أحمد منشي معقباً: (تَرِكَة السليم) بين مطرقة الضياع وسندان الهبات محمد المنيف
|
تطرقنا في عددين سابقين في مقالين مختلفين؛ أحدهما للمحرر التشكيلي مطالباً الجهات المعنية بالفنون التشكيلية بالاهتمام بالفنانين الرواد، ومنهم الفنان الراحل محمد السليم، وجاءت الإشارة في المقالة بالمطالبة بوجود متحف لمثل هذه الأعمال؛ حفاظا عليها من الضياع وتقديراً لأصحابها، ودلالة على مستوى الاهتمام الكبير الذي يجده الفن التشكيلي من الدولة ممثلة في وزارة الثقافة والإعلام. كما جاءت أيضاً في مقال للزميلة منيرة المشخص حول أهمية تكريم المبدعين قبل وبعد رحيلهم، وأهمية التكريم للأحياء مستشهدة ببعض الرموز المؤثرة في ساحتنا الإبداعية من مختلف مشاربها ومنهم الفنان السليم رحمه الله.. تلي ذلك تعقيب من الفنانة نجلاء السليم تضمن التعقيب واقع مرسم والدها ومحتوياته من لوحات ومقالات ومخطوطات التي أصبحت عرضة للغبار والتلف؛ حيث قالت: يزداد شعوري بالألم والمرارة كلما دخلت المرسم الذي لا يزال يضم كل ما يخص والدي الفنان الكبير الراحل محمد السليم، وما يحتويه من ثروة ثقافية أصبحت على مدى الأيام والشهور والسنين تقاوم، والتلف يحيط بها وكذلك الصمت والظلام والصمت المخيف بعد أن كان يتردد فيه صدى أصوات الفنانين والأدباء والمبدعين في الأيام الخوالي، لهذا نتقدم نحن أبناء محمد السليم إلى المسؤولين في وزارة الثقافة والإعلام أن ينظروا بعين الاعتبار لهذا الفنان بأن تتبنى الوزارة مشروع إقامة متحف خاص به وبمن هم على شاكلته من الفنانين الذين ساهموا في تأسيس الفن) بعد هذا الطرح وذلك التعقيب توالت الاتصالات لكثير من الفنانين مطالبين بتحقيق الرغبة في وجود متحف للفن التشكيلي، ومن بين تلك الاتصالات مقال خاص للناقد والفنان أحمد منشي، والذي أضاف الكثير من النقاط، وأكد على تلك الأمنية.. يسعدنا أن نستعرض ما جاء في مقالته؛ حيث يقول:
تعد المتاحف المكان الحافظ للموروثات على اختلاف مجالاتها وأشكالها وأنماطها،إذ تمثل فكر وثقافة الأمم على مر العصور والحقب التاريخية، ناقلة الصور الصادقة للحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية، لتكون منهلاً لإرتشاف الثقافات والتفاعل مع معطياتها تفاعلاً مثمراً لأحداث التغيرات نحو الأفضل، كسجل حافل يجسد لنا حقيقة تلك الحياة.. لذا تعد.. نبراساً يستضاء به، لحاضر مزهر وغد مشرق.. تتيح التواصل الفكري والثقافي، كثقافة متداولة ومتطورة ومتنقلة وبالتالي يساعد ذلك في وضع تصورات ورؤى موحدة، دون اللجوء إلى التسجيل أو النقل أو الاستنساخ.
لذا أرى أنه من الضرورة بمكان الإسراع في إنشاء المتاحف في جميع أرجاء البلاد بمختلف أنماطها.. وتخصصاتها.. لما في ذلك تحصين للفكر الإبداعي وتواصله بما يضمن وحدة رؤاه وتصوراته دون ابتذال، مما يسهم في تدفق الأفكار والمشاعر المتأصلة.
ونظراً لأهمية المتاحف والدور الذي لا يقتصر في حفظ ذلك الإرث.. كموقع هيئ للفحص والتنقيب والبحث لإحداث التغيرات في المفاهيم، فهي.. تسهم وبشكل كبير في البعد عن خلط المفاهيم والمصطلحات والفوارق النوعية في المجال التشكيلي؛ فصفة الفنان تطلق اليوم على كل من يقيم أو يشارك في معرض فني ضمن أطر تقنية محددة، في حين يجرد أصحاب الأفعال الفنية الجيدة من هذه الصفة لمن هم خارج هذا النطاق.. مما ساهم في تبني الأفكار الغربية بدوافع ذاتية للاعتراف بجواز شرعية تواجدهم على خارطة التشكيل الفني والالتحاق بالركب ما يتوهمون.. دون معرفة الاتجاه.. حيث إنهم لا يملكون بوصلة لتحديد توجهاتهم.. حيث اقتربوا من نقطة الضياع.. نتيجة لفقد الوعي.. أو اللاوعي أو بهما معاً.. فتواجد المتاحف سوف تتضح أهميتها ومعالمها بشكل جلي عندما تسهم في وصل ما انقطع.. وتتيح فرص الاتصال والتفاهم والتفكير المشترك.
فالمدنية كما نعلم قد جرفت الكثير من تلك المعطيات التي بكينا عليها.. وفي نفس الوقت فإن المدنية أيضاً قد فجرت أيضاً إمكانات أكثر عمقاً وغوراً داخل الإنسان .. فكانت الحاجة ملحة إلى أصحاب الاختصاص الدقيق لتجاوز الأزمات.. لمتابعة التحركات السريعة للإيقاعات السريعة والمتتالية للعصر.. حيث تمثل تلك الصروح .. مرجعية موثقة للباحثين والدارسين أصحاب الاختصاص.. وقد تفيد في عملية تصنيف الفنانين، وغيرها من الدراسات والبحوث.
فكم من مبدع معاصر فُقِد..؟ وكم من التركات التي لا تقدر بثمن قد فُقِدت..؟ فمن المسئول عن ذلك الفقد..؟ وكيف يمكننا المحافظة على تلك التركات الإبداعية..؟
وعند تصفح العالم من حولنا، نتلمس واقعنا الحزين.. فمتحف الخزف الإسلامي بالجيزة الذي شيد عام 1943م، بطراز معماري إسلامي، حيث أخذت تلك الروائع تتنفس في مجالها الطبيعي، ومتحف الفنان: بيكاسو المقام بمدينة (ملقا)، وهي مسقط رأس الفنان، وفي المقابل نجد الاهتمام بإنشاء المتاحف في مجتمعنا يأتي على استحياء، فعلى الرغم من أننا نعيش عصر تغيير المفاهيم وتقبل البدائل، نجد أنفسنا نعيش خارج نطاق العمل المؤسساتي للمنجز الثقافي، التي تمنحنا تأشيرة الدخول إلى عوالم البورصة التجارية للاستثمار الثقافي والفكري، وفي اعتقادي أن أمامنا ردحاً من الزمان لنعي معناه.. ومفهومه.. وأبعاده.. وهو أمر يسهم في تعميق أثر أبرز المحن التي يمر بها العالم الثالث (العالم العربي) على وجه الخصوص في أزمته الثقافية والفكرية، فمتى تتغير وتتبدل تلك المفاهيم بشكل حضاري؟.
إن التفكير في إنشاء متاحف خاصة للمبدعين المعاصرين قد غدت ضرورة حضارية تستوجب الشروع في تنفيذها لتلامس أرض الواقع بما يتلاءم والإيقاعات السريعة للعصر، في وقت قد لا يجدي فيه النحيب ولا البكاء على الأطلال..
فعلى سبيل المثال، الفنان محمد موسى السليم الذي أحزننا ما جاء في تعقيب ابنته على ما طرح بالمجلة الثقافية من أهمية تكريمه وأمثاله وما جاء في التعقيب من وصف لحال الإرث الذي أبقاه السليم، وهو أحد رموز الفن التشكيلي بالمملكة العربية السعودية، ورائد من رواده العصاميين، ناضل وكافح في سبيل تأسيس نقطة دخول إلى عوالم التشكيل الفني، خاض الكثير من المعارك الثقافية الفنية، ساهم في تبني المواهب.. كان هاجسه تأصيل هذا النوع الوافد من الفنون، فكانت (الآفاقية) الحاملة لخصائص روح إنسان الصحراء، منهجا بصريا اتخذه للتعبير عن الملموس للمحسوس، ولدعم المسيرة التشكيلية أنشأ عام 1979م مؤسسة دار الفنون السعودية، لتوفير أدوات ومواد الفن التشكيلي للفنانين، وفي عام 1980م افتتح صالة الرياض العالمية للفنون التشكيلية التابعة لنفس المؤسسة، لتشارك في تنظيم المعارض.. منح العديد من الأوسمة من أبرزها: قلادة الزمالة الأكاديمية من أكاديمية (النبلاء العالمية) للآداب والفنون الجميلة والعلوم في مجال التصوير الزيتي عام 1980م، كما منح الزمالة الأكاديمية مع شهادة الاستحقاق من أكاديمية (توسكانا) للآداب والفنون والعلوم في مجال الفنون الجميلة عام 1981م، كتبت عنه.. وعن إبداعاته العديد من الصحف والمجلات المحلية والعالمية بأقلام كبار الفنانين النقاد والمفكرين من أمثال البروفيسور رنسو فيدريتشي، وعميد أكاديمية الفنون الجميلة بفلورنسا، البروفيسور بريدو.
ترجل الفارس.. ورحل، مات .. وما ماتت مكارمه، غاب.. وما غابت محاسنه، جف دمه.. وما جفت منابعه، شجرة استظل بها المثقفون من وهج الشمس، قال كلمته تاركاً بصمته... وإرثه.. ورحل في هدوء.. فرثاه القريب والبعيد..تشكيليين .. أدباء.. مفكرين.. نقاداً..
هكذا شاء القدر أن يوافيه الأجل بعيداً عن تراب وطنه.. وهو عاشق ذلك التراب.. هكذا شاء الله أن يوافيه الأجل كريماً ومعطاء.. وهو أحد أبناء هذه الأرض المعطاء.. أهل الكرم والجود.
هكذا شاء الله أن يوافيه الأجل يشكو الفاقة.. وهو في ذاته.. يعد ثروة لا تقدر بثمن.. هكذا شاء الله أن يوافيه الأجل مخلدا في الذاكرة صرخة ولاء وانتماء.. وهو ابن معقل الولاء والانتماء..
هذا السليم.. وهذه مآثره.. وموروثاته من منجزات فنية، ومخطوطات، وأدوات ومواد فنية، ومتعلقات خاصة، فهل هنالك من يحفظ لنا هذه الثروة بكل معطياتها دون إفراط أو تفريط؟ كي يكون منهلاً يرتوي من سلافه أبناء الأجيال القادمة.. أم أننا كالعادة سوف نرتمي على الاطلال ناحبين.؟ فكم من ثروة فقدت ودثرت وذوت..؟ نتيجة اعوجاج في طريقة التفكير دون إدراك لقيمة.. الأشياء الفكرية والثقافية والأدبية والاجتماعية والاقتصادية.
وكي نخرج من هذا المأزق لا بد من العمل المؤسساتي أن يرتقي بفكره إلى مستوى الحدث، فلا مجال للهبات.. والتبرعات.. كيلا يكون هنالك تفريط لثروة وطنية فكرية وثقافية واجتماعية مبدعة، فإرث المبدع ثروة لا تقدر بثمن، وعلى الورثة إدراك قيمة تلك الثروة، وأهيب بأصحاب المؤسسات الفكرية والثقافية تبني مشروع إقامة المتاحف للمبدعين على اختلاف المجالات الإبداعية، فهل نعي تلك الضرورة أم مازلنا ندعي ذلك الإدراك دون حراك؟
monif@hotmail.com
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|