغنى به وكما قيل الكريم طروب وإضافة إلى دماثة خلقه ومروءته فقد أوتي صوتاً لا يدانيه صوت طلاوة وعذوبة، وكانت هذه القصيدة من أفضل القصائد التي كان يحفظها لنا ويشجعنا على إنشادها والتغني بها فهي قصيدة تزخر بالمشاعر الوطنية وصور التضحية والبطولة والفداء.
إن العيد بلا حب ولا وطن هو مأتم الأحزان، أقرأ قصيدة (عيد بلا حب) فأنسى أنني أقرأ لشاعرنا الدامغ وأحسب أني أقرأ إحدى قصائد بدوي الجبل إنها الديباجة الرائعة، ومثلها (قالوا صبأت) وكلاهما من (ظلال البيادر).
ومن قالوا صبأت:
قالوا صبأت، فقلت لو عرف الهوى
أني على عهد الوفاء لأورقا
فعلى أديم فجاجة غلب النوى
شفقي، وأنهل بارقي فتدفقا
ما كنت أعرف أن من وخذت به
عقباؤه نحو المراح قد اتقى
فلكل أمر من عوارف نجمه
ما يستهيم به الفؤاد تألقا
إنه روعة البيان وفن الإبيان.
لكن من أين للشاعر أن يغفل عن مطالب الحياة المستجدة وضروراتها، فها هو يخاطب مدير بلدية عنيزة فيتشفع إليه بالشعر وهو من هو أبو عبدالعزيز عبدالله العبدالعزيز البسام هو قامة شهامة ومروءة ونبل - ولا أظنه إلا شفَّعه - يقول أبو محمد:
أبا عبدالعزيز ظمأت حتى
تملكني من العطش الذهول
ثم ما أروع ما جادت به قريحته في قصيدة (قالوا الجزيرة) من ديوان ظلال البيادر فإن بها كل أنفاس عمالقة شعراء العرب كأبي الطيب والبحتري وشوقي وبدوي الجبل.
وما أحلى قصيدته (مداعبة) وما أمرها، ولم يترك (حمام منجاب) حتى يعرج على هذا التعيس في قصيدة (مهوم منجاب) ويوجهه إليه لكي يتعمد به وينهي ذلك بقوله:
يا أيها الغول ما أدراك عن فنني
الطير للروض والغيلان للغاب
حين أقرأ قصيدة (حنانيك) فلا أستطيع إلا أن أسبل جفني على وامق يشكو من الدمع حرقة فما بقي له إلا الرجاء واحتساء الصبر.
ولا أظن إلا أن ابن الرومي وأبا العلاء المعري كانا سيتخاطفانها لو كانا على قيد الحياة..!
وهذا الشاعر رغم نفسه المرهقة فإنه منشغل بالوطن وكل ما يمت إلى العروبة والإسلام بسبب فهو وطني وعروبي وإسلامي، أقرأ قصيدة (حائل ملهمة الأمجاد) من ظلال البيادر ص: 83
وننهي هذه الإطلالة بقصيدة مناجاة بعنوان (رباه) وهي تهويمات بالذات الإلهية وتوجّد والتماسات يتجلى فيها إيمانه ويقينه بأبهى درجات التجلي، يقول:
رباه كم لك في الخليقة من يدٍ
تولي وتمنح دونما اقتار
أنت الكريم وفي رحابك مطمحي
فامنن على بعصمة الأبرار
وافتح فؤادي من رضاك مناعة
فلقد أشاح بنكسة وعقار
عصفت به الأقدار وهي حقيقة
فطوت شقائق روضة المعطار
وجرت بزاهره إليك محبة
فنفحته بعطائك المدرار
إلى آخر القصيدة.
ونعود إلى عنوان المقال: إبراهيم الدامغ - الشاعر العملاق الذي اختزله الزمن الرديء.. نعم، إن هذا الشاعر الملهم الغارق في جمارة الشعر إلى منابت هامته أصدق ما يقال عنه إنه قد اجتمعت له وبه بلاغة وبيان كل عمالقة الشعر العربي ففيه من أبي الطيب المتنبي والبحتري وابن الرومي ومن المعاصرين، فيه من أحمد شوقي وبدوي الجبل وإلياس إلى شبكة وعمر أبو ريشة.
ومن الأولى لهذا الشاعر الفذ أن يأخذ مكانه بين عمالقة الشعر العربي المعاصر فلو كتب له أن يعيش في أي حاضرة من حواضر الثقافة العربية في فترة الستينيات أي لو كان مقيماً في القاهرة أو دمشق أو بغداد أو بيروت لكان نداً للجواهري والسياب ونزار قباني وعمر أبو ريشة وصلاح عبدالصبور بل لعله يكون نسيجاً وحده لا يطاوله من شعراء العصر مطاول.
إنني أغتنم هذه الفرصة التي بها تم تشريفي بالمشاركة بالكتابة عن هذا الشاعر بأن أدعو من خلال هذا المنبر الثقافي جميع النقاد والمثقفين محليين وعرب بإعادة قراءة هذا الشاعر ودراسة قاموسه اللغوي والمعجمي والبلاغي والتصويري الذي لا يكاد يتوفر عند سواه من كثير من فحول الشعراء، إن الولوج إلى عالمه الشعري متعة ذهنية وعاطفية لا تدانيها متعة، إن ديوانيه يضمان أزاهير أين منها أزاهير الشاعر الفرنسي الذائع الصيت (شارل بودلير) مع الفارق الكبير لصالح شاعرنا، إنها أزاهير فواحة بالخير والفضيلة والعطاء والمشاعر الإنسانية النبيلة.
* شاعر سعودي
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|