قصة قصيرة الإخشيدي في (الحارة) صالح أحمد القرني
|
يأتي من الدوام الممل نهاية كل يوم.. بداية كل شؤم.. لا يحب المكوث بالمنزل.. يحس بالاكتئاب.. يتغدى ثم يتمدد على فراش الهم الممزق يصحو قبيل مداهمة الظلام يخرج عند (سدة) الباب من.. أمامه عيال الحارة يمازحونه يضحك بعد جهد كبير يبتسم ببطء ينكس رأسه ثانية إلى أسفل والهم يعتلي مقلتيه تمرّ الحجّة السمراء لتلقي عليه السلام كأنه ليس موجوداً!
ثم ينتبه ويرد السلام.. تسأله عن أمه...
ليست موجودة.. ذهبت إلى الجيران.
شكراً يا ولدي
يمزقه الإحباط أشلاء متناثرة.. وتذروه الرياح في صحراء همه.. لم يتزوج بعد.. يأتيه مجموعة من أطفال الحارة يتحلقون حول رجل يبيع (آيس كريم النجاح) كما يأتي طفلان يحملان (صندوق بيبسي) (قارورة) ابتسم لهما!!.. وأخذها ودلف إلى الداخل ساخطاً على فشله في الحياة.. تذكر عندما كان يرسب في المدرسة.. تذكر فشله في اختبارات كثيرة تقدم لها بسبب الوظيفة تذكر فشله عندما أراد الزواج بابنة الجيران (فاطمة بنت الشيخ صالح).
ما بقي إلا أنت يا الأسود!!
سمعها من الشيخ نفسه إمام المسجد (لا فرق بين عربي على أعجمي إلا بالتقوى.. ) تشجع.. تأبط يد أمه للاقتران بابنة الشيخ تقدم.. لتعانق أذنه هذه الجملة...
والحديث عن (سامي) يطول ولكن سمعت العم محمد يقول:
بعدما دارت الأيام والسنون تدرج سامي بالمناصب إلى أن أصبح رئيساً في مجلس الشركة.. والكل يخضع له... والكل يتودد إليه.. أصبح السيد سامي...
ودارت الأيام والسنون وتدرج سامي في المناصب حتى أصبح يملك أكبر الشركات بالوطن العربي... وأخذت الأقاويل حوله تحاك من كل الفئات وخاصة (الحارة) لكنها ازدادت عندما انتقل عنها إلى (الفيلا) الجديدة.. يقال: إنه اختلس مبالغ طائلة.. ويقال إنه ورثها عن عمه الذي مات بأمريكا.. ويقال: إنه تاجر بالمخدرات ويقال: إنها من تجارة العقار ويقال.. ويقال..
لم يتزوج بعد.. رغم محاولات أمه أن يتزوج.. وهو يؤكد لها أنه سيتزوج قريباً! بلغ من العمر الخامسة والأربعين أو يزيد قليلاً وفي ذات مساء جميل من الليالي الشتائية المعتدلة في (جدة) مدينة العشق والجمال.. أخذت قدماه تحملانه الى حارته التي ترعرع فيها.. وصل الى البقالة ليجد نفراً من شباب الحارة القدماء على دكة قريبة من البقالة.. نزل من (الشبح) ذات اللون الأسود!!
انتفض أحدهم... توجه نحوه ليسلم عليه وقام الآخرون يقبلون عليه.. دخل البقالة سلم على عمه أبو خالد ليجد عنده الشيخ صالح.. انتصب الشيخ مرحباً بسامي:
يا مرحباً يا ولدي.. نورت الحارة
منورة بأهلها!!
سأله أبو خالد عن الزواج:
الظاهر يا (ابو خالد)..
ليقاطعه الشيخ قائلاً:
عندي وأنا أبوهندي.
والله ما تقصر!!
قالها بتعجب وسرعة ثم خرج مسرعاً نحو سيارته آمراً السواق ان يذهب به الى الكورنيش والدموع تنهمر من مقلتيه.. الدموع تهرب من الدفء.. وتغسل الاثم.. ينزوي خلف الذكريات.. الذكريات كالسراب بداخله.. عاد الى منزله بعد منتصف الليل ثملا من الاثم.. والحزن.. كأنه اقترف ذنباً عندما نكأ جراح السراب بداخله عندما توجه الى الحارة.. تذكر صندوق البيبسي.. وآيس كريم النجاح.. وفاطمة بنت الشيخ صالح..
دخل غرفته.. اقفل على نفسه الباب.. تمدد على اريكته.. رن التليفون لم يجبه ولم يرفع السماعة اطفأ الاضاءة.. تذكر عندما باع منزلهم في الحارة والأثاث المستعمل والاقبال على شراء الأثاث بأغلى الأثمان..
آه.. آه ليتني ما بعته!!
وليتني أبقيت جسدي هناك!!
لعلها تزوجت!! لا بل لم تتزوج وإلا لما يُعتزى الشيخ صالح بتزويجي!! وربما تكون أختها الصغرى!!
تذكر ابو ركبة عند ممازحته للغراب قائلاً له: نيلسون مانديلا تذكر الفوال الاسمر الذي به ملامح من محمد علي كلاي، عندما كانت ترسله والدته يشتري الفول والتميس (الملبلب) والطائفي.
تخيل نفسه أنه سيزف الى فاطمة قريباً والناس من حولهما والفرح يعم الحارة.. توقف الدمع.. دب في جسده الفرح.
مبروك يا سامي
الله يبارك فيك، وعقبالك
يبتسم للجميع.. محاط بكبار الشخصيات.. يحاول الابتعاد عنهم والالتصاق بأهل حارته.. يمسك بيد فاطمة ويده اليسرى تنطلق نحو جهاز التسجيل لتنبعث أغنيته المفضلة (جاني الأسمر جاني.. وافتكر زماني..) اطفأ جهاز التسجيل وتناول ديوان المتنبي ليقرأ مدائحه في كافور الأخشيدي.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|