لن تسدل الستارة على ابتسامة المريخي
|
تناولت الأقلام التي أرجفها رحيل المريخي المبكر عطاءه المتميز في مجال المسرح، وأكدت جميعها أن رحيله المفاجئ شكّل خسارة فادحة لن تعوض منيت بها الحركة المسرحية في المملكة، وعلى الخصوص مسرح الطفل، إذ إن عبد الرحمن واحد من أبرز روّادها الواعدين، وأكثرهم عطاءً وانشغالاً بمسرح الطفل تأليفاً وإخراجاً ومتابعةً.
لقد لاقت أعماله المتميزة نجاحاً كبيراً، جعلها تتجاوز الحدود الضيقة للمسرح المحلي، إلى أفق أرحب، لقيت فيه الترحيب والتقدير، أعني دول الخليج التي سبقتنا في هذا المضمار.
يكفي عبد الرحمن من المجد أن استطاع بإرادة لا تقهر، ومثابرة لا تكل أن ينشئ مسرحاً من العدم، في بيئة ليس من تقاليدها المسرح، ولا تتوافر فيها أبسط شروط النجاح ومقوماته، فلا معهد يعنى بفنون المسرح، ولا منشآت أو مؤسسات مختصة تحتضن هذا الفن الرفيع والخطير، الذي أولته جميع الحضارات الإنسانية المبكرة والمعاصرة جلّ اهتمامها، نظراً لأهمية تلك التي نخصها شكسبير بمقولته: (إذا أردت أن تحكم على شعب فزر مسرحه).
مأثرة عبد الرحمن المسرحية أنه لم يأت إلى مسرح قائم أو أنه متخرج من معهد مختص، ولم يشب ويترعرع في بيئة تعرف المسرح، وإنما جاء هاوياً يحمل حباً واهتماماً بهذا الفن، فنمّى ذلك الاهتمام بالتثقيف الذاتي والمثابرة.
انطلق يُشّيد بعزم مسرحه معتمداً على هاوين راح يبحث عنهم في النوادي الرياضية، ومرتادي فرع جمعية الثقافة والفنون بالأحساء، التي تولى شأنها حتى رحيله.
واستطاع أن يكوّن من هذه الخامات الأولية والبسيطة مسرحاً انتزع احترام الكثير وتقديرهم.. هنا تكمن مقدرة المريخي ويبرز دوره!
سأترك الحديث عن تجربة عبد الرحمن المسرحية للمهتمين بهذا الشأن، فهم أكثر مني إلماماً ولديهم معطيات أكثر أهمية، فمتابعتي للحركة المسرحية لا تتجاوز قراءة بعض الأخبار في الصحف رغم إدراكي لأهمية المسرح ورسالته، ومعلوماتي محدودة وقاصرة لا تخولني الإدلاء بشهادة تشكل إضافة إلى ما كتب وما سيكتب عن تجربة المريخي، لكن سأدلي بشهادة قد تضيء جانباً آخر من مآثر الراحل واهتماماته.
وهذا بعض ما يحتمه الواجب تجاه هذا الرجل الجميل وذكراه العطرة.
عام 1982م عندما كنت أعمل في جريدة اليوم اتصل بي الراحل هاتفياً دون سابق معرفة عارضاً اقتراحاً بأن يقوم بجمع قصصي التي نشرتها على صفحات المربد (الملحق الثقافي بجريدة اليوم) ليعاد نشرها في كتاب تتولى جمعية الثقافة والفنون فرع الأحساء نشره. قائلاً: نريد موافقتك واترك الباقي علينا. وكما فاجأني باتصاله فاجأني بلقائه لأول مرة عصر يوم بالجريدة، كان يحمل ملفاً وابتسامة رائعة تضيء أسارير وجّهه، سأحاول في خاتمة هذه الشهادة أن أرسم لكم تلك الابتسامة النادرة، قدّم لي ملفاً يضم مجموعتي الأولى: (شروخ في وجه الأسفلت)، التي تولى جمعها ونسخها، وترك إلي مهمة ترتيب قصصها. أرسلها إلى وزارة الإعلام لفسحها، ثم عمّد مطبعة بالدمام لأتمكن من متابعتها مع صديقه الحميم صالح أبو حنية. كما كانت إلتفاتته إلى قصصي كريمة ومشجعه، كانت أيضاً مكافأته المادية للمجموعة كريمة ومجزية.
التقيته قليلاً، لكن حضوره كان وسيظل كبيراً، فمثله لا يمكن النسيان أن يمحو ملامحه من الذاكرة، أو يطوي سجل مآثره.
كنت في عيد الفطر المنصرم بالهفوف فاتصلت بصديقه ورفيق دربه الفني عبد الرحمن الحمد، الذي رافقتني إلى منزله، لكن عبد الرحمن نقل ساعتها إلى المستشفى.
عَقَّبْ الحمد بحزن:
- لا أخفي عليك صحته في تدهور مستمر... سنفقده. خيّم صمت، استعادت الذاكرة خلاله تفاصيل تلك القامة الشامخة، وبعض مآثر ذلك الرجل النبيل.
شخصتْ أمامي تلك الابتسامة التي ظلت متشبثة بأسارير وجهه كعلامة فارقة.. كم هي مثيرة للدهشة! لم تستطع معاول الداء الخبيث أن تنقض نسيجها المتين، وما تمكنت جرعات الكيمياء أن تغير من طبيعتها الفذة، ولم تقلص موجات الألم العاتية والمتعاقبة مساحتها، ظلت في إنائها البلوري تتقد وتضيء غير مكترثة بالموت وهو يخفق حول سريره، وعندما أسلم روحه لبارئها تخطت تلك الابتسامة الموت وحلقت فوق رؤوسنا كإلهام يذكرنا بالدور الذي رسمه لنا لنلعبه على خشبة مسرحه كي لا تسدل الستارة، إنها لا تطالبنا بأخذ ثأر؛ فعبد الرحمن لا يطالب بدم أحد وإنما يطالب بدور، وتكريم مثل هؤلاء الرجال يتحقق بمواصلة مسيرتهم.
وما أجمل أن يخلد هذا الرائد بأن يخلع اسمه على مسرح مدينته، فكثير من مسارح مدن العالم تحمل أسماء مؤسسي الحركة المسرحية فيها أو مبدعيها.
وفي الختام أسأل الله الصبر والسلوان لمن عايش تلك الابتسامة وصاحبها عن قرب من الأهل وذوي القربى والأصدقاء.
عبد الله بن محمد حسين العبد المحسن
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|